Preview خارطة الطريق الإسرائيلية إلى المجاعة

كيف خلقت إسرائيل المجاعة في غزّة

خطر المجاعة في قطاع غزّة، ليس «خطراً محدقاً» كما تصوّره تصنيفات المنظّمات الدولية، بل هو واقع يعيشه سكّان القطاع المعرّضين للإبادة الجماعية أمام نظر العالم كلّه، ويموت العشرات منهم من الجوع كل يوم. 

بحلول 15 آذار/مارس الحالي، كان جميع سكّان القطاع، من دون استثناء، يعانون من مستويات كارثية مختلفة من انعدام الأمن الغذائي بحسب التقرير الثاني من «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» (IPC)، و1 من كل 3 أشخاص يختبرون الجوع، بالمقارنة مع 1 من كل 6 أشخاص بين تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر الماضي. ومن المتوقّع أن يتضاعف عدد الجائعين بوتيرة أسرع بحلول تموز/يوليو المقبل، إن لم يكن قبله، وعندها سيكون شخص من كلّ شخصين جائعاً، والآخر يعاني من سوء تغذية حادّ. وفي خلال هذه الفترة، سوف يشكّل الجائعون نحو 70% من سكّان محافظتي غزّة وشمال غزة (نحو 210 آلاف إنسان)، و50% من سكان محافظتي دير البلح وخان يونس (300 ألف إنسان)، و45% من سكّان رفح (597 ألف إنسان). 

يعدُ هذا الواقع النتيجة المباشرة لانحدار مئات آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات، بشكل يومي، إلى مستويات أكثر كارثية من انعدام الأمن الغذائي والجوع، بسبب حرب الإبادة الجماعية التي يعيشونها ويختبرون صيغها الأكثر وحشية منذ أكثر من خمسة أشهر.

للأرقام الجامدة صور حيّة

صحيح أن هذه الأرقام لم تصل بعد إلى المستويات «الرقمية» التي يعتمدها التصنيف لإعلان المجاعة، ولكنّه يحذّر من أنها أصبحت وشيكة في المحافظات الشمالية وقد تحدث في أي وقت بين منتصف آذار/مارس وأيار/مايو 2024، وبأنها حتمية في المحافظات المتبقية بحلول تموز/يوليو المقبل. 

بعيداً من منطق المؤشّرات، تمتلك هذه الأرقام الجامدة صورها الحيّة في الواقع. يومياً، يصل الأطفال الفلسطينيين بأجسادٍ هزيلة إلى ما تبقى من مستشفيات عاملة في قطاع غزة، وبحسب المديرة التنفيذية لمنظّمة «يونيسيف» كاترين راسل «بدأت أجساد أطفال غزّة تأكل من نفسها لأنها لا تجد ما تتغذّى منه»، وبحسب وصفها «هذا موت مؤلم حقّاً للأطفال». حتّى الآن، جرى توثيق وفاة 27 طفلاً من الجوع في شمال غزّة، البعض منهم لم يتجاوز عمره بضعة أيام، و4 وفيات بين بالغين بسبب الجوع أيضاً. ما يحصل في غزة جرّاء هذه الحرب يفرز أشدّ مجاعة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

الجوع ليس بطوناً فارغة فحسب

استخدمت إسرائيل شتّى أنواع الأسلحة في حرب الإبادة الجماعية الجارية، من رمي القنابل الذكية إلى قطع الماء والغذاء، وهدفها خلق كلّ الظروف المؤاتية ليكون الموت أو الترحيل من المصائر الأكثر ترجيحاً للفلسطينيين والفلسطينيات في غزة. 

بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، ثمّة خمسة أفعال يشكّل ارتكابها القصدي جريمة إبادة جماعية ترمي إلى تدمير مجموعة إثنية أو قومية أو عرقية أو دينية، وهي: 1) قتل أعضاء تلك المجموعة، 2) التسبّب بضرر جسدي أو عقلي جسيم، 3) خلق ظروف عيش يُقصد بها التدمير المادي الكلّى أو الجزئي لهذه المجموعة، 4) فرض تدابير يُقصد بها منع الولادات، 5) والنقل الجماعي القسري للسكّان ولاسيما الأطفال. 

انطلاقاً من هذا التعريف التقني، يعدّ التجويع المتعمّد الذي تمارسه إسرائيل أحد الأسلحة الأكثر فتكاً لإبادة الفلسطينيين والفلسطينيات في غزة وتطهيرهم عرقياً. تعرِّف الأمم المتّحدة الجوع بأنه «الفترات التي يعاني منها الناس من انعدام حادّ في الأمن الغذائي، بمعنى العيش أيام عدّة من دون تناول الطعام لعدم امتلاكهم ثمن الغذاء أو عدم قدرتهم على الوصول إليه»، كما أنه «الإحساس المؤلم الناجم عن نقص التغذية وعدم كفاية السعرات الحرارية (الطاقة الغذائية) التي يستهلكها الشخص، ويصبح الجوع مزمناً عندما لا يستهلك الشخص سعرات حرارية كافية بشكل منتظم ليعيش حياة طبيعية بما يؤثر على حياته المستقبلية وقدرة جسمه وعقله على الاشتغال، وصولاً إلى موته جوعاً».

لكن الجوع ليس مجرّد بطون فارغة لا تجد طعاماً يملؤها، إنه حالة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. بحسب منظّمة Action Against Hunger، ثمّة عوامل عديدة تتداخل لتسبّب الجوع أهمّها التفاوت في القوّة الذي يحدّد من يأكل ومن يجوع، من يعيش ومن يموت، ويخلق حالات مُزمنة من الفقر واللامساواة والتمييز، ويتسبّب بحروب. وكلّها عوامل تؤدّي إلى تهالك الأنظمة الصحيّة والبنية التحتية الإنتاجية والغذائية، وتعيق الوصول إلى الغذاء الصحي والمياه الآمنة، وتسرّع انتشار الأمراض المعدية والأوبئة التي تساهم في تفاقم حالات سوء التغذية وتراجع مؤشّرات السلامة والصحّة العامتين الأساسية للبقاء على قيد الحياة.

المجاعة على الطريقة الصهيونية

كيف خلقت إسرائيل إذاً ظروف الجوع لاستخدامه سلاحاً في حرب الإبادة الجماعية ضدّ غزّة؟ ركّزت إسرائيل في المرحلة الأولى على تقييد القدرة على إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين والفلسطينيات المحاصرين في غزة. ومن ثم عمدت إلى تقييد قدرة الفلسطينيين والفلسطينيات على الوصول إليها في حال تسرّب جزء منها إلى القطاع، كما حرصت دولة الاحتلال على تدمير أي مصدر محلّي لإنتاج الغذاء بهدف ربط الطعام الذي يحصل عليه الفلسطينيون بما تقرّره ووفق شروطها وبما يحقّق أهدافها بالإبادة والتطهير العرقي أو التطويع بالحدّ الأدنى.

Previewخارطة الطريق الإسرائيلية إلى المجاعة

تقييد إيصال المساعدات إلى الناس

تعدّ القيود المفروضة على توريد السلع والخدمات الأساسية إلى قطاع غزة عائقاً أساسياً أمام حصول السكّان على الغذاء الآمن الذي يعد ضرورياً لمنع المجاعة والتصدّي لها بحسب «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي». حالياً، تتخطّى جميع الأسر تقريباً وجباتها كل يوم، ويقلّل البالغون وجباتهم حتى يتمكّن الأطفال من تناول الطعام بسبب تراجع المواد الغذائية المتوافرة. في المحافظات الشمالية، أمضت ثلثا الأسر أياماً وليالٍ كاملة من دون تناول الطعام، 10 مرّات على الأقل في خلال الأيام الثلاثين الماضية. وفي المحافظات الجنوبية ينطبق هذا الوضع على ثلث الأسر.

1. إغلاق المعابر 

تأخذ القيود المفروضة على إيصال الغذاء أشكالاً مختلفة، أبرزها إغلاق المعابر وهذا التدبير لم تتخذه إسرائيل مع بداية الحرب، إذ أغلقت منذ 17 عاماً المعابر الخمس التي تربط قطاع غزة بالأراضي الفلسطينية المحتلة. لقد كانت دولة الاحتلال تحدّد عدد السعرات الحرارية التي تسمح بدخولها إلى قطاع غزّة، ومع بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أطبقت الحصار كلياً، فيما رضخت السلطات المصرية للرغبات الإسرائيلية وأغلقت معبر رفح أيضاً. وعلى الرغم من فتح معبري كرم أبو سالم ورفح لفترات جزئية منذ منتصف كانون الثاني/يناير الماضي، لا تزال المساعدات غير كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية لقطاع غزة. إذ انخفض عدد الشاحنات التي تدخل إلى القطاع من متوسط 500 شاحنة يومياً قبل الحرب من ضمنها 150 شاحنة تحمل مواداً غذائية، إلى متوسط 100 شاحنة يومياً من ضمنها 65 شاحنة تحمل مواداً غذائية في الفترة الممتدّة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و22 آذار/مارس 2024. ويُعد الوضع في المحافظات الشمالية أكثر مأساوية، فمنذ بداية شباط/فبراير وحتى الخامس من آذار/مارس الحالي لم تسمح دولة الاحتلال بدخول سوى 15 شاحنة فقط إلى محافظة غزة لإطعام حوالى 300 ألف شخص، بمعدّل أقل من كيلوغرام واحد من الطعام لكل شخص لمدة شهر كامل.

2. تواطؤ المنظّمات الدولية

لا شك أن الحرب تضع قيوداً شديدة على قدرة المنظّمات على إيصال الغذاء والسلع الأساسية المنقذة للحياة إلى السكّان المحاصرين، ولا سيما في المحافظات الشمالية المقطوع عنها المساعدات منذ نحو خمسة أشهر. لكن تواطؤ المنظّمات الدولية مع دولة الاحتلال يعدّ فاقعاً في مساهمته في تعظيم أزمة الجوع.

اتهمت المنظّمات الدولية، ولا سيما برنامج الأغذية العالمي والأونروا، حشود الجياع اليائسين أمام شاحنات الغذاء بإثارة «الفوضى»، واستخدمت هذه حجة لإيقاف إيصال المساعدات، بدلاً من التصدّي للحصار المطبق الذي تفرضه إسرائيل. 

منذ صدور التقرير الأول من «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي»، في كانون الأول/ديسمبر 2023، تراجع عدد البعثات الإنسانية التي وصلت إلى المحافظات الشمالية سواء بسبب القيود الإسرائيلية المتمثلة بإغلاق الطرق وإقامة نقاط تفتيش واحتجاز العاملين في المجال الإنساني أو تمنّع المنظمات الدولية عن إيصالها. بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر الماضيين، تمّ التخطيط لنحو 43 بعثة في محافظات شمال غزة، نفّذ منها 37 بعثة بشكل كامل أو جزئي. وبين كانون الثاني/يناير و15 شباط/فبراير 2024، تم التخطيط لنحو 77 بعثة في المحافظات الشمالية، نفّذ منها 15 بعثة بشكل جزئي أو كامل في مقابل تعليق أو إلغاء أو منع 81% منها. أما في المحافظات الجنوبية فقد تم التخطيط لنحو 209 بعثات، نفّذ 54%منها في مقابل تعليق أو إلغاء أو منع تنفيذ النسبة الباقية. 

3. التحكّم بإدارة إيصال المساعدات

ترفض إسرائيل أي شكل لإدارة إيصال المساعدات الإنسانية بعيداً من سيطرتها وبما يتعارض مع طريقتها. فشلت دولة الاحتلال في صياغة اتفاقات مع العشائر المحلّية لإيصال المساعدات من خلالها ووفق الشروط التي تفرضها. ونتيجة هذا الفشل، اغتالت إسرائيل 4 ضباط من الشرطة الفلسطينية المسؤولين عن تنسيق عمليات إدخال المساعدات إلى شمال غزّة في الأسبوع الماضي، وبعدها بيوم واحد استهدفت تجمّعاً للجان العشائر والعائلات المسؤولة عن تأمين شاحنات المساعدات وتوزيعها وقتلت 23 شخصاً منهم. تزامنت عمليات الاغتيال مع نجاح الشرطة الفلسطينية ولجان العشائر في تأمين وصول 15 شاحنة إلى مخيّمات جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون في شمال غزة للمرّة الأولى منذ 5 أشهر. 

في الواقع، تتصدّى إسرائيل لأي محاولة، ولو خجولة، ترمي إلى إنقاذ الفلسطينيين والفلسطينيات المُحاصرين في غزة أو مدّهم بأي مساعدة.

أيضاً، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، لا تنحصر القيود المفروضة على العمل الإنساني بالقضاء على عمليّات الإدارة التي تقام بعيداً من سيطرة دولة الاحتلال، بل تشمل التصدّي لعمليات تنفيذها أيضاً عبر استهداف قوافل المساعدات الإنسانية بالقصف المباشر، واحتجاز العاملين في المجال الإنساني أو قلتهم. بحلول 21 آذار/مارس الحالي، قتلت إسرائيل `171عاملاً في منظّمات الأمم المتحدة العاملة في المجال الإنساني.

4. إعاقة التنقل بالردم

لا تقتصر إعاقة وصول المساعدات على إغلاق المعابر فحسب بل تشمل أيضاً تدمير البنية التحتية المادية للقطاع التي تعيق التنقّل والحركة. إن تقطيع أوصال القطاع وطرقه وتراكم الحطام يعيق الوصول المادي للكثير من الشاحنات المحمّلة بالمساعدات. 

حتّى نهاية شباط/فبراير الماضي، دمّرت إسرائيل أكثر من 360 ألف مبنى سكنياً، أي 60% من المخزون السكني للقطاع وفقاً لتقييمات الصور الملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية، كما دمّرت الطرق وشبكات الاتصال البرّية في القطاع. ويوجد حالياً نحو 12 ألف طن متري من الحطام قد تستغرق إزالته بالكامل نحو 4 سنوات على الأقل. 

تقييد وصول الفلسطينيين والفلسطينيات إلى الغذاء 

حرصت دولة الاحتلال على فرض قيود إضافية تعيق وصول الفلسطينيين والفلسطينيات إلى الغذاء في حال تسرّب جزء منهم ودخل إلى القطاع. وفي هذا السياق، لا تكتفِ إسرائيل بقتل حشود الجياع أمام شاحنات المساعدات في أكثر أشكال إجرامها وحشية، بل تعمد إلى افتعال فوضى اجتماعية تسهم في زيادة حرمان الفئات الأضعف. كما تحرم الفلسطينيين والفلسطينيات المحاصرين من المساعدات النقدية والمياه والوقود، وترميهم فريسة لمهرّبي الغذاء، وتحدّد عدد السعرات الحرارية التي تدخل ونوعية الغذاء الذي يحصلون عليه، وهو ما يفاقم حالات سوء التغذية والمجاعة. 

5. افتعال الفوضى 

تسعى إسرائيل إلى جعل الفوضى أمراً واقعاً في قطاع غزة بما يفاقم الحرمان. تسبّبت الحرب الإسرائيلية المستمرّة بتدهور الوضع الغذائي، وتركت الفلسطينيين والفلسطينيات في وضع يائس من أجل الوصول إلى فتات الغذاء المتاح أمامهم. وبحسب تقرير الأمم المتحدة، تعدّ الوفيات الأخيرة المرتبطة بعمليات الإنزال الجوي والاحتشاد أمام الشاحنات التي تدخل إلى قطاع غزة دليلاً على مستوى اليأس والجوع الحاد بين سكّان غزة. ويضاف إليه تراجع التماسك الاجتماعي، الذي قد يعرض الفئات الأكثر ضعفاً مثل الأطفال والنساء والمسنّين والمرضى وذوي الإعاقة لمستويات شديدة من الحرمان من الغذاء والماء في حال استمرّت إسرائيل في تصدّيها لأي محاولة لإدارة القطاع لا تكون خاضعة لشروطها. 

6. قتل حشود الجياع 

بدل من العودة وهم يحملون أكياس الطحين، يعود العديد من الفلسطينيين والفلسطينيات المحتشدين أمام شاحنات المساعدات محمّلين على الأكتاف كجثامين. هذه الجرائم الإسرائيلية تكرّرت أكثر من مرّة في خلال الأشهر الثلاث الأخيرة نتيجة استهداف القوات الإسرائيلية للجائعين المحتشدين للحصول على طعام وقتلهم. الاستشهاد بسبب استلام المساعدات هو أحد أكثر الأشكال الوحشية للقتل الذي ترتكبه إسرائيل في غزة. 

7. المساعدات النقدية 

منذ بدء الحرب وحتى 15 شباط/فبراير الماضي، لم يحصل سوى 36% من سكّان غزة على مساعدة نقدية أعانتهم في الحصول على بعض من الغذاء، بالمقارنة مع أكثر من 60% قبل الحرب. وأكثر من ذلك، يواجه الكثير ممن يتلقون مساعدات نقدية مشكلات في الاستفادة منها. ويعود ذلك إمّا إلى عدم توافر السلع التي يريدونها، أو ارتفاع أسعارها وعدم قدرتهم على دفع ثمنها أو بسبب عدم قدرتهم على التنقل بأمان إلى المحال التجارية لشراء حاجاتهم. ويضاف إلى ذلك، اضطرارهم للتنقّل من وكيل إلى آخر لاستلام المساعدات بسبب الصعوبات التي يواجهها هؤلاء في تلقي الأموال النقدية نتيجة ضعف إمدادات الكهرباء والاتصالات، أو بسبب بعد الوكلاء المتوفرين عن أماكن وجودهم أو فرض بعض الوكلاء رسوماً مرتفعة لتسليم المساعدات. 

8. تضخّم الأسعار في أسواق التهريب

أدّى التدمير الممنهج للبنية التحتية إلى إغلاق العديد من المتاجر وتأثر سلاسل التوريد، كما ساهم تقييد وصول المساعدات بنضوب الكثير من المواد الغذائية الأساسية. بحسب دراسة استقصائية أجراها برنامج الأغذية العالمي في شباط/فبراير الماضي، يشير 81% من أصحاب المتاجر إلى نضوب المواد الغذائية المتوافرة لديهم، وقرب نضوب المخزونات الباقية لدى أصحاب المتاجر الباقية، باستثناء الخضار. علماً أن المياه ومشتقات الألبان والأجبان مقطوعة بالكامل. 

ساهم هذا الواقع في تفشّي سوق التهريب التي توفّر نوعاً أو نوعين من الأغذية، معظمها معلّبة. ويفرض المهرّبون أسعاراً فلكية لقاء المواد الغذائية التي يوفرونها، ما يحد من قدرة الناس على تحمّل كلفتها. ارتفعت أسعار الاستهلاك بنسبة 193% في نهاية العام 2023 بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل سنة. وسجّل سعر الملح الارتفاعات الأكبر بنسبة 1200%، يليه سعر الطحين (768%)، ومن ثمّ البطاطا (417%)، والبيض (334%). 

9. تقنين السعرات الحرارية

سمح تحليل بيانات المعابر الحدودية للفترة الممتدّة بين 21 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و3 آذار/مارس الحالي، بتحديد السعرات الحرارية للغذاء الذي يدخل إلى قطاع غزة. في الواقع، يقارب متوسط قيمة السعرات الحرارية اليومية الألف، بالمقارنة مع 2,100 سعرة حرارية يومياً وفق المعايير الصحية العالمية. وتتفاوت هذه السعرات بين المحافظات، إذ يحصل الفرد الواحد في محافظتي غزة وشمال غزّة على معدّل 250 سعرة حرارية يومياً، في مقابل 750 سعرة حرارية في رفح، ونحو 1500 سعرة حرارية في دير البلح وخان ويونس. 

10. تدهور جودة الغذاء المستهلك 

بالإضافة إلى تقنين معدّل السعرات الحرارية اليومية المستهلكة، أيضاً لا يحصل الفلسطينيون والفلسطينيات في غزّة على غذاء منوّع وصحّي، بما يهدّد بتعميق حالات سوء التغذية التي قد تسبّب المجاعة.

بحسب التحليل الذي أجرته مجموعة التغذية العالمية التابعة للأمم المتحدة بين كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير الماضيين، فإن 98% من أطفال المحافظات الشمالية المشمولين بالتحليل استهلكوا مجموعتين غذائيتين في فترة الدراسة، وهما حليب الرضاعة والبيض. أما البقوليات والفاكهة والخضروات والحبوب واللحوم ومنتجات الألبان فهي مفقودة بالكامل من نظامهم الغذائي، وهو ما يؤثر على نموهم. لا يختلف الوضع كثيراً في خان يونس إذ أن 90% من الأطفال الصغار يتناولون غذاءً مشابهاً، وفي دير البلح تنخفض النسبة إلى 86% في مقابل 3% فقط من الأشخاص الذين شملهم التحليل يتناولون خمس مجموعات غذائية. الوضع نفسه ينسحب على رفح، حيث أن 88% من الأطفال استهلكوا مجموعتين غذائيتين في فترة الدراسة. 

11. توافر المياه والوقود

يعد الحرمان من المياه والوقود من الأسلحة التي تسبّب أضراراً متشعّبة تساهم في مفاقمة ظروف الجوع. إذ أن تردّي شروط النظافة والسلامة العامة يسرّع تفشي الأوبئة والأمراض المعدية ويؤدّي إلى تفاقم سوء التغذية. وبالفعل، منذ منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سُجّل نحو 388 ألف حالة التهاب حادّ في الجهاز التنفسي، بالإضافة إلى 246 ألف حالة إسهال، و84 ألف حالة طفح جلدي، و12 ألف حالة يرقان حادّ بما فيها التهاب الكبد الوبائي من نوع ألف، بسبب نقص المياه، إذ لا يحصل الفرد سوى على نصف ليتر يومياً فقط المياه. ويؤدّي نقص المحروقات لتوليد الكهرباء إلى عدم تكرير المياه ومعالجة الصرف الصحي.

أيضاً يؤدّي نقص الوقود إلى إعاقة إعداد الطعام والطهي. حتى 9 آذار/مارس الحالي، لم يتم توفير الحدّ الأدنى من كمّيات الديزل التي يحتاجها القطاع يومياً إلا في 10% من الأيام فقط (15 يوماً). أما بالنسبة لغاز الطهي فقد دخل نحو 30% إلى 40% فقط من الكمّيات التي كانت تدخل قبل الحرب، ما أدّى إلى لجوء 80% من الفلسطينيين والفلسطينيات إلى إحراق الحطب والنفايات للطهي، مع ما يشكّله ذلك من خطر على صحتهم.

12. النزوح والقيود على الحركة 

بالإضافة إلى إغلاق ممرّات النقل الرئيسة داخل قطاع غزة، فُرضت قيود أخرى على الحركة والتنقل داخل القطاع بما فيها حظر التنقل من المحافظات الجنوبية إلى المحافظات الشمالية، وحظر التنقل ضمن سياج حدودي بمساحة كيلومتر واحد يضم نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية، وحظر صيد الأسماك. تؤثر هذه القيود على سبل عيش السكان وقدرتهم على الوصول إلى الغذاء. كما أدّت حركة النزوح الكثيفة تحت القصف إلى تخلّي الكثير من السكّان عن ماشيتهم التي كانت تشكّل مصدر غذاء أساسي لهم.

تدمير إمكانيات الإنتاج المحلّية 

تسعى إسرائيل لأن تكون المصدر الوحيد لغذاء الفلسطينيين بغية التحكّم بحياتهم وجعل الموت جوعاً مصيرهم الوحيد. 

13. ضرب البنية التحتية الإنتاجية

دمّرت إسرائيل البنية التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي وإنتاج الأغذية وتخزينها وتوزيعها. وهي جميعها بنى تحتية وأصول مادية لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة، ويؤدّي تدميرها إلى تقييد وظائف النظام الغذائي. 

بحسب UNOSAT، زادت نسبة الأراضي الزراعية المتضرّرة من 25% إلى 60%، بين تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وكانون الأول/يناير 2024. أيضاً، فقد القطاع الزراعي نحو 70% من ثروته الحيوانية بما فيها الماشية والأسماك . وهو ما يعطّل النظام الغذائي المحلي ويفاقم الجوع، ويربط معيشة الفلسطينيين والفلسطينيات في غزة بما تقرّر إسرائيل رفدهم به. 

أيضاً، ووفقاً لتقييم للأضرار أجرته منظّمة الأغذية والزراعة، دمّرت إسرائيل بحلول نهاية شباط/فبراير الماضي نحو 626 بئر ماء و47 بركة ومرفأ، كما دمّرت 453 مخزناً ومستودعاً غذائياً، بالإضافة إلى 26 مزرعة ألبان، ونحو 563 مزرعة دواجن وطيور وماشية.