معاينة hunger

الجوع كجائحة عالمية

يعكس الجوع المتفشّي في العالم صورة قاتمة لمأساة إنسانية متفاقمة. وبحسب التقرير العالمي حول أزمات الغذاء لعام 2025، ازداد عدد الأشخاص الذين يهدّد انعدام الأمن الغذائي الحاد حياتهم بنحو 13.7 مليوناً في السنة الأخيرة فقط، وتضاعف أكثر من 3 مرات بين 2016 و2024 من 105.2 مليون إلى أكثر من 295 مليون في عشرات الدول. لم يعد الجوع مجرّد مشكلة محلية أو آنية، بل أصبح بمثابة جائحة عالمية مستمرة، متأثرةً بعوامل عدّة مثل النزاعات المسلّحة، والتوترات الجيوسياسية، والانهيارات الاقتصادية، والنزوح القسري، وتغير المناخ وما ينتج عنه من تدهور للإنتاج الزراعي.

يكشف هذا الارتفاع الكبير في عدد الأشخاص المهددين بالموت جوعاً حول العالم واحدة من أقسى مفارقات العصر الرأسمالي الحديث: عالمٌ ينتج غذاءً يكفي لإطعام جميع سكان الكوكب، ونظامٌ اقتصادي يحوّل هذه الوفرة إلى مجاعة متفاقمة. يشير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى أن الجوع وسوء التغذية ينتشران بسرعة تفوق القدرة على الاستجابة، ولم يعودا يقتصران على فترات معينة أو مناطق محددة في العالم، في حين يُهدَر ثلث الغذاء المُنتج عالميًا. ويذهب غوتيريش أبعد من ذلك، فيقول إن الفشل الذي نشهده اليوم هو «فشلٌ للبشرية»، وإن «الجوع في القرن الحادي والعشرين أمرٌ لا يمكن تبريره»، محذّراً من تبعات الانخفاض الحاد في التمويل الإنساني، في إشارة إلى السياسات التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ بداية فترة رئاسته الثانية. كما يلمّح إلى أن التجارة أصبحت تشكّل عائقًا أمام الأمن الغذائي بدل أن تكون محرّكًا له.

معاينة البلدان العشرة الأكثر جوعاً

أربع مجاعات متزامنة

سُجِّلت مستويات الجوع التي تُعتبر كارثية وترتقي إلى مستوى المجاعة في كل من السودان وقطاع غزة في فلسطين واليمن ومالي. في السودان، ارتفعت معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال بعد اندلاع الحرب الأهلية في نيسان/أبريل 2023، ووصلت في مخيم زمزم للنازحين في دارفور إلى 23.1% بحلول كانون الثاني/ يناير 2024، وتجاوز عدد السودانيين الذين يعانون من نقص حاد في التغذية 8.5 مليون شخص. أما في قطاع غزة فقد بلغ معدل سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن عامين 30% بحلول شباط/ فبراير 2024، وواجه أكثر من 90% من الأطفال فقراً غذائياً في العام نفسه، في حين واجه 1,106,000 شخص مستويات كارثية من الجوع. في اليمن، وصل سوء الجوع إلى مستويات حرجة للغاية في 4 مناطق تقع تحت سيطرة الحكومة اليمنية من تموز/يوليو إلى تشرين الأول/أكتوبر 2024، في حين أظهرت التقييمات في المناطق الشمالية مستويات حرجة في 8 مناطق، وبلغ عدد اليمنيين المهددين بالجوع 1.1 مليون شخص. أما في مالي، فقد تم تصنيف مخيم النازحين في منطقة جاو على أنه في حالة حرجة للغاية من حزيران/يونيو إلى تشرين الأول/أكتوبر 2024، بسبب سوء جودة الغذاء، وارتفاع الأمراض بين الأطفال، وانخفاض المساعدات الإنسانية.

مع تقليص التمويل الإنساني وتأخر المساعدات الدولية، يتوقع أن تتفاقم الأوضاع الغذائية والصحية بشكل أكبر في هذه المناطق المنكوبة، بالإضافة إلى مناطق أخرى يُعتبر وضعها الغذائي حرجاً جداً مثل هايتي وجنوب السودان والصومال، أو مناطق تشهد حالة طوارئ غذائية حيث يعاني ملايين السكان من نقص حاد في الغذاء والقدرة على الحصول عليه، مثل أفغانستان (3.6 مليون) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (3.1 مليون) وميانمار (2.3 مليون) وباكستان (2.2 مليون) وبنغلادش (1.6 مليون). 

هذا ما يؤكده منسق الإغاثة في حالات الطوارئ للأمم المتحدة ووكيل أمينها العام للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، الذي قال في تصريح لأخبار الأمم المتحدة إن «التخفيضات الأخيرة في المساعدات الدولية لها عواقب وخيمة»، وإن «الناس سيموتون نتيجة لهذه التخفيضات»، متوقعاً انكماش القطاع الإنساني بمقدار الثلث. وهاجم فليتشر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطريقة غير مباشرة قائلًا إنه من «الذين يحتفلون ويتباهون وينسبون الفضل لأنفسهم في خفض المساعدات»، ووجه كلاماً حاسماً: «سواء أحببنا ذلك أم لا، فإن من المصلحة الوطنية الإنفاق على المساعدات الخارجية. إن كنت تريد أن تجعل بلادك عظيمة، لا تنسحب من العالم، بل أخرج لمواجهة التحديات العالمية أينما تجدها، وإلا فإن الجائحة القادمة، والانهيار الاقتصادي القادم، وتدفق الهجرة الذي ستدفعه أزمة المناخ والفقر والصراع في المستقبل، كل ذلك سيأتي في اتجاهك – ولن تتمكن من بناء جدار كبير بما يكفي لمنع هذه المشاكل». تصريح فليتشر أتى خلال زيارته لأفغانستان حيث أغلقت نحو 400 عيادة أبوابها وسرّحت المنظمات غير الحكومية نصف موظفيها في خلال أسابيع قليلة فقط بسبب تقليص المساعدات الإنسانية.

الفجوة بين الجوع والثروة

تتزايد أعداد المهددين بانعدام الأمن الغذائي حول العالم بشكل متواصل. فمنذ العام 2016، تشهد هذه الأعداد ارتفاعات متتالية تُظهر نمطاً مثيراً للقلق، يستدعي دقّ جرس الإنذار، ويدل على ارتباط أزمة الغذاء ببنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي، على الرغم من العوامل المرتبطة بالحروب والنزاعات والتغيرات المناخية التي تفاقم هذا الخطر. يسجل التقرير زيادة قدرها 142.1 مليون شخص يواجهون أزمات غذائية بين 2016 و2024، ليصل عددهم الإجمالي إلى 190 مليوناً. 

وتشهد أربع مناطق حالياً مستويات مجاعة كارثية هي السودان، غزة، اليمن، ومالي، فيما تواجه دول أخرى مثل هايتي، الصومال، وأفغانستان أوضاعًا حرجة. وتُظهر الأرقام أن إفريقيا تحتضن أكبر عدد من المهددين بالجوع، تليها آسيا والشرق الأوسط، حيث تتصدّر دول عربية مثل السودان وسوريا واليمن وفلسطين قائمة المناطق المنكوبة. 

في الوقت الذي حصد فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خلال زيارته التي استمرت لأيام قليلة إلى المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة صفقات تجارية واتفاقيات استراتيجية تريليونية، تُعتبر الأضخم في التاريخ، حيث قدّرت قيمتها الإجمالية بـ 3200 مليار دولار أميركي (600 مليار دولار للسعودية، 1200 مليار دولار لقطر، و1400 مليار دولار للإمارات العربية المتحدة)، تعيش الكثير من البلدان العربية مأساة انعدام الأمن الغذائي. فمن بين البلدان التي اعتبرها التقرير بحاجة إلى مساعدات خارجية لتحقيق الحد الأدنى من أمنها الغذائي نجد سوريا ولبنان واليمن وفلسطين (غزة) وليبيا والسودان والصومال. واللافت أن 3 دول عربية من أصل 4 دول حول العالم (الدولة الرابعة هي أفغانستان) سجلت أعلى عدد وأيضاً أعلى نسبة من الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في الوقت نفسه، وهي السودان وسوريا واليمن. لكن التطورات الأخيرة في غزة قد تؤدي إلى زيادة هذا العدد. وقد بلغ العدد الإجمالي للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد في كل من ليبيا والسودان والصومال 7.65 مليون طفلًا، في حين بلغ عددهم في سوريا 510 ألف  طفل، وفي قطاع غزة 60 ألف طفل، وفي لبنان 18600 طفل.

 أزمة بنيوية رأسمالية

يلوم غوتيريش «البشرية» على إخفاقها في معالجة أزمة الغذاء، مشيراً إلى تداعيات خفض التمويل الإنساني. إلا أن انعدام الأمن الغذائي سمة ملازمة تاريخياً للاقتصاد الرأسمالي، خصوصاً في دول الجنوب العالمي التي تعرّضت لنهبٍ تاريخي، وفُرِض فيها نمط الزراعة الأحادية الموجه للتصدير. ولعلّ تلميح غوتيريش إلى أن التجارة أصبحت عائقاً أمام الأمن الغذائي يعكس فهماً مختلفاً لديه، لكنه يتردد في التعبير عنه بوضوح. فالأزمة تتجاوز كونها نتاجاً لإدارة سياسية سيئة هنا، أو صراعات مسلّحة وموجات نزوح هناك (مع عدم تجاهل تأثير التغيرات المناخية بالطبع)، بل ترتبط بشكل وثيق بتحول الغذاء، بل الزراعة بحد ذاتها، إلى سلعة خاضعة للمضاربة المالية، وباستيلاء الشركات العابرة للقوميات على الأراضي وخصخصة القطاعات المنتِجة للغذاء، وتدمير السيادة الغذائية للدول النامية وتفكيك اقتصاداتها المحلية. 

على الرغم من أن المجاعات التي يشهدها العالم اليوم مرتبطة مباشرة بالنزاعات المسلّحة، فهي في الوقت ذاته نتاج اقتصاد سياسي قائمٍ على العنف، يُستخدم فيه الجوع كسلاح، وتتحول فيه المساعدات الإنسانية إلى أوراق تفاوضية لفرض سياسات تعيد إنتاج البنى الراسمالية التبعية بأشكال أكثر شراسة. الارتفاع الكبير في عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد حول العالم يمهِّد لمجاعات أكبر، على نطاقٍ أوسع، ومن خارج إطار الحروب والحصارات.