Preview الجياع في غزة

توقيف المساعدات إلى شمال غزّة
إلقاء اللوم على حشود الجياع اليائسين

في الفترة بين الأول من كانون الثاني/يناير و15 شباط/فبراير 2024، اعترض جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 80% من بعثات المساعدات التي حاولت الوصول إلى شمال وادي غزّة، حيث السكّان الصامدين هناك يواجهون المجاعة والعطش والأوبئة وانعدام الخدمات الصحّية، فضلاً عن القتل اليومي والتدمير المنهجي الذي طال كل البنية التحتية اللازمة للعيش. واستهدف المنع بعثات توزيع الأغذية وبعثات دعم المستشفيات والمرافق التي توفِّر خدمات المياه والنظافة، وفق ما جاء في التحديث اليومي الصادر من مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

بدلاً من مواجهة الحصار المُطبق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتّحدة، في 20 شباط/فبراير الحالي، أنه أوقف تسليم المساعدات الغذائية إلى شمال غزّة. وفي اليوم التالي، في 21 شباط/فبراير، صرّحت رئيسة البرنامج سيندي ماكين عبر حسابها على تويتر: «اضطررنا إلى اتخاذ الخيار الصعب بإيقاف توزيع المساعدات مؤقتاً في شمال غزة. مستوى اليأس لا يصدّق بسبب الاحتياجات الإنسانية الهائلة. من غير الضروري أن تحدث مجاعة. ولكن إذا لم تتغير الأمور، فسوف تحدث حتماً».

الجياع في غزة

يعترف برنامج الاغذية العالمي أن قراره وقف تسليم المساعدات الغذائية المنقذة للحياة إلى شمال غزّة «يعني أن الوضع هناك سوف يتدهور أكثر، وأن المزيد من الناس سوف يواجهون خطر الموت من الجوع»، ولكنه يضع شرطاً لاستئناف مساعداته الغذائية وهو «ضمان السلامة والأمن اللازمين لتقديم المساعدات الغذائية الحيوية وللأشخاص الذين يتلقونها».

المفارقة الوقحة أن برنامج الأغذية العالمي لا يضع اللوم على آلة الحرب الإسرائيلية التي تعمل على إبادة سكان غزّة وتمنع وصول المساعدات اليهم، بل يشكو من «حشود الجياع»، الذين يعترضون طرق هذه البعثات في محاولاتهم اليائسة لتهدئة جوعهم وعطشهم وآلامهم. يقول البرنامج إن «شاحنات عدّة تعرّضت للنهب بين خان يونس ودير البلح»، ويعتبر أن هذا السبب كافٍ لإيقاف مساعداته والرضوخ لمشيئة دولة الاحتلال والمشاركة معها في ممارسة العقاب الجماعي.

لا يمكن تخيّل وضعاً منظّماً، كالذي يشترطه برنامج الأغذية العالمي، في الفوضى العارمة التي تُحدثها حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، ولكن حتى لو سلّمنا أن «حشود الجياع» تهدّد أمن هذه البعثات، فمن الواجب الإشارة إلى الجاني وليس إلى الضحية، فالاحتلال لم يكتفِ بعدم السماح للبعثات من التوجّه إلى شمال وادي غزّة، بل استهدف بالنار البعثات التي سمح لها بالعبور، بحجّة أن الشرطة الفلسطينية ترافقها لتأمين الحماية لها من «حشود الجياع» اليائسين.

وفق التسريبات لموقع Axios، ناقش وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يوم الخميس الماضي مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «ضرورة إيجاد طريقة لتوفير الأمن لشاحنات المساعدات». وقالت نائبة السكرتير الصحافي للبنتاغون سابرينا سينغ في بيان: «أثار الوزير أوستن الحاجة إلى تحسين عملية عدم الاشتباك مع المنظّمات الإنسانية وضمان وصول المزيد من المساعدات إلى المدنيين الفلسطينيين، حيث أن أعمال النهب والعنف تعيق الوصول إلى قوافل المساعدات الإنسانية في غزة».

ترفض إسرائيل وقف هجماتها على بعثات المساعدات التي ترافقها الشرطة الفلسطينية، «لأن أحد أهدافها في الحرب هو التأكّد من أن حماس لم تعد تدير قطاع غزة». ويقول مسؤولون إسرائيليون إن لديهم خططاً لإيجاد طرق بديلة لتقديم المساعدات «مثل التعاون مع العشائر المحلية التي تعارض حماس». ولكن، بمعزل عن الخطط الواهية، يقرّ الجميع أن المجاعة في شمال قطاع غزة قائمة بالفعل، ولا تحتمل الانتظار. وتؤكّد أحدث التقارير الانزلاق السريع إلى الجوع والمرض. «لقد أصبح الغذاء والمياه الصالحة للشرب شحيحة للغاية، وانتشرت الأمراض، ما يعرض تغذية النساء والأطفال ومناعتهم للخطر، ويؤدّي إلى موجة من سوء التغذية الحاد. ويموت الناس بالفعل لأسباب تتعلّق بالجوع».

المفارقة الوقحة أن برنامج الأغذية العالمي لا يضع اللوم على آلة الحرب الإسرائيلية التي تعمل على إبادة سكان غزّة وتمنع وصول المساعدات اليهم، بل يشكو من «حشود الجياع»، الذين يعترضون طرق هذه البعثات في محاولاتهم اليائسة لتهدئة جوعهم وعطشهم وآلامهم

يختم برنامج الأغذية العالمي بيانه عن إيقاف مساعداته إلى شمال غزّة بعبارات تبدو عاطفية: «إن غزة معلّقة بخيط رفيع، ويجب تمكين برنامج الأغذية العالمي لتجنّب المجاعة التي يتجه إليها آلاف الأشخاص الذين يعانون بيأس من الجوع الشديد». لقد قرّر البرنامج أن يقطع هذا الخيط الرفيع، فلو كان صادقاً في عواطفه، لكان طالب بإلقاء مساعدات الغذاء والدواء إلى «حشود الجياع اليائسين» من السماء لإنقاذهم من الموت، لا أن يوصمهم بـ«العصابات الإجرامية» ويحوّلهم إلى سبب لوقف المساعدات بدلاً من أن يكونوا هدفاً لها.

لا يختلف موقف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إذ قالت تمارا الرفاعي، مديرة العلاقات الخارجية في الوكالة لصحيفة The Guardian، إن «السلوك اليائس للأشخاص الجياع والمنهكين يمنع المرور الآمن والمنتظم لشاحناتنا». ولكنها اعترفت بالارتباك في تفسير ذلك، فأضافت أنها «حذرة للغاية بشأن كيفية تفسير ذلك حتى لا يبدو الأمر وكأننا نلوم الناس أو نصف هذه الأشياء بأنها أعمال إجرامية (...) ولكننا نريد أن نقول إن إيقافهم شاحناتنا لمساعدة أنفسهم لم يعد يسمح بإجراء عمليات إنسانية مناسبة».

في الواقع، لم تحصل «الأونروا» على تصاريح من قبل جيش الاحتلال لإيصال المساعدات إلى شمال غزّة لأكثر من شهر، وهذا هو السبب الذي يدور حوله المتحدثون باسم منظّمات الامم المتحدة، إذ أن المجاعة القائمة في شمال قطاع غزّة هي فعل مقصود من أفعال الإبادة الجماعية، وليس الهجوم الإسرائيلي على وكالة «الأونروا» نفسها إلا وسيلة من وسائل هذا الفعل، فماذا يعني قطع التمويل عنها في هذه الظروف بالذات، والتهديد بوقف عملياتها في الأسابيع المقبلة، ليس في غزّة فقط، بل وفي الضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا. 

يعترف التصنيف الدولي المتكامل لمراحل الأمن الغذائي  بوجود أدلة على بلوغ المجاعة في غزّة عتبة المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي الحاد (الكارثة/المجاعة)، وهناك أدلة متزايدة على أنها تجاوزتها في شمال وادي غزّة، حيث أُجبر الصامدون هناك على أكل علف الحيوانات وإلهاء الجوع بالخبز الممزوج من التراب والأعشاب وشرب المياه الآسنة أو المالحة.

ووفق هذا التصنيف، يزداد خطر المجاعة كل يوم مع استمرار الوضع الحالي المتمثل في مواصلة إسرائيل حربها على غزّة وتقييد وصول المساعدات الإنسانية وتركيز الناس وحشرهم في ملاجئ غير ملائمة أو مناطق تفتقر إلى الخدمات الأساسية.