اقتصاد غزّة من منكوب إلى مدمّر
قد تبدو الأبعاد الاقتصادية للحرب الإسرائيلية على غزّة ثانوية أمام المجزرة البشرية والمآسي الإنسانية المسجّلة حتّى الآن، إلا أنها في الواقع وجه من وجوه حرب الإبادة الجماعية والترحيل القسري التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ أكثر من 7 عقود لدفعهم خارج أرضهم بشتّى الطرق والوسائل. وحالياً تستكمل دولة الاحتلال أحد فصول هذه الحرب في غزّة، وتحوّلها من أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم إلى أكبر مقبرة على الكوكب، لا خيار أمام الناجين من الحرب سوى الموت فيها أو محاولة البحث عن بديل لها، وهذا ما تسعى إليه دولة الاحتلال.
لا يزال المدى الزمني للحرب على غزّة ونتائجها العسكرية والسياسية غير واضحين، وهذا ما يجعل أي محاولة لتحديد كلفة الحرب وقيمة الخسائر المُحتملة غير مُمكنة ومشكوك بجدواها فيما الحرب مستمرّة ويسقط جراءها شهيد كلّ 5 دقائق ويصاب حريج كلّ دقيقتين. مع ذلك، يستند «معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني» (ماس) إلى الوقائع الناتجة عن الحرب حتى الآن، والمؤشرات التاريخية لحروب سابقة من أجل تقدير بعض الأوجه التي قد يرسي عليها اقتصاد غزّة بعد خفوت أصوات المدافع والصواريخ.
1- من اقتصاد على حافة الانهيار إلى اقتصاد متوقّف
ساهم الحصار الاقتصادي المطبق على قطاع غزة منذ أكثر من 16 عاماً في تراجع مساهمته في الناتج المحلّي الفلسطيني من الثلث إلى 17% بحسب «ماس»، أي يشكّل نحو 2,7 مليار دولار. وهذا ما جعل القطاع يوصف بأنه على حافة الانهيار قبل اندلاع الحرب نتيجة ارتفاع نسبة البطالة فيه إلى 46%، وعيش 82% من سكّانه تحت خط الفقر الوطني، ومعاناة 64% من انعدام الأمن الغذائي، واعتماد 80% منهم على المساعدات.
اقتصاد غزّة توقّف كلّياً عن العمل اعتباراً من الربع الأخير من العام 2023 ولأجل غير معروف
لكن بنتيجة الحرب الأخيرة التي تعدّ الأشرس في تاريخ القطاع، يستنتج «معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني» من حجم التدمير والقتل والتهجير الحاصل بأن «اقتصاد غزّة توقّف كلّياً عن العمل اعتباراً من الربع الأخير من العام 2023 ولأجل غير معروف». ويقول إنه «إذا كان هناك من نشاط اقتصادي فهو لا يتعدّى كونه اقتصاد كفاف أو اقتصاد البقاء على قيد الحياة».
2- 25% إلى 50% خسارة في الناتج المحلّي
في جولات الحروب السابقة، ولا سيّما حربي 2008-2009 و2014، اللتين كانتا تعتبران الأقوى منذ بدء الحصار، أصيب اقتصاد غزة بصدمة أدّت إلى تراجعه بنسبة 10% بحسب «ماس»، ولكن سرعان ما «تعافى» منها مع إطلاق عملية إعادة التعمير بمجرّد انتهاء الحرب.
من المقدّر خسارة ما لا يقل عن 25% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وربما مثيله في الربع الأول من العام 2024
الفارق بين الحربين المذكورتين والحرب الحالية، أنهما لم تطالا جميع مناطق القطاع ولم تتسبّبا سوى بتدمير نحو 10% من مبانيه بالمقارنة مع 45% الآن. عدا أنهما لم تكونا بشراسة الحرب الحالية ولم تبرز خلالهما حالات جوع وعطش وأمراض معدية وغيرها من تداعيات إنسانية. من هنا، يقدّر «ماس»، خسارة ما لا يقل عن 25% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وربما مثيله في الربع الأول من العام 2024، الذي قد لا يشهد استئناف النشاط الاقتصادي العادي حتى لو انتهت الحرب، وهو ما يشكّل ما بين 700 مليون دولار إلى 1,4 مليار دولار.
3- سنوات قبل عودة اقتصاد غزّة إلى مستوى إنتاج ما قبل الحرب
يكمن التحدّي بالنسبة لغزّة بالقدرة على إعادة تدوير الاقتصاد، لا في حجم الخسارة المتوقّعة، خصوصاً في ظل احتمال توقّف الاقتصاد لنحو 3 إلى 6 أشهر قبل أن يكون احتمال العودة إلى العمل المنتج ممكناً. وهي مهمة قد تستغرق سنة أو حتى سنوات.
توقّف الاقتصاد لنحو 3 إلى 6 أشهر قبل أن يكون احتمال العودة إلى العمل المنتج ممكناً. وهي مهمة قد تستغرق سنة أو حتى سنوات
ما يجعل هذا التحدّي ماثلاً بحسب «ماس» هو «حجم الدمار المادي الذي يزداد يومياً في المساكن والمصانع والمصانع والمنشآت التجارية والمرافق الخدمية التعليمية والصحية والمعيشية». في الواقع، شمل الدمار حتى الأسبوع الرابع من الحرب مساحات واسعة النطاق في القطاع، ومربّعات كاملة في مدينة غزة تحديداً، وخلّف مساحات مسطّحة من الردم. وحتى تاريخه يقدّر «مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» أنه تم تدمير ما يزيد على 44 ألف مسكن بالكامل، وأكثر من 220 ألف وحدة سكنية تدميراً جزئياً، وهو ما يمثل نحو 45% من مخزون المساكن في القطاع، فضلاً عن تدمير 150 مصنعاً و120 مدرسة والعديد من المباني العامّة. وهذا ما يعني فعلياً تعطّل البنية التحتية والاقتصادية بالكامل في شمال القطاع وزيادة الضغط على البنية في جنوب القطاع الذي نزح إليه أكثر من 1,5 مليون لاجئ حتى الآن.
4- الكلفة المحتملة للحرب قد تتجاوز حجم الاقتصاد بأضعاف
شهد اقتصاد غزّة صدمات عدّة في خلال الحروب السابقة. على سبيل المثال، يقدّر البنك الدولي تراجع الناتج المحلّي بنحو 460 مليون دولار بنتيجة حرب العام 2014، فيما قدّرت «أونكتاد» الخسائر الاقتصادية المباشرة لحرب 2008 بنحو 2,5 مليار دولار، وتضرّر الأصول من حربي 2012 و2014 بنحو 2,7 مليار دولار، فيما قدّرت السلطة الفلسطينية كلفة إعادة التعمير بنحو 3,9 مليار دولار.
الكلفة المحتملة ستزيد عن كلّ الأكلاف المُسجّلة سابقاً، وقد تتجاوز حجم اقتصاد غزّة نفسه الذي بلغ نحو 2,7 مليار دولار قبل الحرب
من باب المقارنة، ونظراً للتفاوت الكبير بين حجم الدمار والتداعيات الناجمة عن الحرب الحالية والحروب السابقة، لا شكّ أن الكلفة المحتملة ستتجاوز كلّ الأكلاف المُسجّلة سابقاً بحسب «ماس»، وقد تتجاوز حجم اقتصاد غزّة نفسه الذي بلغ نحو 2,7 مليار دولار قبل الحرب.