Preview مظاهرة عمّالية مطلبية في واشنطن في ستينيات القرن الماضي

مظاهرة عمّالية مطلبية في واشنطن في ستينيات القرن الماضي

الحرِّية والعمل

أدّى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى تعريف الكثير من الناس بأعمال العلماء والفلاسفة عن طريق الاقتباسات. وعلى الرغم من أن الاقتباسات تكون رائعة عندما تثير فضولنا وتقودنا إلى التأمّل في الأعمال الأكبر لهؤلاء الفلاسفة، إلّا أنّها تكون أقل إثارة للاهتمام عندما تعمل كمجموعة من المقتطعات الصوتية التي قد تلقي بظلالها على السياق الأوسع الذي تمّ توضيحها فيه للمرّة الأولى. وإذا ما اُنتزعت من السياق، يمكن للعبارةِ أو الفقرة أن تكون مُضلّلة أو مُختزلة إلى شعار فارغ، غالباً من النوع المُتكرِّر واللافت المُستخدم في الإعلان. وسواء كانت تحثُ على التأمّل المعمّق أو أنّها تحوّلت إلى نقطة انطلاق لممارسة السياسة الشعبوية، تشكّل هذه الاقتباسات أدوات قويّة للتواصل.

العمل المأجور والحرِّية

مِن وصف الدين بأنّه أفيون الشعوب إلى دعوة عمّال العالم إلى الاتحاد، اقتُبس من كارل ماركس الكثير على نطاقٍ واسع. قبل بضعة أشهر، في عيد العمّال في الأوّل من أيّار/مايو، صادفت اقتباساً آخر له، ربّما أقل شهرةً، عن العلاقة بين العمل والتحرّر. في هذا الاقتباس1 ، يفترض ماركس أنّ الحرية تبدأ (1) في المجتمع، (2) عندما ينتهي العمل الضروري، وهي فكرة جميلة للشواغل النظرية الرئيسية التي حفّزت عمل ماركس. وإذا كان هذا الاقتباس قابلاً لتفسيرات مختلفة (ما هي الحرِّية؟ ما هو العمل الضروري؟)، يجب أن يذكِّرنا غموضه أيضاً بفكرة تكمن في صميم المنهج الماركسي والمادي التاريخي، وهي أنّ البحث عن لغة يمكن بها تفسير مستقبل الحياة البشرية كلّها، سيظل دائماً غير مُكتَمل، مهما كان. إن قراءة هذا الاقتباس ورؤيته متداولاً في يوم العمّال يذكِّرني كيف أن دافع حرِّية الإنسان يكمن في قلب الفكر والممارسات الاقتصادية السياسية، والذي يعمل باستمرار على صياغة البيئة والدول والمجتمعات، وتشكيل الذات الفردية والجماعية. 

أود هنا أن أتأمّل في ما يحدث عندما يُدفع بالتناقضات الرأسمالية إلى أقصى حدودها، لدرجة أنَّ هذا النظام الاقتصادي القاسي يفشل حتى في الوفاء بأحد وعوده الأولية والأكثر استدامة: حرِّية البحث عن عملٍ مأجورإنَّ مفهوم ماركس عن الحرِّية يشمل ما يشير إليه إريك فروم بالأشكال السلبية والإيجابية للحرِّية: التحرُّر من قيود الطبيعة التي تفرض على البشر صعاباً جمّة واعتلالاً في الصحة وحرِّية لشكل مُعيَّن من المجتمع حيث «يمكن لتطوّر الطاقة البشرية (…) أن يزدهر». ولا تزال هذه المصطلحات (العمل والحرِّية) والأطر المفاهيمية التي تجعلها مُمكنة موضوعاً لعدد لا يحصى من المناقشات العلمية والشعبية. عموماً أنا لست مُهتمة كثيراً بالانخراط في هذه النقاشات. بدلاً من ذلك، وبالتركيز على جانبٍ واحدٍ من العمل الضروري وهو العمل المأجور، أود هنا أن أتأمّل في ما يحدث عندما يُدفع بالتناقضات الرأسمالية إلى أقصى حدودها، لدرجة أنَّ هذا النظام الاقتصادي القاسي يفشل حتى في الوفاء بأحد وعوده الأولية والأكثر استدامة: حرِّية البحث عن عملٍ مأجور.

نهاية العمل؟

ومن الحقائق المعروفة جيّداً الآن أنّه ليس كلّ من يريد أن يعمل أو يحتاج إلى العمل أو ينبغي له أنّ يعمل سيكون قادراً على القيام بذلك على هذا الكوكب. ويرجع ذلك جزئياً إلى التغيّر التكنولوجي والصراعات والتهجير والتطوّر المستمر للذكاء الاصطناعي والمكننة والتحوّلات الزراعية التي لا تزال تُقلِّل من الطلب على العمل البشري. وكانت التحوّلات الهيكلية للرأسمالية نفسها أكثر جلاءً في السنوات الأخيرة، حيث أدّى تكثيف عمليّات الأمولة، ضمن أمور أخرى، إلى إحداث تغيير جذري في العلاقات الاجتماعية للإنتاج والاستهلاك. حيث يمكن صنع المال من المال، وحيث إسهام العمل البشري (وكذلك استهلاك السلع والخدمات) لم يعد مطلوباً.

السياسات

وقد طرحت الحكومات والمؤسّسات المالية الدولية سياسات مختلفة لمعالجة مشكلة العدد المُتزايد من المعطلَّين عن العمل، والذين قد يكونون راغبين أو مُجبرين على العمل بأجور أقل وحقوق أقل، وهو ما يُعبَّر عنه بالمصطلح الماركسي بجيوش العمل الاحتياطيّة. وعلى هذا، فقد نشأت اقتصادات أخلاقية واجتماعية جديدة تتسم بالعمل غير المُستقرّ، فضلاً عن عدد لا يحصى من التدخّلات التقنية، جنباً إلى جنب مع التحوّلات الأوسع التي شهدتها الرأسمالية العالمية. فمن المؤثِّرين إلى الاستشاريين، ومديري صناديق التحوّط، وجماعات الضغط، يعجُّ المجتمع بما يسمّيه ديفيد غرايبر بالوظائف العبثية. هذه الوظائف غير مُجدية من الناحية الاجتماعية، وهي في الواقع تُلحِق الضرر بالأفراد الذين يؤدونها. كما تعمل قوى السوق أيضاً على تدمير الوظائف المفيدة اجتماعياً، بأكثر من طريقة. في المهن المُرتبطة بالصحّة على سبيل المثال، تخلق مبادئ المشروع الحرّ (حيث تُوصف الرعاية كسلعة والمرض والجسد البشري كفرص لتوسيع السوق) ظروف عمل غير مستقرّة بشكلٍ متزايد للممرّضات أثناء تشكّل مسارات التدريب الطبّي، وتقسيم العمل، والممارسة. واسمحوا لي أن استطرد قليلاً هنا لأعطي مثالاً على ذلك: أثناء انتشار الوباء في عدد لا يحصى من المستشفيات في جميع أنحاء أوروبا، كان هناك أطباء على درجة عالية من التخصّص يتجولون في الأرجاء من دون جدوى عاجزين عن رعاية المرضى من ذوي الحالات الحرجة لأنّهم لم يعودوا مدرَّبين على الرعاية العامّة والمهارات والمعرفة (الأقل قيمة). وفي الآونة الأخيرة، انتشرت كذلك التقنيات النيوليبرالية الحكومية، مثل البرامج التي تستهدف مكافحة الفقر أو برامج المساعدة المالية المباشرة. (سيضيف بعض الباحثين خطط الدخل الأساسي العالمي إلى هذه القائمة ولكن يمكن تأجيل هذا الموضوع لوقتٍ آخر). وتنطوي هذه البرامج ضمناً على فكرة الفقر باعتباره ثقباً وجودياً كبيراً في الكون يتعثّر فيه المرء ويسقط بشكلٍ عشوائي. وعلى حين تسعى هذه المُخطّطات إلى الحدّ من إنزلاق الناس في الثقب الأسود للفقر، فإنّها لا تفشل في معالجة القوى الهيكلية المُتسبِّبة في التفاوت الاجتماعي فحسب، بل إنّها تسمح للرأسمالية كذلك بدمج القيم السياسية التخريبية، وإعادة إنتاج نفسها.

الغموض المفاهيمي

أكثر من مجرد جيش احتياطي من العمّال، فإن المعطلَّين عن العمل بشكلٍ دائم والذين لم يوظّفوا إطلاقاً هم أشخاص موجودون في فائض عن احتياجات العمل الحالية لمجتمعاتنا. تسميهم عالمة الاجتماع ساسكيا ساسن المجموعات المطرودة، أي مجموعات الأشخاص الذين، في ظلّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية، يصبحون غير مرئيين في مقولاتنا المفاهيمية والإحصائية التقليدية. والحديث عن المطرودين يتطلّب لغة جديدة وابتكاراً مفاهيمياً. أفكّر هنا على سبيل المثال في مصطلح «حيطيست» الذي ظهر في الجزائر في خلال ثمانينيات القرن العشرين، بالتزامن مع توطيد النيوليبرالية العالمية في الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة. لا يحتاج مصطلح «حيطيست» إلى شرح: الملازم أو الملاصق للحائط، أو في تعبير أكثر عمومية: الذي يسند الحائط. على الرغم من أن المصطلح مُهين في بعض الأحيان، إلّا أنّه يُقدِّم أيضاً صورة مُقنعة تتحدّث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يعيش فيها العديد من الناس، اللبنانيين وغيرهم اليوم.

بدلاً من عمل أقل، في العام المقبل، وفي الوقت الحالي، أعتقد أنّني أود أن أتمنّى لكلّ شخص عملاً ذا معنى يقلب الطرق السائدة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض، ويضمن حقّهم في العيش والبقاء والعمل في حرِّيةإن التجوال حول المناطق الفقيرة في بيروت يميط اللثام عن مشهد للمدينة يقطنها رجال يقفون بالعشرات عند كلّ زاوية، يدخّنون، يجلسون، ملتصقون بهواتفهم، يتجادلون، يحملون أسلحة، يديرون مهمّات صغيرة مقابل الفتات، أو يقدّمون خدمات عارضة في مقابل البقشيش. في بعض الأحياء، غالباً ما أتخيّل كم من هؤلاء الرجال كان يحمل العصي والحجارة ضدّ المتظاهرين أو ضدّ بعضهم البعض في خلال احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019. في ذلك الوقت، العديد من الأصوات اتهمتهم بتخريب الانتفاضة، واصفين إياهم بـ «الشبيحة» و«المندسين». وقام آخرون عن طريق استخدام «التحليل الطبقي» بتفكيك هذه المصطلحات، حيث زعموا أنّهم ينتمون إلى حثالة البروليتاريا بحجّة إنّه يمكن حشدهم وإنّ كان ذلك وفقاً لشروط وتسجيلات مختلفة. حتى أنّ العديد من الجماعات المدنية نظّمت مسيرة في أحياءٍ مثل الخندق الغميق داعية إلى التقارب، ومطالبة هؤلاء بالانضمام إلى الانتفاضة التي تهدف إلى استعادة حقوقهم في البداية. قد يبدو من غير البديهي أن نكتب عن كلّ هذا الآن لأنّ العام 2019 يلوح كذكرى غامضة، ولكن لا تزال هذه الديناميكيّات جزءاً كبيراً من الحياة اليومية في العديد من أحياء بيروت ومدن أخرى في لبنان. هناك العديد من المطرودين الذين يجلسون على كراسي بلاستيكية تحت البوغانفيل (الزهور الجهنمية) الملوّنة في بيروت، وتحيط بهم أعلام الحزب، ولافتات من الشعارات، وصور الرجال النافذين، وغير ذلك من الشارات.

حرِّية؟

ما أريد الوصول إليه هو أنّ المطرودين يشكِّلون حضوراً لا يمكن التغاضي عنه لأشكالٍ أخرى من العلاقات الاجتماعية التي تقف في تناقضٍ صارخٍ مع العلاقات الاستهلاكية التي تشكِّل الفضاء الحضري، خصوصاً في بيروت. ما هي العلاقة إذن بين الرجال الذين يقبعون في ظلال نبات الجهنمية، والمطرودين، وفائض السكّان، والبروليتاريا الرثّة، والشبيحة، والمندسّين من جهة، وشبه إنهاء العمل المأجور الذي يلوح في الأفق من جهة أخرى؟ إنّ هؤلاء الذين لا يعملون في عملٍ مربحٍ أو هادفٍ يسكنون عوالم لا قيمة فيها للحرِّية، وحيث كان من المُمكن استخلاص قواعد السلوك الاجتماعية والأخلاقية من أيّ من قصص وروايات ليو شاشا عن المافيا الصقلية. وعلى الرغم من أنّ هذه العوالم تُحرِّكها قواعد مُحدَّدة للشرف، فإنّها لا تنمو بشكلٍ مستقلّ عن الرأسمالية العالمية أو خارجها. في الواقع، العلاقات الاجتماعية، والقوى الغرائزية التي تحلِّل الحياة في هذه العوالم يتمّ تنظيمها مباشرةً عن طريق قوى السوق.

وأخيراً، إسمحوا لي أن أقول الآتي. تماشياً مع الشعور العام باللامبالاة والتشاؤم، لا أعتقد أنّ لديَّ حجّة رائدة لأقدِّمها هنا. ما كنت أحاول أن أوضحه ببراعةٍ غير كافية، هو الدعوة إلى التجديد النظري والعملي لما يلي: كيف نتصوّر عوالمنا الاجتماعية؟ وكيف ينبغي لنا أن نفكِّر من خلال التحالفات بين السلطة السياسية، وتحوّلات السوق، والبروليتاريا الفرعية الحضريّة، أو من أسمّيهم تبعاً لساسن بالمطرودين. عند التفكير في الفائدة الاجتماعية للعمل المأجور، لا أريد أن يتمّ فهمي على أنّني أتبنّى وجهة نظر نفعيّة، ولا على أنني أعلِّق على أخلاقيّات عمل معيّنة في ظلّ الرأسمالية. بل على العكس من ذلك، كنت أفكّر في كيفيّة إعادة النظر في فهمنا للحرِّية باعتبارها القيمة الوحيدة التي توجِّه العمل السياسي. هناك أيضاً تدخُّل نسوي يجب القيام به هنا بشأن العمل الضروري لإعادة الإنتاج الاجتماعي على الرعاية، التي لا يمكن التحرُّر منها. في جميع الحالات، أريد أن أقترح أنّنا بحاجة إلى التفكير في كيفيّة إعادة هيكلة علاقات العمل حول التعايش ونوع من «الحياة الجيّدة» التي لا تدمِّر الكوكب، والأشكال الأخرى من الحياة غير البشرية وبعضها البعض. بدلاً من عمل أقل، في العام المقبل، وفي الوقت الحالي، أعتقد أنّني أود أن أتمنّى لكلّ شخص عملاً ذا معنى يقلب الطرق السائدة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض، ويضمن حقّهم في العيش والبقاء والعمل في حرِّية. تهانينا المتأخِّرة بعيد العمّال.

  • 1مأخوذ من المجلّد 3 لرأس المال.