معاينة french colony in sudan

منطقة الفرنك

أعلنت تشاد في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إنهاء اتفاقيتها العسكرية مع فرنسا، لتطيح بأحد أقدم أركان النفوذ الفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء. كانت البلاد في الماضي بمثابة هونغ كونغ لباريس، أي مركزاً لوجستياً لعمليّاتها في منطقة السهل، وظلت معقلاً أساسياً لفرنسا بعد إخراجها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر في السنوات القليلة الماضية. بعدها حذت السنغال وساحل العاج (تستضيف الأخيرة أكبر قوة فرنسية متبقية في أفريقيا) حذوها وأعلنت إخراج القوات الفرنسية من أراضيها. ومع هذا القطع للعلاقات العسكرية، تقترب فرنسا من خاتمة فصل تاريخي ابتدأ مع استراتيجية ديغول في التوسّع جنوباً أوائل الستينيات حين وضع استقلال الجزائر إمكانية الوصول إلى نفط الصحراء تحت الخطر.

يبدو أن قرار نجامينا فاجأ كثيرين، فقد كان ماكرون الرئيس الوحيد غير الأفريقي الحاضر لحفل تنصيب ديبي الابن في العام 2021. لكن دلائل تغيّر المشهد كانت واضحة، فقد كان لافتاً غياب فرنسا عن عملية ضدّ مجموعة «بوكو حرام» على طول الحدود النيجيرية في تشرين الثاني/نوفمبر. يمثّل الانسحاب الأخير شبه اختفاء للقوّة العسكرية الأوروبية الصلبة من غرب أفريقيا ووسطها، حيث يستضيف القوس الممتدّ من موريتانيا إلى السودان الآن قائمة متزايدة من الأطراف الأخرى: روسيا والصين والإمارات وتركيا. وكذلك فُكِّكَت الشبكة المدنية الفرنسية من مستشارين فنيين ومغتربين ومنظّمات غير حكومية كانت تبرّر الوجود العسكري لفرنسا وتعمل حلقة وصل لتدخلاتها المسلّحة. وفي حين أبدت الولايات المتّحدة عدم استعدادها التخلّي الكامل عما يصنّفه البنتاغون حليفاً أساسياً في مكافحة الإرهاب، تفاوضت سرّاً في الخريف على عودة وحدة من القوات الخاصّة إلى تشاد، بعد أن استدعت أفرادها في نيسان/أبريل الماضي.

في سياق ما يبدو أنّه أفول النفوذ الفرنسي في أفريقيا، لا تزال إحدى بقايا الحقبة الاستعمارية قائمة ألا وهي الفرنك الأفريقي، آخر أدوات السيطرة المهمة لباريس على مجالها السابق

ومع انسحاب فرنسا، عزّزت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي روابطها الاقتصادية مع المنطقة. تجاوزت ألمانيا بهدوء فرنسا كأكبر مُصدر في منطقة اليورو إلى أفريقيا، وكشفت هولندا في العام 2023 عن استراتيجية جديدة تجاه القارة تسعى من خلالها إلى إحياء «عقلية شركة الهند الشرقية الهولندية» – أي الروح «الدينامية» التوسعية العالمية لتلك الشركة الاستعمارية. أمّا إيطاليا بخطّتها المسماة خطة ماتيي، وإسبانيا تحت ستار إدارة تدفقات الهجرة، فقد رسمتا مسارات مستقلة بدورهما. في المقابل، تجد الدبلوماسية الفرنسية نفسها مهمّشة بازدياد في الساحات متعدّدة الأطراف. حتى المنصب المرموق لوكيل الأمين العام للأمم المتّحدة لعمليات حفظ السلام، المحجوز لفرنسا في السابق، يبدو الآن أقرب إلى الصين. وعلى صعيد مجلس الأمن، أحبط التقارب الصيني-الروسي مراراً قرارات فرنسية، انتقاماً من التحايل الفرنسي في فترة ما قبل الحرب الأهلية الليبية.

ورث ماكرون جزءاً كبيراً من هذا الوضع، ولم يفعل الكثير لتمييز نفسه عن أسلافه. اتسمت بداية رئاسته بنهج أبوي فظّ. كان يظهر وهو يرفع أكمامه ويتأمّل خرائط السهل، وكأن 5 آلاف جندي من عملية برخان بإمكانهم السيطرة على منطقة تمتد على 5 ملايين كيلومتر مربع. وفي نهاية المطاف، اضطر إلى التوسّل إلى نظرائه الأفارقة، مقدّماً مبادرات استرضائية: الاعتراف بمجزرة تياروي التي ارتُكِبت في السنغال في العام 1944، وتنظيم إعادة القطع الأثرية المنهوبة إلى بنين. لكن محاولاته للتواصل مع الجاليات الأفريقية، متصوّراً أنّه يستطيع إدارة أفريقيا «مع أفارقة» من باريس، باءت بالفشل. لم يكن أبناء ساحل العاج من مؤيّدي غباغبو، أو أبناء الكاميرون من معارضي بيا، أو أبناء الكونغو من مؤيدي ليسوبا على استعداد لتجاهل دعم فرنسا المتواصل للحكّام المستبدين. وزادت تناقضات ماكرون من الطين بلّة، لا سيما دعمه لعائلة ديبي في تشاد مع انتقاده لسلطة المجلس العسكري في مالي.

هذا الأسبوع، وفي ردّ فعل على موجة الانسحابات الأخيرة، اتهم ماكرون دول السهل بـ«نكران الجميل»: «نسوا أن يقولوا شكراً لفرنسا على تدخّلها ضدّ الإرهاب». وأضاف: «ما كانت أيّ من هذه الدول لتكون ذات سيادة اليوم لولا انتشار الجيش الفرنسي في المنطقة». وعلى الرغم من نبرة ماكرون الحاقدة في تصريحاته، وما أثارته من ردود فعل غاضبة من قادة السنغال وتشاد، فقد دفع سوء إدارته لملف مالي البعضَ إلى الاعتقاد بأنّ باريس كانت تبحث عن ذرائع للإسراع في انسحابها. وقد أبانت ملامحه عند إعلانه نهاية عملية برخان في حزيران/يونيو 2021 عن نية تقليص الوجود الفرنسي قبل أن يتصاعد السجال مع القوى المحلّية. أصبح نهج فرنسا الفردي غير مقبول بين حلفائها الغربيين، وبات التوافق مع الأعراف الدولية أمراً لا مفرّ منه. ويعني هذا في جوهره تبنّي النموذج الأميركي، والتخلّي عن القواعد العسكرية الدائمة والتدخّلات التقليدية لصالح الطائرات المسيّرة والقوات الخاصّة.

بنظر النقاد، يكشف هذا الحدث عن الطبيعة الحقيقية للفرنك الأفريقي: اتحاد يُحافظ عليه ليس من خلال التوافق ولكن من خلال ظل الجندرمة الفرنسية، ويعطي الأولوية للمصالح الفرنسية

وفي سياق ما يبدو أنّه أفول النفوذ الفرنسي في أفريقيا، لا تزال إحدى بقايا الحقبة الاستعمارية قائمة ألا وهي الفرنك الأفريقي، آخر أدوات السيطرة المهمة لباريس على مجالها السابق المعروف بـ«pré carré». ظهرت هذه العملة في ثلاثينيات القرن الماضي رداً على عملة منطقة الجنيه الإسترليني البريطانية، وصارت عملة رسمية في العام 1945، في اليوم ذاته الذي صادق فيه ديغول على اتفاقيات «بريتون وودز». رُبِطت العملة بالفرنك الفرنسي، والآن باليورو، مع ضمان قابلية التحويل من قِبل الخزانة الفرنسية. عقب الاستقلال، قُسِّمَ الفرنك الأفريقي إلى منطقتي عملة متمايزتين، لكلّ منهما بنك مركزي خاص: الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا وقوامه ثماني دول تمثّل تقريباً مستعمرات غرب أفريقيا الفرنسية السابقة، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا وقوامها ست دول من مناطق أفريقيا الاستوائية الفرنسية سابقاً. اليوم، تغطّي هاتان المنطقتان 14 دولة يبلغ مجموع سكانها نحو 160 مليون نسمة، بالإضافة إلى جزر القُمُر التي يعمل بنكها المركزي ضمن إطار مشابه.

لا تزال قدرة العملة على الصمود لغزاً مُحيِّراً، على الرغم من الاضطرابات السياسية في فترة ما بعد الاستقلال. في أوائل الخمسينيات، أثار انتهاء الحكم الاستعماري الهولندي في إندونيسيا نقاشات في فرنسا بشأن جدوى الاحتفاظ بالمستعمرات الخارجية. وقد أعاد مفهوم «العقدة الهولندية» الذي شاع لاحقاً على يد المؤرّخ جاك مارسييه صياغة المستعمرات بوصفها أعباءً تستنزف الاستثمارات من المركز. تجلّت هذه التوترات بوضوح في الطرح الساخر للصحافي ريمون كارتييه الذي دعا لإنهاء الإمبراطورية عبر شعار «كورّيز قبل زامبيزي»، وهو شعار تبنّاه ريمون آرون في سلسلة من النصوص المؤثرة نُشرت في خلال حرب الجزائر. وبقبوله حتمية تفكيك الاستعمار، طرح آرون إمكانية فصل الوحدة النقدية عن السيادة السياسية، واضعاً بذلك الأسس النظرية لما سُمّي لاحقاً بـ«التعاون» الاستعماري الجديد.

لم تَسِرْ الأمور بسلاسة للفرنك الأفريقي. ففي المنطقة المغاربية، كما في الهند الصينية، اختارت الدول المستقلة حديثاً التحرّر من النظام النقدي الفرنسي على الفور. وإلى الجنوب من الصحراء، قطع سيكو توري علاقات غينيا بالنظام في العام 1958، ما دفع ديغول للانتقام عن طريق الإيعاز لجهاز الاستخبارات الفرنسي بإغراق البلاد بالعملات المزوّرة. غادرت مالي منطقة الفرنك في العام 1962، لتعود إليها في العام 1984، بينما خرجت مدغشقر وموريتانيا في العام 1973. ولعل حالة توغو الأبلغ دلالة، ففي العام 1962، سعى رئيسها سيلفانوس أوليمبيو، أحد مريدي هارولد لاسكي في كلية لندن للاقتصاد والمدير السابق في شركة يونيليفر، إلى تخفيف الروابط مع فرنسا. وبعد أن استقطبته واشنطن وكان بجانبه مستشار نقدي ألماني، وضع خططاً لإنشاء عملة وطنية كانت تهدّد بتفكيك منطقة الفرنك. في أوائل العام 1963، حين بدا الاتفاق وشيكاً، اغتيل أوليمبيو عبر انقلاب عسكري. وأعاد خلفه، الأقرب إلى المصالح الفرنسية، توغو إلى حظيرة الفرنك بسرعة.

بنظر النقاد، يكشف هذا الحدث عن الطبيعة الحقيقية للفرنك الأفريقي: اتحاد يُحافظ عليه ليس من خلال التوافق ولكن من خلال ظل الجندرمة الفرنسية، ويعطي الأولوية للمصالح الفرنسية. قدّمت منطقة الفرنك على مدار عقود مزايا مغرية لباريس: وصول موثوق إلى المواد الخام، مع الدفع بعملتها الخاصة، جنباً إلى جنب مع الريوع الناتجة عن التحكّم في الواردات. وتمكّنت الشركات الفرنسية بفضل القابلية غير المحدودة لتحويل أرباحها من تحويل الأرباح من دون الالتزام بإعادة الاستثمار المحلي أو التعرّض لمخاطر العملة. ومع معرفتها بنظام فرنسا النقدي، حصلت على ميزة تنافسية على منافسيها الدوليين – مع دعمٍ من عناصر «الشوك 11»، إذا لزم الأمر. أصبحت العقود العامة الكبيرة في أفريقيا جزءاً أساسياً من الحياة السياسية الفرنسية، مع تحصيل تلك العقود بالرشاوى والعمولات. وكانت شركة النفط إلف، على وجه الخصوص، بشبكتها المشبوهة من الوسطاء الذين استغلهم كلّ من التيار الديغولي والاشتراكي، بمثابة المحرّك المالي الرئيس لنظام الجمهورية الخامسة ذي الحزبين.

وصف النقاد المشاركة في الفرنك الأفريقي بـ«العبودية الطوعية». لا تزال باريس الحكم، وتدير النظام بطريقة رد الفعل ولا تتنازل إلّا بالحد الأدنى اللازم للحفاظ على النظام

تساعد العوامل الداخلية أيضاً في تفسير استمرارية العملة. فقد حافظت اقتصادات منطقة الفرنك على قوتها النسبيّة إبان الأزمات، وأحدثها جائحة كوفيد-19، ما عزّز الثقة في السوق. في المقابل، قد تمثّل انخفاضات قيمة العملة مشكلة للحكومات الأخرى، كما تبيّن من انتخابات غانا هذا العام، حيث تلقى الحزب الحاكم (الحزب الوطني الجديد) عقاب المتقاعدين والطبقة الوسطى عبر صناديق الاقتراع بعد انهيار العملة المحلية (السيدي) في العام 2022. ومنذ الاستقلال وحتى أوائل الألفية، بلغ متوسط التضخّم في دول منطقة الفرنك 7%، مقارنة بأكثر من 75% في بقية القارة. ومنذ أن اعتمدت فرنسا اليورو، لم يتجاوز 3%. وهذا الاستقرار دفع غينيا الاستوائية وغينيا بيساو للانضمام إلى الفرنك الأفريقي على الرغم من عدم ارتباطهما الاستعماري بفرنسا. من منظور النخب الكمبرادورية، تقدّم القابلية المضمونة للتحويل مزايا واضحة، إذ تتيح تراكم الثروات في ملاذات مالية آمنة داخل منطقة اليورو. وعلى الرغم من أنّ هروب رأس المال قد استنزف المالية العامة، يرى مؤيدو المحافظة النقدية أنّ استقرار النظام يحمي الفقراء (مَن لا يحصل على العملات الأجنبية) من الآثار المدمّرة لدورات التضخّم.

وصف النقاد المشاركة في الفرنك الأفريقي بـ«العبودية الطوعية». لا تزال باريس الحكم، وتدير النظام بطريقة رد الفعل ولا تتنازل إلّا بالحد الأدنى اللازم للحفاظ على النظام. حين أحدث انهيار نظام «بريتون وودز» في العام 1971 اضطرابات في دول منطقة الفرنك، استجاب الرئيس بومبيدو بتعيين موظّفين كبار من أفريقيا ونقل مقرات البنوك المركزية إلى داكار وياوندي – وهي إجراءات لم تكن كافية لتحقيق ما دعا إليه الاقتصادي سمير أمين من العودة إلى العملات الوطنية. وقد طبع نهج مماثل إصلاحات الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا في العام 2019، وكانت قد أُقرّت وسط عدم الاستقرار في منطقة السهل وارتفاع التوترات داخل مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس). شملت هذه الإصلاحات إزالة ممثل وزارة الخزانة الفرنسية من اللجنة النقدية لغرب أفريقيا – الهيئة الحقيقية لصنع القرار في المنطقة – بعدما ضمنت باريس بقاء المنصب تحت نفوذها. وفي الوقت نفسه، احتفظ بنك فرنسا بموقعه في اللجنة النقدية الخاصة بمنطقة وسط أفريقيا.

تركّز جزء كبير من الانتقادات الموجّهة إلى إدارة فرنسا لنظام الفرنك الأفريقي على فشلها المتصوّر في الوفاء بدورها كضامن، وهو المبرّر المعلن للمركزة النقدية. بلغ التوتر ذروته إبان أزمة الديون في الثمانينيات. فقد دفعت صدمات النفط المزدوجة في السبعينيات الدول المستوردة للطاقة إلى الاقتراض بكميات ضخمة، بينما غمرت الإيرادات الفائضة من صادرات النفط البنوك الغربية – ما غذّى سوق اليورودولار. في منطقة الفرنك، موّلت القروض الرخيصة توسّع الجهاز الإداري ومشروعات البنية التحتية الحضرية، لا سيما في أبيدجان؛ حيث سعى فيليكس هوفويت-بويجي إلى «أوربة» عاصمة ساحل العاج وإثبات هيمنتها على كل من داكار ولاغوس. لكن الرياح انقلبت في أوائل الثمانينيات بعد أن رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة، لترتفع بسببه كلفة خدمة الدين الخارجي بشكل حادّ. أدّى تخلف المكسيك عن سداد ديونها في العام 1982 إلى انهيار التدفقات الرأسمالية. أما في منطقة الفرنك، فقد تعقدت الأزمة بسبب تخفيض الحكومة الفرنسية لقيمة الفرنك الفرنسي، ما وسّع الفجوة بين الفرنك الأفريقي والدولار الأميركي. تضخّم العجز التجاري، وارتفعت كلفة خدمة الدين، واضطرت باريس في النهاية إلى إنقاذ اقتصاد ساحل العاج المتعثّر.

بحلول أوائل التسعينيات، انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي في الخزينة الفرنسية تحت العتبة التنظيمية البالغة 20% من القاعدة النقدية للفرنك الأفريقي. وبعد فشل برامج التكيّف الهيكلي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فرضت فرنسا تخفيضاً بنسبة 50% على قيمة الفرنك الأفريقي في العام 1994، على الرغم من المعارضة الشديدة للقادة الأفارقة. وفي محاولة لتحويل اللوم، اعتمد ميتران على مؤسسات إجماع واشنطن – وبالتحديد صندوق النقد الدولي، وكان يترأسه في ذلك الوقت محافظ البنك الفرنسي السابق ميشيل كامديسوس. تركت عملية التخفيض جروحاً عميقة، وكشفت عن فشل الفرنك الأفريقي في الوفاء بوعوده الأساسية، وأهمها التكامل الإقليمي. فبينما كانت التجارة بين الدول الأعضاء قد توقفت عند نسبة متواضعة 15%، كانت النسبة في منطقة اليورو تزيد عن 60%. كما أنّ اقتصادات الدول الأعضاء ما زالت تعتمد على صادرات المواد الخام كألياف القطن، التي تبيعها دول السهل خام في الأسواق الدولية. وعلى الرغم من أنّ نظام العملة الفرنك الأفريقي سهّل أعمال الشركات الفرنسية في المنطقة، فقد قوض قدرة الصناعة المحلية على التنافس مع المنتجين النيجيريين والغانيين الذين يستفيدون من معدلات الصرف المدارة.

الفرنك الأفريقي كان، لفترة طويلة، أداة للسيطرة أكثر من كونه أداة للثراء الاستعماري، لا سيما منذ فتح التحول إلى اليورو النظام للمنافسة الأوروبية

لكن الفرنك الأفريقي كان، لفترة طويلة، أداة للسيطرة أكثر من كونه أداة للثراء الاستعماري، لا سيما منذ فتح التحول إلى اليورو النظام للمنافسة الأوروبية. وعلى الرغم من أنّ المصالح الفرنسية لا تزال كبيرة، فقد باتت أفريقيا مجموعة مجزأة من الفجوات الجغرافية والقطاعية لرأس المال الفرنسي. بدأ الانفصال في وقت مبكر من الثمانينيات، بالتوازي مع صعود نوع من «التشاؤمية الأفريقية» بين النخب التجارية – وهي مشاعر روّجت لها شخصيات متنوّعة من أمثال المدافع عن الفصل العنصري برنارد لوغان والصحافي السابق في صحيفة ليبيراسيون ستيفن سميث (باتت تحتفي به اليوم المؤسسة الماكرونية بوصفه نبي «التنافس الأوروبي على أفريقيا»). تمثل التجارة مع دول الفرنك الأفريقي، اليوم، حصة ضئيلة من الاقتصاد الفرنسي – وقرابة 10% من وارداته مما يسمّى بالموارد الاستراتيجية.

على الرغم من تراجع الفائدة الاقتصادية للعملة في هذه الأيام، واصلت باريس استخدام نفوذها للتدخل في النزاعات الإقليمية. في خلال الأزمة السياسية الطويلة في ساحل العاج في العقد الأول من الألفية، وهذه بلغت ذروتها في المواجهة التي تلت انتخابات 2010-2011، دعم الرئيس ساركوزي صديقه الحميم الحسن واتارا ضد الرئيس المنتهية ولايته لوران غباغبو. هدّد اتحاد غرب أفريقيا بتجميد وصول غباغبو إلى الحسابات الحكومية، بينما أغلقت البنوك الفرنسية فروعها منتصف الأسبوع، ليتعطّل بالتالي دفع الرواتب وتزيد الضغط على النظام. في الآونة الأخيرة، كان شبح فرض قيود مماثلة على العملة، إلى جانب عقوبات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، يلوح في الأفق على الأنظمة الرجعية لتحالف دول السهل (النيجر وبوركينا فاسو ومالي)، وهو تهديد دفعها إلى مغادرة المجموعة. يثير استخدام الأدوات النقدية في الضغط السياسي تساؤلات بشأن المسائل المتعلقة بتطبيق القانون خارج الحدود وانتقادات من عيّنة ما وجهته الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا، إلى الدولار.

تبدو التناقضات الداخلية اليوم تقترب من نهايتها. فقد أبرزت الاضطرابات السياسية جيلاً جديداً من القادة الأفارقة يردّد انتقادات ما بعد الاستقلال للعيوب البنيوية للنظام. وفي الوقت الذي دفع فيه 22 عاماً من التوجهات الاقتصادية ما بعد معاهدة ماستريخت في فرنسا بمفهوم السيادة إلى أطراف النقاش السياسي، أصبح هذا المفهوم شعاراً موحّداً في غرب أفريقيا، حيث حفّزت القضايا النقدية الشباب السياسيين. ففي كانون الأول/يناير 2017، شهدت دكار تجمّعاً حطّم فيه الناشط البان-أفريقي كيمي سيبا ورقة نقدية من فئة 5000 فرنك أفريقي أمام كاميرات التلفاز، وكان في السابق شخصية هامشية على الإنترنت في فرنسا، ورمزاً غير متوقع للاحتجاجات المناهضة لباريس في القارة. وقد توجت هذه الموجة من التحرّكات التي هزت أيضاً بوركينا فاسو عبر حركة بالي سيتويين، بفوز حزب باستف في السنغال في آذار/مارس الماضي، بعد حملة انتخابية ركّزت بشدة على معارضة الفرنك الأفريقي.

على الرغم من الضغط المتجدّد للتخلّي عن العملة، لا يوجد إجماع على البديل: إصلاح الفرنك الأفريقي أو تبنّي العملات الوطنية أو وضع مخطّط جديد تماماً للاندماج الإقليمي. البديل الأوضح إلى الآن هو العملة المشتركة الموحّدة للدول الأفريقية الغربية تحت اسم (الإيكو). في البداية، طرحت الإيكو الدول الناطقة بالإنكليزية بقيادة نيجيريا للحدّ من النفوذ الفرنسي، ومنذ ذلك الحين أصبحت أداة نيجيريا لتوطيد التحالفات وفرض قيادتها ضدّ أبيدجان، وأداة من الناحية الاستراتيجية لموازنة الهيمنة الصناعية لجنوب أفريقيا. لكن الانتقال إلى الإيكو يثير أسئلة معقدة: هل ستُربط باليورو، أو ترتبط بسلة من العملات – بينها اليوان والروبل والدولار – أو تُترك عائمة بحرية؟ كل سيناريو يحمل مخاطر زيادة التعرض للدورات الاقتصادية المتباينة. هل ستتولّى نيجيريا، أكبر مُصدر للنفط في القارة، دور المقرض الأخير؟ النهج المتردّد في طرح هذه الأسئلة عند إطلاق المشروع يشير إلى خلاف ذلك. أُعاد ماكرون وواتارا إحياء الإيكو في إطار الإصلاحات في العام 2019، وكان من المقرر أن تحل محل الفرنك الأفريقي في الاتحاد الغربي الأفريقي بحلول العام 2020، وهو جدول زمني رُفض بسرعة لعدم واقعيته وتم تأجيله إلى أجل غير مسمى تحت ذريعة أزمة كوفيد. عدّ الكثيرون ذلك محاولة من باريس وأبيدجان لقطع الطريق على الكتلة الناطقة بالإنكليزية. في العام 2021، عادت إيكواس لمناقشة الإيكو مع خارطة طريق تستهدف العام 2027، ولكن التقدّم الفني لا يزال بعيد المنال، وتبدو معايير التقارب المقترحة غير قابلة للتحقيق لمعظم دول الاتحاد.

يثير استخدام الأدوات النقدية في الضغط السياسي تساؤلات بشأن المسائل المتعلقة بتطبيق القانون خارج الحدود وانتقادات من عيّنة ما وجهته الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا، إلى الدولار

لا تزال الانقسامات العميقة قائمة خلف الخطاب الذي يتغنّى بالتضامن الأفريقي. في السنغال، تتأرجح الحكومة الجديدة بين العمل ضمن النظام القائم والسعي إلى قطع شامل معه. تميل كتلة تحالف دول السهل إلى التكامل الفرعي من دون التخلي عن مبدأ العملة المشتركة. بيد أنّ هذا سيترك النيجر وبوركينا فاسو ومالي، وهي ثلاث من أفقر دول العالم، معرضة للمنافسة من العملة الفرنسية أو الإيكو المقترحة. كما توجد تفاوتات حادة بين الاقتصادات الأفريقية: بين دول السهل التي تتمتع بموسم جفاف واحد، والدول الساحلية التي لديها موسمان؛ وبين الدول شبه الصناعية كالسنغال وساحل العاج وجيرانهما المعتمدين على صادرات السلع الأساسية. من جهة أخرى، تعكس النقاشات الحالية بشأن مستقبل الفرنك الأفريقي تحوّلاً اقتصادياً جارٍ في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. فالاكتشافات الأخيرة للنفط قبالة سواحل السنغال والاستكشافات الواعدة في النيجر تحوّل هذه الدول إلى مُصدِّرين استراتيجيين للسلع الأساسية. قد يفاقم هذا التحوّل التباين في الدورات الاقتصادية داخل منطقة الفرنك ويطرح تحدّياً لمبدأ الاحتياطيات المشتركة. دول كالسنغال، كانت مستفيدة من النظام في السابق، قد تصبح الآن مساهماً صافياً وقد تقاوم تقاسم ما كانت تعتمد عليه سابقاً.

يخفي الاستقرار الظاهري للعملة واقعاً متقلباً. في الوقت نفسه، تشتعل التوترات الجيوسياسية بالتنافسات الإقليمية. منذ غزو روسيا لأوكرانيا ورفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة، تفاقم تراجع اليورو مقابل الدولار فزادت أعباء الديون المقوّمة بالدولار على دول منطقة الفرنك. وبالنظر إلى العجز التجاري المستمر في منطقة الفرنك، يعتمد استقرار الفرنك على تدفقات العملات الأجنبية المنتظمة من أعضائه الأقوى - ساحل العاج في الغرب، وفي وسط أفريقيا، الدول الصغيرة المنتجة للنفط التي تظل فوائضها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية. لقد أعطت الأولويات المتباينة بين دول غرب أفريقيا حتى الآن مهلةً لفرنسا. كما لاحظ مراسل صحيفة لو موند في العام 1964، وربما لم يكن يتخيل صمود منطقة الفرنك لنحو 80 عاماً، «أنّ استقلال ساحل العاج قد تحقق ضد داكار أكثر مما تحقق ضد باريس». وأضاف: «باستثناء كوناكري ربما، ينطبق هذا عبر غرب أفريقيا: نواكشوط ضد الرباط وداكار، داكار وباماكو ضد بعضهما البعض، لومي ضد أكرا، بينما لا تزال كوتونو ونيامي وواغادوغو تحاول، مع نجاحات متفاوتة، أن تحقق استقلالها عن أبيدجان». مع انسحاب فرنسا، قد يكون من الحتمي أن تعود هذه التنافسات إلى الواجهة.

نُشِر هذا المقال في Sidecar في 10 كانون الثاني/يناير 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.