الاعتماد المصري المُفرط على الغاز الإسرائيلي

لم تكد مصر تستفيق من انعكاسات توقّف الإنتاج من حقل تمار في 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي على وارداتها من الغاز الإسرائيلي، حتى أتت صدمة توقّف هذا الغاز بالكامل في 29 من الشهر نفسه. يوماً بعد يوم، تتكشّف الصورة عن مدى الاعتماد المصري على الغاز الإسرائيلي، وتُطرح علامات استفهام عن مدى صحّة اكتفائها الذاتي من الغاز الطبيعي وعدم حاجتها إلى الاستيراد لأغراض محلّية الذي أعلن عنه بداية العام 2018 على وقع بدء الإنتاج من حقل «ظهر».

في العام 2022، بلغ مجمل الإنتاج من حقول الغاز في المياه الفلسطينية المحتلّة 21.9 مليار متر مكعب (BCM)، وهو رقم قياسي تاريخي وفق أرقام وزارة الطاقة الإسرائيلية

على الرغم من إعادة ضخّ الغاز منذ بضعة أيام ولكن بكمّيات ضئيلة، يأتي كل ذلك في ظلّ أزمة اقتصادية تعاني منها مصر وحاجة ملحّة للعملات الصعبة، ويترافق ذلك مع ضغوطٍ سياسية كبيرة تتعرّض لها للقبول بتهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء.

فكم بلغ حجم واردات مصر من الغاز الإسرائيلي في السنوات الأخيرة؟ وكم من هذه الواردات صُدِّرت إلى أوروبا؟ وهل يمكن توقّع مخارج عمليّة في المدى القريب؟

إنتاج الغاز الطبيعي في كل من إسرائيل ومصر

في العام 2022، بلغ مجمل الإنتاج من حقول الغاز في المياه الفلسطينية المحتلّة 21.9 مليار متر مكعب (BCM)، وهو رقم قياسي تاريخي وفق أرقام وزارة الطاقة الإسرائيلية، استخدم 12.7 مليار منها في السوق المحليّة، فيما صُدِّر 9.2 مليار، 63% من هذه الصادرات ذهبت إلى مصر، و37% الى الأردن. أمّا في النصف الأول من العام 2023، فبلغ إنتاج الغاز 12.3 مليار متر مكعب، وكان في طريقه إلى تسجيل رقم قياسي جديد لولا شنّ دولة الاحتلال حربها على غزّة، فقد أشارت البيانات الحكومية إلى ارتفاع إتاوات الغاز الطبيعي بنسبة 23% بالمقارنة مع العام 2022. وتجدر الإشارة إلى أن تقديرات مجمل مخزون الغاز الطبيعي في المياه الفلسطينية المحتلة يبلغ حوالى 1,087 مليار متر مكعب، وقد أصبحت إسرائيل تعتمد على الغاز لإنتاج الكهرباء بنسبة تقارب 70%.

زادت فاتورة واردات مصر من الغاز الإسرائيلي في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام فبلغت حوالى 1.5 مليار دولار مقارنة بنحو 1.06 في الفترة نفسها من العام 2022، في حين تلبّي هذه الواردات 10% فقط من حاجات السوق المصري للغاز

أمّا بالنسبة لمصر، فقد بلغ متوسط إنتاجها من الغاز الطبيعي حوالى 5.06 مليار متر مكعب بين كانون الثاني/يناير وحتى نهاية آب/أغسطس 2023، مقابل 5.62 مليار متر مكعب في الفترة نفسها من العام 2022، أي بتراجع نحو 10% بحسب بيانات «مبادرة المنظّمات المشتركة» (جودي).  وقد أدّى الانقطاع الفجائي في واردات مصر من الغاز الإسرائيلي إلى تفاقم أزمة انقطاع التيّار الكهربائي في البلاد وزيادة ساعات التقنين، مع العلم أنّ متوسط استهلاك محطات الكهرباء من الغاز الطبيعي انخفض نحو 3% في العام 2023 بالمقارنة مع 2022.

كم استوردت مصر من الغاز الإسرائيلي مؤخراً؟

بعد اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانية، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقاً مع إسرائيل ومصر في حزيران/يونيو 2022 بهدف زيادة صادرات الغاز من شرقي المتوسّط، وتحديداً من كلتا الدولتين، نحو أوروبا، وذلك عبر اعتماد محطّتي إدكو ودمياط المصريتين مركزين لتسييل الغاز ومن ثمّ نقله على شكل غاز مُسال (LNG). ترافق ذلك مع إعلان وزارة الطاقة الإسرائيلية، عبر شركة نيوميد إينرجي (NewMed Energy) في شباط/فبراير 2022، عن مسار جديد لنقل الغاز إلى مصر عبر الأردن عبر خط الغاز العربي، بالإضافة إلى خط غاز شرقي المتوسّط (EMG). 

الاعتماد المصري المفرط على الغاز الاسرائيلي

في آب/أغسطس الماضي، أي قبل اندلاع الحرب على غزّة بشهرين تقريباً، وافقت الحكومة الإسرائيلية على خطّة لزيادة الإنتاج من حقل تمار بنسبة 60% بدءاً من العام 2026، عبر بناء خطوط أنابيب جديدة ممّا يسمح بزيادة الصادرات إلى مصر بنحو 38.7 مليار متر مكعب على مدى 11 عاماً.

الغاز المصري

في الواقع، بدأت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي بالارتفاع بدءاً من العام 2020، وكان المتوسّط يتراوح بين 300-350 مليون متر مكعب بين نهاية 2020 وأيلول/سبتمبر من العام 2021 وفق بيانات جودي. ومن ثم تجاوز عتبة 400 مليون متر مكعب في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وظل عند هذه المستويات حتى سجّل مستوى قياسياً بلغ 614 مليون متر مكعب في آذار/مارس 2022، إلى أن كسر حاجز 700 مليون متر مكعب في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ووصل إلى 736 مليون متر مكعب في كانون الأول/ديسمبر 2022، ومن ثم سجّل رقماً قياسياً جديداً بلغ 823 مليون متر مكعب في أيار/مايو الماضي.

الغاز الاسرائيلي

نتيجة لهذه الارتفاعات، زادت فاتورة واردات مصر من الغاز الإسرائيلي في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام فبلغت حوالى 1.5 مليار دولار مقارنة بنحو 1.06 في الفترة نفسها من العام 2022، في حين تلبّي هذه الواردات 10% فقط من حاجات السوق المصري للغاز.

صادرات مصر من الغاز المسال

في المقابل، ومع الارتفاع الملحوظ في الواردات، كان هناك ارتفاع في صادرات الغاز المُسال LNG حتى نهاية العام 2022، وصلت إلى 7.1 مليون طن (9.6 مليار متر مكعّب) بقيمة 8.4 مليار دولار، علماً أن 70% منها ذهبت إلى أوروبا بحسب رويترز.

الاعتماد المصري المفرط على الغاز الاسرائيلي

ولكن، منذ بداية هذا العام، انخفضت هذه الصادرات نحو 50% لتسجّل 3.38 مليون طن، ما دفع القاهرة إلى اتخاذ قرار وقف التصدير في خلال صيف 2023 نتيجة ارتفاع الطلب المحلّي وارتفاع درجات الحرارة ممّا تسبّب بتقنين للكهرباء طوال الصيف، ولا يزال التقنين مستمراً حتى الآن. وكان من المتوقّع أن تُستأنف وتيرة الصادرات في تشرين الأول/أكتوبر 2023 من خلال 3 شحنات، الّا أن اندلاع الحرب وإقفال حقل تمار قد يطرح علامات استفهام بشأن استمرارها في ظلّ التأثير المستمر على انقطاع الكهرباء.

في الواقع، شهد الأسبوع الأول من الشهر الجاري وللمرة الأولى استيراد مصر شحنة LNG لسدّ العجز الحاصل بعد وقف إمدادات الغاز الإسرائيلي لأيام عدّة وتعاظم الصراع في المنطقة، ما قد ينذر بما هو أصعب في المستقبل القريب.

هل يمكن لمصر البحث عن بدائل أخرى؟

تبدو مشاريع إسرائيل لتطوير وتوسيع البنية التحتيّة الخاصّة بالغاز، وخصوصاً في ليفياتان وتمار، بدءاً من العام 2025 و2026 في حكم المؤجّل، حتى يتكشّف مصير الصراع القائم وأمده، فضلاً عن آثاره على الاقتصاد الإسرائيلي على المديين المتوسط والبعيد. فإذا كانت هذه المشاريع تأمل بزيادة الإنتاج من الحقول الفلسطينية بمقدار 15 مليار متر مكعب بحلول العام 2026، على دول الجوار المستوردة للغاز الاتعاظ وأخذ العبر من خلال تنويع مصادر الغاز وعدم الاعتماد فقط على مصدر وحيد.

يمكن لحقلي ليفياتان وكاريش أن يسدّا كامل احتياجات السوق المحلّية الإسرائيلية من دون إتمام كافة الموجبات التعاقديّة للتصدير إلى مصر والأردن

تجدر الإشارة إلى أن وزارة الطاقة الإسرائيلية لزَّمت 12 رخصة استكشاف جديدة في آواخر الشهر الماضي في ظلّ الحرب القائمة، وحصلت عليها 6 شركات، من بينها BP البريطانية وENI الإيطالية وSOCAR الأذربيجانية، وذلك بهدف زيادة الكمّيات المنتجة والمصدّرة.

بالنسبة لمصر الخيارات صعبة ومكلفة، وبعد أن كانت تعمل لتكون مركز استقطاب غاز شرقي المتوسّط لتسييله وتصديره إلى أوروبا، اضطرت للجوء إلى استيراد الغاز لسدّ العجز الداخلي والتخفيف من مشكلة الكهرباء، وهذا يتطلّب عملات صعبة كان تسعى القاهرة إلى الحصول عليها عبر التصدير لا صرفها على الاستيراد. 

أمّا الخيار الثاني على المديين المتوسّط والبعيد، فهو التسريع في عمليّة الاستكشاف والإنتاج في الحقول الملزّمة حديثاً وتخفيف الاعتماد على الغاز الإسرائيلي الذي بلغت كمّياته مؤخراً ضعف الكمّية التعاقدية. ففي أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، لزّمت مصر 4 بلوكات بحرية جديدة (3 في المتوسّط و1 في دلتا النيل) إلى كلّ من ENI وBP وQatarEnergy، بالإضافة إلى شركة Zarubezhneft الروسية، لتصبح ENI أكبر اللاعبين في مصر. وأعلنت في الشهر نفسه فتح دورة تراخيص لتلزيم 23 بلوكاً جديداً. كلّ ذلك يحتاج أولاً إلى وقف الحرب وإيجاد البيئة المؤاتية للشركات العالميّة للقيام بهذه الأعمال.

حتى الآن، يمكن لحقلي ليفياتان وكاريش أن يسدّا كامل احتياجات السوق المحلّية الإسرائيلية من دون إتمام كافة الموجبات التعاقديّة للتصدير إلى مصر والأردن، لكن في حال توسّع رقعة الحرب إلى دول الجوار، سيصبح خطر إقفال حقلي ليفياتان وكاريش مرتفعاً ممّا سينعكس على باقي الكمّيات المصدّرة وتحديداً على الأردن، الذي يحصل على معظم كميّاته من الغاز من حقل ليفياتان، كما سينعكس على صادرات مصر نحو أوروبا وعلى وضعها الاقتصادي وأمنها الطاقوي.