
كلفة توفير الغذاء في مصر أقل من تجاهله
قبيل الأزمة الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا على الكثير من دول العالم، وفي مقدّمتها مصر، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تموز/يوليو 2019، عن وصول معدّلات الفقر في البلاد إلى أرقام غير مسبوقة بلغت 32.5%، وهو ما يمثّل قرابة ثلث السكّان الذين تجاوز عددهم آنذاك 100 مليون نسمة. ما يعني أن أكثر من 35 مليون مواطن مصري كانوا في عداد الفقراء رسمياً. في العام 2020، رجّحت منظمات دولية وصول هذا الرقم إلى 50% بسبب تبعات الجائحة، غير أن المؤسّسات الرسمية أعلنت انخفاض هذا الرقم إلى 29.7%.
يعتبر السقوط المدوي لملايين جُدد إلى الفقر نتاج سنوات متتالية من السياسات التقشّفية التي بدأتها الحكومة منذ العام 2014، مروراً بصدمة تعويم سعر الصرف الذي لجأت إليه الدولة المصرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 برعاية صندوق النقد الدولي، لتدخل البلاد في خلال أشهر قليلة في موجة تضخم هي الأكبر في تاريخها إذ بلغت 32.9%، قبل أن يهبط التضخم تدرّجياً، ثم يعاود الصعود ليلامس المستوى نفسه (32.7%) في نيسان/أبريل 2023.
على الرغم من أن نسب الفقر الآخذة في الارتفاع، وتؤدي في النهاية إلى تعريض شرائح جديدة من المجتمع إلى انعدام الأمن الغذائي، لم تتوانَ الحكومة عن التمادي في إجراءاتها التقشّفية الأكثر مساساً بالأمن الغذائي للمصريين. فقد بدأت في العام 2020 حملة ممنهجة إعلامياً للحديث عن أهمّية رفع الدعم السلعي، بما فيه دعم الخبر، وتحويله إلى دعم نقدي، مُعلّلة ذلك بعدم وصول الدعم إلى مستحقيه، ومن دون الكشف عن طبيعة غير المستحقين، أو تقديم آلية تضمن وصول هذا الدعم إلى المستحقين الفعليين، فضلاً عن معرفة إذا كان هذا الدعم النقدي سوف يراعي معدلات التضخم المتسارعة أم سوف يكون ثابتاً.
في مؤتمر القمة العالمية للأغذية في العام 1996، وصفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الأمن الغذائي بأنه الحالة «التي يتمتع فيها جميع الناس، في جميع الأوقات، بإمكانية الوصول المادي والاقتصادي إلى غذاء كافٍ وآمن ومغذي يلبّي احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية».
ارتفعت نسبة انعدام الأمن الغذائي في مصر إلى 33% من السكان، أي ما يعادل 35 مليون مواطن، وهو رقم مرتفع للغاية إذا ما قورن بدول الشرق الأوسط التي تقع خارج دوائر الصراعات والحروب
عند تحليل الأمن الغذائي، ينبغي النظر في أربعة ركائز للمفهوم: أولاً التوافر ويعني المستوى الإجمالي لكمية الغذاء المنتجة أو المستوردة أو المخزنة. ثانياً الوصول أي مدى توزيع الغذاء بالتساوي. وثالثاً الاستخدام ويعني مقدار القيمة الغذائية وما إذا كان يتم تخزينه وإعداده بأمان، وأخيراً الاستقرار، أي ما إذا كان توافر الغذاء والوصول إليه واستخدامه مستقراً بمرور الوقت اعتماداً على المناخ والسياسة والاقتصاد.
في الحصيلة، إذا كانت معالجة هذه الركائز بطرق إيجابية غير ممكنة، فهذه علامة على انعدام الأمن الغذائي. وعليه فإنّ نسبة الأشخاص الذين سقطوا في هوّة انعدام الأمن الغذائي في مصر ارتفعت بوتيرة متسارعة في خلال السنوات الأخيرة، وتشابكت فيها عوامل داخلية وخارجية عدّة. وبحسب تقرير الأمم المتحدة الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2024، ارتفعت نسبة انعدام الأمن الغذائي في مصر إلى 33% من السكان، أي ما يعادل 35 مليون مواطن، وهو رقم مرتفع للغاية إذا ما قورن بدول الشرق الأوسط التي تقع خارج دوائر الصراعات والحروب مثل تونس والجزائر والمغرب. فضلاً عن ذلك، هناك 9.4 مليون مواطن يعانون من سوء تغذية حادّ، بعد أن كانوا 6.2 مليون مع بدء تطبيق «برنامج الإصلاح الاقتصادي» في العام 2016. وهذا ما دفع منظّمة الأغذية العالمية إلى تصنيف الأمن الغذائي في مصر في مرتبة «مرتفع إلى حدِ ما». وربما أهم ما تشير إليه الأرقام هو التسارع الكبير في ارتفاع هذه المؤشرات، ففي حين كانت نسبة من يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد 8.4% من السكان في العام 2016، وصلت إلى 10.4% من السكان في العام 2023، أي أن أكثر من مليونين شخص سقطوا في أقل 7 سنوات، وهي نسبة تاريخية لم تحدث في تاريخ البلاد.
لكن السؤال الأهم يبقى: لماذا يجوع المصريون على الرغم من معدلات التنمية المرتفعة؟
تحلّل العقد الاجتماعي
يمثل الخبز أو «العيش» كما يطلق عليه المصريون، دعّامة أساسية للنمط الغذائي لدى المصريين، وأصبح دعمه بمثابة عقد اجتماعي بنت دولة تموز/يوليو 1952 على أساسه دعائم حكمها منذ خمسينيات القرن الماضي وحتّى عهدٍ قريب، إلى جانب حزمة متكاملة من السلع المدعّمة التي أنقذت الملايين من براثن الجوع عقب صعود جمال عبدالناصر إلى سدّة الرئاسة في العام 1954.
بعد سنوات قليلة، كان المصريون على موعد مع انتفاضتهم الأولى ضد رفع أسعار الخبز، بعدما أعلن الرئيس الراحل محمد أنور السادات عن حزمة جديدة من السياسات الاقتصادية في كانون الثاني/يناير 1977. وسرعان ما جاء ردّ الشارع بانتفاضة كبيرة يومي 17 و18 من الشهر نفسه، عرفت بانتفاضة الخبز، أرجعت النظام عن قراراته، لكن هذا الأمر لم يمنع الحكومات المتعاقبة من محاولات الإلتفاف على الدعم السلعي الذي يعد قلب نظام الحماية الاجتماعية في مصر.
ظل نظام الدعم الشامل للسلع الأساسية قائماً، ولم يجرؤ مبارك على تفكيكه بسرعة. إذ كان شبح أعمال الشغب التي اندلعت في العام 1977 حاضراً دائماً ويطارد النظام الجديد. وعلى مدار حكمه الذي امتد 30 عاماً، طبّق مبارك سياسة الباب المفتوح على فترات متقطعة، محاولاً التوفيق بين الاعتبارات المحلية وضغوط الدائنين والمانحين والمؤسسات المالية الدولية. ومع اقتراب نهاية نظامه، بُذلت محاولة جادة لفتح جميع الأبواب الاقتصادية.
ظل نظام الدعم الشامل للسلع الأساسية قائماً، ولم يجرؤ مبارك على تفكيكه بسرعة. إذ كان شبح أعمال الشغب التي اندلعت في العام 1977 حاضراً دائماً ويطارد النظام الجديد
في كتابه «خريف الديكتاتورية»، يطرح الباحث الراحل سامر سليمان، كيف تعامل مبارك طوال 3 عقود من حكمه - وهي الفترة الأطول من تاريخ دولة تموز/يوليو - مع الاقتصاد الغذائي للمصريين، ممزّقاً بين هاجس انتفاضة الخبز (1977) وبين الانفتاح الاقتصادي الذي بلغ ذروته في تسعينيات القرن الماضي حين طبّقت البلاد برنامج التكيّف والتثبيت الهيكلي لصندوق النقد الدولي. خضع النظام لبرنامج الصندوق بعد أزمة انخفاض أسعار النفط في ثمانينيات القرن الماضي وتراجع رسوم قناة السويس بالتوازي مع استمرار الإنفاق العام على حاله، ما أدّى إلى عجز كبير في الموازنة العامة، وتسبّب في زيادة نسبة الدين الخارجي التي وضعت البلاد على شفا الإفلاس، قبل أن تنقذها حرب الكويت وتخفّض الديون إلى النصف. لكن الثمن كان بتطبيق «برنامج الإصلاح الاقتصادي»، الذي اتبع فيه نظام مبارك سياسة المماطلة، إذ كان يدرك جيداً ثمن رفع الدعم السلعي على نظامه. مع ذلك، لم يفلح الأمر كثيراً، وبدأ النظام في الرضوخ، مطبّقاً أقصى درجات القمع وتكميم الأفواه، طمعاً في تمرير سياساته، التي أدّت في بدايتها (1991)، إلى ارتفاع معدلات التضخّم إلى أكثر من 20% ، قبل أن يتمكّن النظام من احتواء تلك الموجة التضخمية الكبيرة.
تاريخ موجز لسياسة شدّ الحزام
«شدّ الحزام على وسطك غيره ما يفيدك». هذه هي الكلمات التي غنّاها الفنان الراحل سيد درويش، في خلال ثورة 1919، لتحفيز المصريين على مواجهة الاحتلال الإنكليزي. وقد نجحت الدولة المصرية في تخليدها عبر عقود من السياسات الاقتصادية التقشفية، التي تبنّاها الحكّام المتعاقبون، بدرجات متفاوتة الحدّة، لكنها آلت في النهاية إلى مزيد من الإفقار والتجويع، واتساع الهوّة بين الطبقات.
لا يوجد تاريخ فعلي يمكن أن نحدّد منه بداية سياسة شدّ الحزام، لكن أقرب محطّة للذاكرة يمكن الإنطلاق منها هي العقد السابق لثورة يناير (2000-2009). وقد رصدتها دراسة للبنك الدولي بعنوان «داخل اللامساواة في مصر» صدرت في العام 2014، وتتبّعت مسارات الإصلاح الإقتصادي وآثارها المختلفة على نمط غذاء شرائح مختلفة من المصريين. ففي تلك الفترة انخفض مستوى الرفاه بالنسبة إلى معظم الأسر المصرية محل الدراسة، واتسعت الفجوة بين نصيب الفرد من الناتح المحلي الإجمالي واستهلاك الأسر. وترصد الدراسة أيضاً شعور آلاف من الأسر بأنهم أفقر مما كانوا عليه في العام 2000، إذ شدّدوا على انخفاض معدل استهلاكهم الغذائي، خصوصاً من البروتين الحيواني ومنتجات الألبان. كما عبّرت الدراسة عن حالة النفور الجماعي من الشعور بعدم المساواة، وسببه خفض الدولة لمخصّصات الرعاية الاجتماعية، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه البلاد ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الغذاء والسلع الأساسية. وبلغ التضخم ذروته في العام 2008 (18.32%).
رسمت هذه المحددات ملامح ثورة يناير، التي بدأت كثورة لنخبة ثقافية من الطبقة الوسطى، وسرعان ما جذبت إلى حراكها الطبقات الأفقر والأكثر تهميشاً، ممن اكتووا بنيران الغلاء والإفقار وكل ما جلبته سياسات «الإصلاح الاقتصادي» برعاية صندوق النقد الدولي.
صحيح أن مبارك نزل عن رأس الحكم في مصر في العام 2011، إلا أن آثار سياساته الاقتصادية بقيت محفورة على أجساد المصريين، وربما تستمر لأجيال قادمة
صحيح أن مبارك نزل عن رأس الحكم في مصر في العام 2011، إلا أن آثار سياساته الاقتصادية بقيت محفورة على أجساد المصريين، وربما تستمر لأجيال قادمة. بحسب تقرير اليونيسيف عن سوء التغذية في مصر عن الفترة الممتدّة بين عامي 2000 و2009، كان التقزم واضحاً لدى الأطفال دون سن 6 أشهر. وارتفعت مستويات التقزم بسرعة مع التقدم في السن، من 17% لدى الأطفال دون سن 6 أشهر إلى 41% لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و23 شهراً. وانخفضت هذه المستويات إلى 24% لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 سنوات وما فوق. فضلاً عن ذلك، يميل التقزم إلى أن يكون أعلى لدى الأطفال الذكور (31%) منه لدى الإناث (27%)، فضلاً عن أنّ 7% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من الهزال، و3% يعانون من الهزال الشديد.
ووفقاً لنتائج المسح الديموغرافي والصحي الذي أجرته منظّمة الصحة العالمية بين عامي 2000 و2008 باستخدام معايير نمو الطفل، تبيّن استقرار الوضع الغذائي للأطفال المصريين دون سن الخامسة في مسحي عامي 2000 و2005، إلا أن مؤشرات القياسات البشرية في المسح الديموغرافي والصحي لعام 2008، أظهرت زيادة ملحوظة في معدلات سوء التغذية، كما ارتفع معدل انتشار التقزم من 23% في عامي 2000 و2005 إلى 29% في العام 2008. بالإضافة إلى ارتفاع معدل انتشار الهزال من 3% في العام 2000 إلى 5% في العام 2005 وإلى 7% في العام 2008. كما ارتفع معدل انتشار نقص الوزن لدى الأطفال من 4% في العام 2000 إلى 5% في العام 2005 و6% في العام 2008.
تركة تتسارع وتتمدّد
وفقاً لبيانات منظمة اليونيسيف عن أوضاع الأمن الغذائي لعام 2015، صنّفت مصر ضمن أكثر 36 دولة في العالم يتركز فيها عبء 90% من سوء التغذية العالمي، وأعادت الأمر إلى أسباب عدّة في مقدمتها صعوبة الحصول على نظام غذائي متوازن لدى الشرائح الأفقر. لكن التسارع في زيادات معدلات الأمراض الناجمة عن سوء التغذية في السنوات اللاحقة لثورة يناير 2011، كإحدى أهم تجليات انعدام الأمن الغذائي، ارتبط بشكل وثيق بسياسات التقشّف التي اتبعتها الدولة بعد العام 2013، وما تبعها من خفض الدعم السلعي، فضلاً عن التضخم الكبير في أسعار السلع الأساسية.
في دراسة لـ«Institute of Developing Economies»، يتتبع الباحث الياباني Yuko Ido، السياسات الاقتصادية للدعم الغذائي في مصر بين عامي 2000 و2016. مثلّت نفقات الدعم 70% من إجمالي نفقات الحكومة قبل العام 2014-2015، أي قبل التخفيض الأول للدعم بعد تولي عبدالفتاح السيسي رئاسة البلاد، وسجّل الإرتفاع الأكبر لدعم الغذاء في العام 2008 استجابة لأزمة الغذاء العالمية، وبلغ الدعم على الغذاء ذروته في عامي 2013 و2014، ليبدأ في الانخفاض من السنة المالية التالية، مع اتباع حكومة إبراهيم محلب سياسات تقشفية.
في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، قرّر البنك المركزي المصري تعويم الجنيه للمرّة الأولى، وتبعها بعد ذلك 4 مراحل من التعويم. في المرّة الأولى ارتفع سعر الصرف من 8.88 جنيه مقابل الدولار إلى 18 جنيه، ليرتفع معه معدل التضخم إلى رقم تاريخي تجاوز ما وصل إليه في خضم أزمة الغذاء العالمي في العام 2008. غير أنّ هذا التضخم الكبير، جعل من مصر بعيدة كل البعد عن تحقيق أهداف التغذية العالمية، بل إنّ معدلات الجوع وسوء التغذية كانت أعلى من المتوسط في أفريقيا، ولم تستقر المعدلات المرتفعة من الأساس، بل استمرت في التزايد.
احتلّت مصر المرتبة 60 في مؤشر الجوع العالمي لعام 2015. ومن ثم المرتبة 63 لعام 2024، إذ يعاني 8.5% من السكان من سوء التغذية، كما يعاني 21.1% من الأطفال دون سن الخامسة من التقزّم، بينما ارتفعت نسبة الأطفال المصابين بالهزال إلى 5.3%، فيما يموت 1.8% من الأطفال قبل بلوغهم الخامسة. أيضاً احتلت مصر المرتبة الخامسة في نسبة الجوع المرتفع في منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا في العام 2024، ولم يسبقها سوى سوريا وليبيا والعراق واليمن، وجميعها تشهد نزاعات مسلحة وحروب لم تشهدها مصر على الإطلاق.
في مواجهة هذه الرياح العاتية للجوع، قدّمت الحكومة دعايا عن برامج اجتماعية بدعوى أنّها تقلّل من حدّة الفقر، وتحاول تعويض الأسر عن نقص الغذاء، وفي مقدمتها برنامج «تكافل وكرامة» تحت شعار «مصر بلا عوز»، الذي أُطلِق في العام 2015 بدعم من برنامج للبنك الدولي تكلفته 400 مليون دولار.
تتولّى وزارة التضامن الاجتماعي تنفيذ برنامج «تكافل وكرامة» الذي غطّى بحلول العام 2018، قرابة 2.26 مليون أسرة أي ما يعادل نحو 9.4 مليون مواطن أو قرابة 10% من سكان مصر، وذلك وفقاً لقائمة طويلة من الشروط التي يجب استيفائها للحصول على المعونة النقدية، أولّها ألّا يزيد دخل الأسرة عن 1,800 جنيه مصري وهو ما يساوي 35 دولاراً شهرياً. ما يجعل المستفيدين من البرنامج، وهم من القابعين تحت خط الفقر الذي حدده البنك الدولي عند 6.85 دولارات يومياً للفرد، بلا حراك أو تحسين ملحوظ لحياتهم، مع الأخذ في الاعتبار أنّ شروط الحصول على المنحة، أو مبلغها المصروف، لا يراعي التضخم الذي بلغ ذروته بين عامي 2016 و2023، أي بعد تحديد المبلغ المستحق للأسر الأكثر احتياجاً.
ما فعله الإصلاح الاقتصادي
أقرّ البنك الدولي حزمة المساعدات النقدية الموجّهة لحماية الطبقات الأضعف لأكثر من عام. وعلى الرغم من ارتفاع نسب التضخم لأرقام غير مسبوقة، كان الهدف الأكبر للحكومة هو «خفض عجز الموازنة»، وقد تحقق جزئياً مقابل وصول نسبة الدين العام إلى 124.7% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، في السنة المالية 2017-2018.
في السنة المالية التالية، استمر تزايد معدلات الديون والفقر، قبل أن يخيّم وباء كورونا بآثاره على البلاد والأجساد. كان الإغلاق الكلي الناتج عن إجراءات تفشي وباء كورونا، الهزّة الأولى التي وضعت تلك السياسات على المحك، في حزيران/يونيو 2020، نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، دراسةً تتبعت الآثار المختلفة لجائحة كوفيد-19 على الأسر المصرية. ووجدت الدراسة أن دخل 73.5% من العينة قد انخفض منذ بداية الجائحة، وعليه اضطرت الكثير من الأسر إلى تقليل استهلاكها من المواد الغذائية عالية التكلفة مثل اللحوم والفواكه. في تشرين الأول/أكتوبر 2020، أفاد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الضغوط على العمال انخفضت، ولكن لا يزال أكثر من نصف العينة يعانون من تغييرات قسرية في ظروف عملهم.
في فبراير 2021، نشر مركز حلول للسياسات البديلة، التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة مؤشراً لتقييم جودة ظروف العمل في مصر. وكشف أن نسبة العمّال المصريين المحرومين من دخل كافٍ قد ارتفعت بين عامي 2006 و2018 من 55% إلى 73.3%. وعلى الرغم من عدم إعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن أرقام الفقر في خلال الجائحة، إلّا أنّهم أعلنوا عن انخفاض نسب الفقر من 32.5% في العام 2018، إلى 29.7% بين تشرين الأول/أكتوبر 2019، وآذار/مارس 2020، أي قبل بداية التأثيرات الفعلية للوباء، ومع ذلك تظهر معدلات الفقر ارتفاعاً بنسبة 2% عما كانت عليه في العام 2015، أي قبل بداية الإصلاحات بعام واحد.
كشف الدراسة التى جمعت بيانات آلاف من الأطفال عن العلاقة الوطيدة بين سوء التغذية وانتشار إصابة الأطفال بالإلتهاب الرئوي وضعف المناعة وفقر الدم، وهو أحد أهم أسباب وفيات الأطفال دون سن الخامسة في مصر
تتركّز معدلات الفقر ونقص التغذية في مصر، بشكل خاص في جنوب البلاد، الذي يمثل سكانه أكثر من ثلث التعداد، بينما تعاني محافظة أسيوط من أعلى نسبة فقر في البلاد، والتي يقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة، ويمثل أطفالها من سن 0-4 سنوات 11.3% من السكان، ومن 5 إلى 9 سنوات نسبة 10.5% من إجمالي السكان، وفقاً لدراسة أجريت من قبل مستشفى جامعة أوكلاهوما للفترة الممتدّة بين الأول من كانون الثاني/يناير و31 كانون الأول/ديسمبر 2021، داخل مستشفى أسيوط الجامعي للأطفال، ونشرتها المكتبة الوطنية للطب. وتكشف الدراسة التى جمعت بيانات آلاف من الأطفال عن العلاقة الوطيدة بين سوء التغذية وانتشار إصابة الأطفال بالإلتهاب الرئوي وضعف المناعة وفقر الدم، وهو أحد أهم أسباب وفيات الأطفال دون سن الخامسة في مصر، وقد ارتفعت معدلاته في خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، حسبما كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إذ قدّرت بنحو 18.9 لكل ألف من المواليد في العام 2022، بالمقارنة مع 17.8 في العام 2021، فيما يمثل هذا الارتفاع طفرة عن فترة الاستقرار التي شهدها هذا المعدل بين عامي 2015-2020، إذ لم يتجاوز 15 في الألف.
توفير الغذاء أقل كُلفة من انعدامه
قليلة هي الدراسات أو التقارير التي تخلق رابطاً مباشراً بين ارتفاع النمو الاقتصادي ومعدلات سوء التغذية والأمراض الناتجة عنها، لا سيّما في البلدان منخفضة الدخل، بينما تفتقر بعض تقارير المؤسسات الدولية إلى إجراء مسوح شاملة لإيجاد هذا الرابط بشكل قاطع.
في دراسة بعنوان «النمو الاقتصادي وسوء التغذية لدى الأطفال في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل»، يحاول 3 من الباحثين هم نيكولاس بوتنر وماركوس هيمان ويان فالتر دي نيف، دراسة العلاقة بين النمو الاقتصادي الكلي وارتباطه بمعدلات زيادة سوء التغذية على 36 بلداً منخفض الدخل، من بينها مصر والهند. تعتبر هذه الدراسة محاولة إحصائية لتبيان أخطار سوء التغذية، وربطها بارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وقد أثبتت نتائج مسوح الديموغرافيا المستخدمة في الدراسة علاقة إيجابية بين النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات الهزال لدى الأطفال في سن ما قبل الخامسة، كما أضافت أنّ عوامل التقزّم تتداخل مع انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة لعوامل مثل إصابة الأم بالسمنة أو الهزال، وعدم الوصول إلى موارد المياه النظيفة، وعدم الوصول إلى الصرف الصحي. وهذه جميعها عوامل تخلقها ظروف الفقر وانخفاض مستوى المعيشة وعدم الوصول إلى الموارد بشكل مستدام.
فضلاً عن انخفاض الوعي الغذائي، تعتبر صعوبة الحصول على الغذاء من العوامل الأساسية أيضاً، وخصوصاً الغذاء المؤلف من الخضروات والفواكه ومنتجات الألبان التي يفترض أنّ لدى مصر اكتفاء ذاتي منها بل تمتلك وافراً للتصدير. غير أن الكلفة الاقتصادية غير المعلنة لآثار سوء التغذية على ملايين البشر في مصر، يمكن أن تتجاوز تكلفتها.
ووفقاً لتقرير اللجنة العالمية للزراعة ونظم الغذاء، صادر في العام 2016، عن توقّعات الكلفة الاقتصادية العالمية لسوء التغذية، قدّر وصول التأثير على الاقتصاد العالمي إلى 3.5 تريليون دولار أميركي سنوياً أو 500 دولار أميركي للفرد. وتنجم هذه التكاليف الباهظة عن ضياع النمو الاقتصادي وهدر الاستثمارات المرتبطة بوفيات الأطفال التي يُمكن الوقاية منها، بالإضافة إلى الوفيات المبكرة للبالغين المرتبطة بالأمراض غير المعدية المرتبطة بالنظام الغذائي.
وأوضح التقرير أنّ دخل البالغين ينخفض بنسبة 2.4% لكل 1% من فقدان الطول الناتج عن التقزّم المُحتمل. كما تُتكبّد تكاليف إضافية بسبب ضعف التعلم، وضعف الأداء المدرسي، وانخفاض إنتاجية العمل لدى البالغين، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية. فضلًأ عن الإفراط في التغذية وكلفته على الجهة الأخرى، إذ يموت ما لا يقل عن 2.6 مليون شخص سنوياً نتيجة لزيادة الوزن أو السمنة.
وبحسب التقرير نفسه، تقدّر الكلفة الاقتصادية للأطفال الذي يعانون من سوء التغذية بنحو 1.1 مليار جنيه مصري، أي ما يساوي 213 مليون دولار أميركي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ هذه الأرقام صدرت قبل البدء في إجراءات «الإصلاح الاقتصادي»، الذي زادت معه معدلات الفقر والأمراض المرتبطة بسوء التغذية، فضلاً عن التضخم وسعر صرف العملة مقابل الدولار الأميركي.
بلغت تلك المعدلات المرتفعة أقصى نسبة لها، في خلال شهر أيلول/سبتمبر 2023، بعدما تجاوز التضخم الهيكلي وفقاً لأرقام الحكومة حاجز الـ40%، أيضاً بلغت معدلات تضخم أسعار الغذاء 63.9% على أساس سنوي، لتصل إلى 71.1% في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما جعل مصر في المرتبة الأولى بين الدول العشر الأكثر تأثراً بتضخّم أسعار الغذاء في العالم. ووفقاً لتقرير «تحديث الأمن الغذائي» الصادر عن البنك الدولي، شهدت معدلات تضخم أسعار الغذاء في مصر، من نيسان/أبريل 2023 إلى آذار/مارس 2024، وضعاً اقتصادياً مضطرباً، مع تقلبات شهرية كبيرة.
لم تكشف بعد دراسات أكثر حداثة عن طبيعة التكلفة الاقتصادية وثمن الجوع على الاقتصاد المصري، إذ يمثل استمرار سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي تهديداً طويل المدى ويمكن انتقاله عبر أجيال عدّة خارج نطاق القدرة الاقتصادية على الإنتاج، وهو يفترض أن تتحمّل الدولة أعبائه المادية، والتي ربما تفوق تكلفة توفير الغذاء المناسب لهؤلاء الملايين.