هل الدولة قادرة حقّاً على ردّ ثلثي الودائع؟
ما وراء الأوهام
في الأشهر الاخيرة، تسارعت الترتيبات الرامية إلى تكريس أمرٍ واقعٍ: الدولة، لا المصارف، هي المسؤولة عن ردّ الودائع، وبالتالي مشكلة المودعين ليست مع المصارف وإنّما مع الدولة. هذه الترتيبات، في حال سُمح باستكمالها، لن ينتج عنها سوى أعباء إضافية على الأجيال الحالية والمستقبلية (تقشّف أكثر وضرائب أكثر)، في حين أن المسؤولين عن الأزمة يفلتون من أي عبء أو عقاب.
تصبّ هذه الترتيبات جميعها في خدمة هدف واحد: نقل خسائر مصرف لبنان، التي تزيد عن 60 مليار دولار، من ميزانيته إلى الموازنة العامّة، أي نقلها من أصحاب المصارف والودائع إلى سكّان لبنان جميعهم. بكلام أوضح: خسائر 5 آلاف شخص على الأكثر ستُحمّل لأكثر من 5 ملايين مقيم ومقيمة، معظمهم من الفقراء.
خسائر 5 آلاف شخص على الأكثر ستُحمّل لأكثر من 5 ملايين مقيم ومقيمة، معظمهم من الفقراء.يتوافق هذا الهدف مع الموقف الأساسي لجمعية المصارف، الذي عبّرت عنه منذ انكشاف إفلاسها في الفصل الأخير من العام 2019، ولا سيّما في الورقة التي نشرتها في أيار/ مايو 2020 تحت عنوان «مساهمة جمعيّة المصارف في تعافي لبنان المالي»، ردّاً على خطّة حكومة الرئيس حسّان دياب، والتي طالبت فيها بإنشاء صندوق استئماني للاستيلاء على أصول وإيرادات للدولة وتجييرها للمصارف كي تبقى قائمة ولو على شكل «الزومبي».
ما هي هذه الترتيبات؟
بدأت هذه الترتيبات بالظهور في شباط/فبراير الماضي، إذ عمد حاكم مصرف لبنان إلى تعديلات مفاجئة في ميزانيته. فبين ليلة وضحاها، سجّل قروضاً بالعملات الأجنبية على القطاع العام بقيمة 16.6 مليار دولار، وسجّل نحو 42.9 مليار دولار كـ«خسائر ناجمة عن تعديل سعر الصرف» يتوجّب سدادها من الخزينة العامّة. في الحصيلة، يصل مجموع المبالغ المُسجّلة في ميزانية مصرف لبنان كديون على كاهل الدولة إلى 59.6 مليار دولار، وهي تمثّل الخسائر المقدّرة في ميزانية مصرف لبنان والناتجة من عمليّاته مع المصارف والأرباح والفوائد الفاحشة التي منحها إياها على مدار العقود الثلاثة الماضية. وهذه الديون المُستجدّة تزيد عن الدَّيْن العام بالعملات الأجنبية القائم في بداية العام 2023 (41.6 مليار دولار)، وتشكّل أكثر من 2.5 ضعف حجم الاقتصاد اللبناني.
حدث كلّ ذلك من دون أي مسوِّغ قانوني وبصمت مُطبق من الجميع، ليتوّج بتقدّم رئيس مجلس شورى الدولة، القاضي فادي الياس، باقتراح قانون يزعم فيه «حماية الودائع المصرفية المشروعة وإعادتها إلى أصحابها»، وسلّمه إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري في 19 تموز/يوليو الحالي. واللافت فيه أنه يكرّر السرديّة الشائعة عن أن المصرف المركزي استخدم الودائع لإقراض الدولة، وهو ما يعتبر تكريساً لأمر واقع وقبولاً ضمنياً بموجب تسديد هذه الديون من قبل سكّان لبنان، عدا أن وعوده بردّ الودائع لا يدعمها أي مؤشّر حسّي أو دليل مادي يضمن حصول المودعين على ودائعهم باستثناء المحظيين منهم.
يصل مجموع المبالغ المُسجّلة في ميزانية مصرف لبنان كديون على كاهل الدولة إلى 59.6 مليار دولاربالنسبة لوزير الاقتصاد السابق منصور بطيش تأتي هذه الترتيبات ضمن سياق واضح، وهو «التلاعب بالحقوق والواجبات، أولاً لأن الدولة مسؤولة عن ديونها حصراً، وبالتالي إذا كان يترتّب عليها إعادة أموال بالعملات الأجنبية فقيمتها لا تتجاوز قيمة سندات اليوروبوندز التي يحملها المصرف المركزي، وتبلغ نحو 5 مليارات دولار، وهي أقل بكثير من الخسائر المتراكمة لديه والناجمة بشكل أساسي عن الهندسات المالية والسياسات النقدية المُنتهجة على مدار ثلاثة عقود. وثانياً لأن نقل الخسائر المتراكمة على المصرف المركزي باعتبارها ناجمة عن تعديلات في سعر الصرف يتناقض مع قانون النقد والتسليف نفسه الذي ينصّ على تحمّل الدولة الخسائر السنوية، وليس التراكمات المكدّسة على مدار عقود». ويرى بطيش أن اقتراح القانون المطروح يأتي كمكمّل لترتيبات المصرف المركزي ويقضي بـ«إعفاء المصارف من أي مسؤولية، ممّا يشكّل عفواً عاماً وإبراء ذمّة عن المخالفات التي ارتكبت على مدى ثلاثة عقود من أفراد راكموا ثروات على حساب السكّان».
تجريد الدولة من مواردها
يقترح القانون إنشاء حساب خاصّ لدى مصرف لبنان تودَع فيه المبالغ المخصّصة لإعادة أموال المودعين (المادة 2)، وتوزّع هذه الأموال بشكل دوري كلّ ثلاثة أشهر على المصارف الدائنة وفقاً لقيمة دَيْن كلّ منها (المادة 11). ويحدّد سقفاً للودائع المضمونة بقيمة 50 ألف دولار مع إمكانية ردّها بالدولار أو الليرة وفق سعر الصرف في السوق في فترة خمس سنوات (المادة 29)، على أن تردّ الودائع المؤهلة المتبقية وفق سعر الصرف في السوق على مدى 15 عاماً (المادة 34)، أمّا الودائع غير المؤهّلة، أي المحوّلة من الليرة إلى الدولار بعد تشرين الأول 2019 والشيكات المُشتراة للمضاربة، فتُرد ولكن بنصف سعر الدولار في السوق في خلال فترة 15 عاماً (المادة 33).
إعفاء المصارف من أي مسؤولية، ممّا يشكّل عفواً عاماً وإبراء ذمّة عن المخالفات التي ارتكبت على مدى ثلاثة عقود من أفراد راكموا ثروات على حساب السكّانولإتمام هذه المهمّة، يفرض الاقتراح تنظيماً لأصول الدولة ومؤسّساتها ومرافقها وشركاتها وأملاكها العامّة والخاصّة وإدارتها، عبر هيئات مستقلّة للمراقبة والإشراف على كيفية إدارة أو استثمار هذه المرافق والأصول، على أن يتمّ اقتطاع نسبة من الإيرادات المتأتية منها وإيداعها في حساب ردّ الودائع (المادة 3). ولزيادة موارد الصندوق، لا يكتفي القانون بتسخير كلّ مؤسّسات الدولة ومرافقها المدرّة للأرباح، بل يقترح أيضاً رهن جزء من إيرادات أصول الدولة كضمانة لإصدار سندات مالية وبيعها وإيداع المبالغ المحصّلة من بيعها في حساب ردّ الودائع (المادة 3)، فضلاً عن الاستحواذ على مصادر أخرى مُحتملة، وهي نسبة من عائدات النفط والغاز (المادة 4)، ونسبة من إيرادات الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية (المادة 5)، ونسبة من إيرادات الرخص الجديدة لإشغال الأملاك العامة البحرية (المادة 6)، ونسبة من إيرادات تأجير عقارات الدولة الخاصّة (المادة 7).
أي حماية، ولأي مودعين؟
الواضح، أن الهدف من الترتيبات الجارية، وآخرها القانون المقترح، هو إعفاء المصارف من المسؤوليات المترتبة عليها، وتحويل النزاع بين المودعين والمصارف إلى نزاع مع الدولة. فبدلاً من تطبيق قواعد الإفلاس وأحكامه على المصارف يجري تطبيقها على الدولة، عبر تصفيتها بذريعة ردّ الودائع المصرفية إلى أصحابها.
يؤدّي تجريد الدولة من جزء مهمّ من أصولها ومواردها إلى المزيد من السياسات التقشفية المدمّرة، ويرتّب عجوزات مالية إضافية ستضطر الدولة لسدّها إمّا بالاستدانة أو بفرض المزيد من الضرائب ورفع الرسوم، وكلّ ذلك من دون وجود أدنى دليل على إمكانية ردّ جميع هذه الودائع لأصحابها، باستثناء المحظيين منهم! ما يدفع إلى التساؤل: لماذا علينا أن نبذل المزيد من التضحيات المؤلمة إذا كانت النتيجة، أي استرداد أصحاب الودائع لودائعهم، غير مضمونة أبداً.
تحتاج الدولة إلى تأمين إيرادات إضافية بقيمة 4 مليار دولار سنوياً، كمتوسّط عام، لتنفيذ هذه الخطّةيوجد حالياً نحو 92 مليار دولار كودائع بالعملات الأجنبية في الحسابات المصرفية، من دون احتساب المطلوبات الأخرى على المصارف. ووفق الترتيبات الجارية والقانون المقترح، سيُفرض على الدولة تسديد ما لا يقل عن 60 مليار دولار من هذه الودائع على مدى 15 سنة، بالدولار أو بالليرة على سعر الصرف الرائج في السوق، أي أن الدولة ستكون مسؤولة عن ردّ ثلثي هذه الودائع، بالإضافة إلى سندات الدَّيْن التي ستبقى بعد إعادة الهيكلة، وما سيظهر من التزامات لاحقاً.
في عملية حسابية سريعة وبسيطة، تحتاج الدولة إلى تأمين إيرادات إضافية بقيمة 4 مليار دولار سنوياً، كمتوسّط عام، لتنفيذ هذه الخطّة. وذلك، بالإضافة إلى كلفة الأقساط والفوائد على الديون المتبقية بعد إعادة الهيكلة، إذا جرت طبعاً، وأقساط وفوائد الديون الجديدة، وكلفة رسملة مصرف لبنان (5 مليارات دولار وفق ما ورد في القانون المقترح)، وبالإضافة أيضاً إلى الإنفاق العام على تسيير الدولة وتشغيلها وتأدية وظائفها، ولا سيّما الإنفاق الاجتماعي والاستثماري والرواتب والأجور (في التعليم والصحّة والجيش والأمن والقضاء والبنية التحتية والخدمات العامّة… إلخ). إن تخيّل قيمة الإيرادات السنوية التي سيتوجّب على الدولة جبايتها من السكّان لتسديد هذه الالتزامات الضخمة بالعملات الاجنبية كافٍ لتخيّل مستقبلاً قاتماً جدّاً، يسوده الفقر والبطالة والهجرة واليأس. فعلى سبيل المثال، تقدّر قيمة الإيرادات الضريبية وغير الضريبية في مشروع قانون موازنة العام 2023 بنحو 147 ألف مليار ليرة، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار، فإذا كانت هذه القيمة موجعة لأكثرية الأسر في لبنان، فما هو الحال إذا نُفّذت الخطّة المقترحة؟
في سياق تحليل نتائج القانون المقترح، يجب الانتباه إلى أن إيرادات الغاز والنفط لن تتحقّق قبل 8 سنوات على أقل تقدير في حال جرى اكتشاف كمّيات تجارية فوق حاجات الاستهلاك الداخلي. وكذلك الأمر في مجال الكلام الكثير عن استثمار أصول الدولة بواسطة القطاع الخاص، فمهما كانت المبالغات فهي ستؤدّي على المدى المنظور إلى تقليص الإيرادات وليس زيادتها، ولا سيما في قطاعات الاتصالات والنقل والطاقة، نظراً للحاجة إلى الاستثمار واسترداده قيمة هذا الاستثمار من المستثمرين، بالإضافة إلى أرباحهم، فالمبالغة في تحسين الإيرادات إذا تسلّم القطاع الخاص استثمار الأصول العامّة وإدارتها وتشغيلها لا يوجد دليل على صحّتها في التجارب عندنا وعند غيرنا، وإذا كان فيها شيء من الصحّة، فهذا على المدى البعيد، الذي قد يتجاوز مدّة القانون المقترح نفسه، وبالتالي هذا يضعنا أمام احتمالين:
هذه الترتيبات سوف توصل إلى المزيد من العجز والتقشّف والانكماش الاقتصادي والبطالة والفقر وتدنّي القدرة الشرائية، من دون أن يؤدّي ذلك إلى ردّ الودائع
- إمّا الهدف المبطّن الذي يقضي ببيع أصول الدولة وممتلكاتها وبالتالي تجريد المجتمع من كلّ الوسائل التي يحتاجها لإدارة أزمته ومحاولة الخروج منها.
- أو، استخدام أصحاب الودائع الصغيرة والادخارات كمتاريس في الحرب التي يخوضها الأثرياء، وهم أصحاب مصارف وودائع كبيرة، لتقليص خسائرهم عبر الاستيلاء على ما أمكن من الملك العام والضرائب والعائدات الحالية والمستقبلية.
باختصار، يبدو أن هذه الترتيبات سوف توصل إلى المزيد من العجز والتقشّف والانكماش الاقتصادي والبطالة والفقر وتدنّي القدرة الشرائية، من دون أن يؤدّي ذلك إلى ردّ الودائع فعلياً، إلّا لمن لديه القدرة على الاستحواذ على حصّة من الإيرادات الموعودة. وهؤلاء لن يكونوا بطبيعة الحال صغار المودعين والأسر والمدّخرين الذين وضعوا جنى أعمارهم في المصارف، وإنّما النافذين منهم، على غرار ما حصل طيلة الفترة الماضية.