Preview تراجع الزراعة يفاقم الجوع في السودان

تراجع الزراعة يفاقم الجوع في السودان

أكثر من 12 مليون فدان مخصّص لزراعة الموسم الصيفي في ولايات دارفور وغرب وجنوب كردفان في السودان والجزيرة، تعذّر زراعتها بسبب المعارك المسلّحة التي أثّرت على قدرة المقيمين على الوصول إلى أراضيهم الزراعية وخفّضت العمالة المتاحة وعطّلت القدرة على إيصال المعدّات والأسمدة الزراعية، وهو ما يهدّد بمفاقمة أزمة الجوع المتفجّرة في بلد القسم الأكبر من سكّانه يقتات من الغذاء المنتج محلياً. 

تتوافق هذه المعطيات مع ما استعرضه وزير الزراعة والغابات السوداني أبو بكر البشرى، الشهر الماضي، لـ«الجزيرة نت» وتنسجم وتقديرات المكتب الإقليمي للدول العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي صدرت حديثاً وتفيد بأن نحو 50% من المزارعين في السودان لم يزرعوا مواسمهم بسبب النزوح الداخلي والخارجي وتراجع إمكانيات تمويل عملية الفلاحة والزراعة في ظل تعذّر توفير البذور والأسمدة والوصول إلى الأسواق. وهذه الوقائع تعني عملياً انخفاضاً شديداً في قطاع الزراعة الغذائية الذي كان يُشكل أكثر من 34% من إجمالي الناتج المحلي في العام 2019، والذي يوظّف أكثر من نصف إجمالي اليد العاملة في البلاد، ويؤمن الغذاء للنسبة الأكبر من المقيمين. ومن هنا، تأتي التحذيرات التي أطلقتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في تقريرها الصادر منذ أيام بشأن مواجهة نحو 18 مليون سوداني خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد ومن ضمنهم 5 ملايين شخص قد يعانون من الجوع، ويضاف إلى هؤلاء نحو 10 ملايين نازح، ما يجعل السودان يعاني من أكبر أزمة نزوح وأكبر أزمة جوع على مستوى العالم.

إنتاج الحبوب في السودان

تدني إنتاج الحبوب وانخفاض المساحات المزروعة

تقول تقديرات منظّمة الفاو إن الإنتاج الوطني من الحبوب بلغ في العام 2023 نحو 4.1 مليون طن، أي 56% إلى 68% من الحاجات الغذائية المقدّرة في السودان، وهو أيضاً أقل من الإنتاج الوطني للعام الذي سبقه بنسبة 46% وأقل من المتوسط السنوي للسنوات الخمس السابقة بنحو 40%.

سجّل الإنتاج الوطني من الذرة الرفيعة والدخن في العام 2023 (3.74 طن) انخفاضاً بنسبة 48% مقارنة بالعام 2022، و41% مقارنة بمتوسط السنوات الخمس الماضية، ومن المتوقع أن يصل إنتاج القمح المقرّر حصاده في آذار/مارس إلى نحو 378 ألف طن، أي أقل بنحو 20% عن العام السابق وأقل بنسبة 46% عن متوسط السنوات الخمس الماضية. 

تُقدّر احتياجات السودان الغذائية بنحو 6 ملايين طن على الأقل من الحبوب (وفق تقديرات المسؤولين السودانيين) فيما تشير «الفاو» إلى أن استخدام الحبوب الغذائية يصل إلى نحو 7.3 مليون طن، الأمر الذي يُشير إلى صعوبة تأمين الكميات اللازمة التي تحتاجها البلاد من الحبوب في ظلّ تدني الإنتاج الزراعي. 

ويرجع الانخفاض الكبير في إجمالي إنتاج الحبوب بشكل أساسي إلى تأثير الصراع المستمر على العمليات الزراعية كانعدام الأمن الذي يعيق عملية الحصاد والزراعة، إضافة إلى محدودية توفر المُدخلات الزراعية وارتفاع أسعارها، فضلاً عن التوزيع غير المنتظم للأمطار الموسمية مع فترات جفاف طويلة في مناطق الإنتاج الرئيسية في جنوب شرق البلاد. هذه العوامل أدّت بطبيعة الحال إلى تدني المساحات المزروعة والمحصودة.

وتم تسجيل أكبر انخفاض في الإنتاج في إقليم دارفور الكبرى بلغت نسبته 82% مقارنة بالعام الماضي، كما لوحظ أيضاً انخفاض كبير في منطقة كردفان الكبرى (وهي منطقة أخرى تأثرت بشدّة بالنزاع)، حيث انخفض الإنتاج بنسبة 51% عن العام الماضي. وبحسب المعطيات، فإن المساحات المزروعة في السودان انخفضت بنسبة 3% عن العام السابق و9% عن متوسط السنوات الخمس السابقة.

وكانت ولايتي سنار والنيل الأزرق أكثر الولايات التي شهدت انخفاضات حادة في المساحات المزروعة فيما أبلغت ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان عن عدم وجود زراعة كلياً في موسم المحاصيل الصيفي لعام 2023.

في المُقابل، زادت المساحة المزروعة في ولاية القضارف، وتشير التقارير إلى أنها أعلى بنسبة 27% من العام الماضي، فيما أفاد القطاع التقليدي عن زيادة في المساحة المزروعة بنسبة 7% مقارنة بالعام السابق، ويرجع ذلك أساساً إلى الزيادة في ولاية سنار، حيث أفادت التقارير أن المساحة المزروعة أعلى بثلاث مرّات من السابق بسبب تدفّق النازحين داخلياً، ومعظمهم من ولاية الخرطوم، الذين شاركوا في العمليات الزراعية. وقد عوّضت الزيادة في المساحة المزروعة في ولاية سنار الانخفاض الحاد الذي لوحظ في ولايات غرب وجنوب ووسط دارفور بسبب انعدام الأمن السائد الذي يعيق وصول المزارعين إلى الحقول.

النزوح الأكبر في العالم  ومخاطر المجاعة تتفاقم

حتى شهر شباط/فبراير الماضي، كان عدد النازحين في السودان بسبب الصراع قد وصل إلى 6.1 مليون شخص، علماً أن عدد النازحين داخلياً قبل اندلاع الأعمال القتالية يُقدّر بنحو 3.8 مليون شخص. وبذلك، يكون العدد الإجمالي للنازحين داخلياً يلامس العشرة ملايين شخص، أي أكثر من 20% من سكّان البلاد (تقول التقديرات أن عدد سكان البلاد يقدّر بنحو 48.2 مليون شخص) ما يجعل السودان يعاني من أكبر أزمة نزوح داخلي على مستوى العالم. وفي مقابل هؤلاء النازحين الداخليين، ثمة نحو 1.7 مليون شخص فروا إلى البلدان المجاورة كتشاد وجنوب السودان ومصر.

وإلى أزمة النزوح، ونتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي وفي ظل تراجع القطاع الزراعي، يغدو خطر الجوع الذي يتهدّد السكان جدّياً وخطيراً أكثر من أي وقت مضى، ووفق التقديرات فإن نحو 17.7 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. هذا الرقم يشمل نحو 13 مليون شخص في المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (أي يعانون من أزمة غذاء حادّة) ونحو 5 ملايين في مرحلة الطوارئ والحاجة العاجلة للغذاء. هذه التقديرات تعني عملياً أن مستويات انعدام الأمن الغذائي الحاد تطال نحو 37% من إجمالي السكان!

65% من السكان يعملون في الزراعة

في العام 2021، شكّل القطاع الزراعي (من ضمنها الغابات والثروة الحيوانية والسمكية) نحو 16% من إجمالي الناتج المحلّي وفق تقديرات منظّمة الفاو، فيما تشير بعض الأرقام إلى أن نسبة مساهمة الزراعة في الاقتصاد وصلت قبل أعوام إلى أكثر من 34% من إجمالي الناتج المحلي. 

إلى ذلك، تقول الفاو إن ما يقرب من 65% من سكان السودان يعملون في الزراعة؛ والأخيرة هي مورد رئيسي للغذاء المحلي كما للمواد الخام للصناعات. ويصلح للزراعة نحو 175 مليون فدان، أي ما يعادل 73.5 مليون هكتار، ويبلغ متوسط المساحة المزروعة حوالي 26 مليون هكتار.

ولم تتسبّب الحرب في عرقلة الإنتاج الزراعي فحسب، بل أدّت إلى تدمير البنية التحتية الرئيسية، وتقييد أنشطة التجارة والإنتاج، فيما ساهم تعطيل الوصول إلى المرافق العامة والخدمات المالية والأسواق إلى ندرة كبيرة في السلع والخدمات، ما فاقم بدوره من سوء الوضع الغذائي.

والجدير ذكره أن البلاد فقدت منذ العام 2011 (انفصال جنوب السودان) مصدراً رئيساً للإيرادات المالية وعائدات التصدير، ما أدى إلى تدهور ظروف الاقتصاد الكلي. ومنذ ذلك الحين، أدى تزايد العجز التجاري والحساب الجاري، والنقص الحاد في احتياطيات النقد الأجنبي، والتضخم المتفشي، ومستويات الديون غير المستدامة، إلى فرض قيود مالية شديدة. وأدت ندرة الموارد، التي تفاقمت بسبب ضعف تحصيل الإيرادات والدعم الكبير للوقود، إلى تقويض الحماية العامة، وبالتالي انتشار الضعف الاجتماعي والاقتصادي على نطاق واسع. 

أما الصراع اليوم، فقد فاقم هذه التحدّيات الاقتصادية الكلية بشكل كبير خصوصاً بعد تدمير واسع النطاق للبنية التحتية ورأس المال المادي وضعف القدرة الإنتاجية بسبب نزوح القوى العاملة الماهرة. ووفقًا للمعلومات، فإن الناتج المحلي لعام 2022 انخفض بنسبة 1% فيما انخفض بنسبة 12% في العام 2023، وانكمشت جميع القطاعات بشكل كبير، مع انخفاض الصناعة والخدمات بنسبة 10% والزراعة بانخفاض بنسبة 15%. هذا الواقع أثر بدوره على تكلفة العمالة في العمليات الزراعية اليدوية الرئيسة مثل إزالة الأعشاب الضارة والحصاد التي ارتفعت في العام 2023 بنسبة 40% عما كانت في العام 2022. ومع ذلك،  ساهمت الأعداد الكبيرة من النازحين الذين فروا من الخرطوم بشكل رئيسي إلى المناطق الزراعية في جنوب شرق البلاد، في تشبع سوق العمل وما ترتب على ذلك من انخفاض الأجور مقارنة بالولايات الأخرى.

للتغيّر المناخي دور أيضاً

تتم ممارسة إنتاج المحاصيل في السودان ضمن أنماط رئيسة تتطلب جميعها الاعتماد على الأمطار (سواء الزراعة البعلية أو المروية التي تتم عبر تدفّقات الأنهار). 

لذلك، إنّ هطول الأمطار هو المحرّك الأكثر أهمية لإنتاج المحاصيل الغذائية الوطنية. ووفقاً لبيانات الاستشعار عن بعد، فإن موسم الأمطار لعام 2023 اتسّم بعدم انتظام التوزيع مكانياً وزمانياً. فيما يتعلق بالتوزيع المكاني، تلقى الجزء الغربي من البلاد كمية تراكمية من الأمطار أعلى من العام السابق والمعدل الطويل الأجل، في حين تلقى الجزء الشرقي من البلاد كمية تراكمية من الأمطار أقل مقارنة بكلا العامين السابقين.

فيما يتعلق بالتوزيع الزمني، في أجزاء من مناطق الإنتاج الرئيسة في الجنوب الشرقي، أدت فترات الجفاف الموضعية التي تم الإبلاغ عنها خلال المراحل الخضرية الرئيسة للمحاصيل إلى تقييد الإنتاجية. على النقيض من ذلك، في المناطق الغربية، أفادت الأمطار التي تجاوزت المتوسط نمو المحاصيل، ولكنها تسبّبت في فيضانات مفاجئة بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 2023 ما أدى إلى خسائر محلية في المحاصيل.

بسبب نقص هطول الأمطار والاختلالات المكانية والزمانية التي اتسم بها موسم الأمطار لعام 2023 قبل بدء عمليات الحصاد، كانت ظروف الغطاء النباتي أسوأ مما كانت عليه في الفترة نفسها من العام السابق وتشكّل هذه التطورات مصدر قلق خاص بسبب العجز الكبير في القمح في البلاد.