سقوط أوهام «دبلوماسية الطاقة»
أيام قليلة بعد عملية طوفان الأقصى كانت كافية لإظهار مدى هشاشة منطقة شرقي المتوسط على مستوى الأمن الطاقوي. فعلى مدى السنوات الماضية، راهنت الإدارات الأميركية المتعاقبة على استخدام قطاع الطاقة كوسيلة لتعزيز مناخات التعاون والتطبيع بين العدو الإسرائيلي والعديد من الدول العربية المجاورة. بدأ ذلك من خلال الربط الطاقوي بين إسرائيل والأنظمة المطبّعة أصلاً، كمصر والأردن، إلّا أن العملية تسارعت وأخذت منحى أكثر جدّيةً منذ توقيع اتفاقيات أبراهام في العام 2020 بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين، ومن ثمّ السودان والمملكة المغربية.
مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وحاجة أوروبا الملحّة للغاز، أصبح الأمن الطاقوي في منطقة شرقي المتوسط في سلّم أولويات الإدارة الأميركية، فكانت دبلوماسية الطاقة كوسيلة لإحلال السلام أحد الأدوار المناطة بكبير مستشاري إدارة بايدن لشؤون أمن الطاقة آموس هوكستين لإيجاد الأرضية المشتركة لها، وكان توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2022 أحد الدلائل عن الجهود المبذولة في هذا الاتجاه.
يُنتج حقل تامار من 6 آبار بقدرة 7,1 إلى 8,5 مليون متر مكعب في اليوم، ويقدّر مخزون الحقل بحوالى 11,7 تريليون قدم مكعّب
ما تقوم به دولة الاحتلال في قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 دحض هذه السردّية، فوقف الإنتاج من حقل تامار، وما قد يترتّب على ذلك في الأسابيع والأشهر المقبلة إذا طالت الحرب، دليل على الوهم «الدبلوماسي» في تجاوز واحدة من أهم القضايا العالمية المتمثلة بقضية فلسطين.
وقف إنتاج تامار والتأثير على الأسواق العالميّة
في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر، أوعزت وزارة الطاقة الإسرائيلية إلى شركة شيفرون الأميركية، المشغّل الأساسي لحقل تامار، بوقف الإنتاج مؤقّتاً نتيجة الاضطرابات الأمنية، مع اتخاذ كافة الإجراءات الآيلة لاستمرار تأمين حاجة السوق المحلّي من الغاز، إذ أن الحقل المكتشف في العام 2009 كان يؤمّن حوالى 47% حاجة السوق المحليّة.
يقع حقل تامار على بعد 80 كيلومتراً من الشاطئ الفلسطيني غرب حيفا، بينما تقع منصّة المعالجة على بعد 25 كيلومتراً منه غرب عسقلان، أي على بضعة كيلومترات شمال غرب قطاع غزّة، وكانت هذه الأخيرة قد استهدفت في الاشتباكات التي اندلعت في العام 2021 ممّا أدّى إلى وقف الإنتاج منها أيضاً. يُنتج حقل تامار من 6 آبار بقدرة 7,1 إلى 8,5 مليون متر مكعب في اليوم، ويقدّر مخزون الحقل بحوالى 11,7 تريليون قدم مكعّب (TCF). في العام 2022، أنتج حوالى 10,2 مليار متر مكعّب (BCM) من الغاز، 1,56 منها تم تصديرها لكلّ من مصر والأردن.
حتى الآن، يمكن الاعتبار أن تأثير الحرب الإسرائيلية على أسواق النفط العالمية لا يزال مشابهاً نوعاً ما – ولكن أخف وطأةً – لتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية التي اندلعت في شباط/ فبراير من العام 2022، وأدّت إلى ارتفاع سعر برميل النفط إلى أكثر من 100 دولار والغاز إلى 10 أضعاف معدّلات أسعاره. على مدى الأسابيع الماضية، ارتفع سعر برميل النفط وتأرجح بين 84-92 دولاراً، وهو الأعلى في الأشهر الثماني الماضية، ويبدو أنه سيبقى ضمن تلك المعدّلات حتى تتأقلم الأسواق مع صدمة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وتطوّر الأحداث في غزة.
أسواق النفط كانت تعاني بالأصل من أزمة توريد منذ حزيران/يونيو 2023 حين قرّرت منظمة أوبك+، وتحديداً المملكة العربية السعودية، تخفيض إنتاجها طوعيّاً بمعدل مليون برميل في اليوم، وتمديد أمد هذا التخفيض حتى نهاية العام 2023. بدورها، قرّرت روسيا خفض صادراتها من النفط بمعدّل 300 ألف برميل في اليوم، وكانت أسعار البرميل تتأرجح بين 75 و85 دولاراً في خلال الصيف. ترافق ذلك في الأيام الماضية مع حالة من التململ في الأسواق جرّاء إشارات الركود الاقتصادي الآتية من أوروبا واستمرار ارتفاع معدّلات الفوائد، والأنباء عن رغبة الولايات المتحدة برفع مخزونها الاستراتيجي من النفط وبالتالي زيادة الطّلب، كما والضرر المفاجئ الذي لحق بأنبوب الغاز الذي يربط فنلندا بإستونيا، والذي لم تعرف أسبابه بعد. من جهة أخرى، كان من اللافت تسارع وتيرة المفاوضات بين الإدارة الأميركية وفنزويلا بهدف رفع العقوبات المفروضة على النفط الفنزويلي، وبالتالي زيادة الكميّات المنتجة في الأسواق في الفترة المقبلة.
أسواق النفط كانت تعاني بالأصل من أزمة توريد منذ حزيران/يونيو 2023 حين قرّرت منظمة أوبك+، وتحديداً المملكة العربية السعودية، تخفيض إنتاجها طوعيّاً بمعدل مليون برميل في اليوم
أمّا بالنسبة للغاز، فارتفعت أسعاره أيضاً في خلال الأسبوعين الأخيرين بمعدّل 13% وهي الأعلى منذ حوالى ستة أشهر. إلّا أن هذا الارتفاع يبقى محدوداً نسبياً مقارنة بما كانت عليه الأسعار منذ قرابة العام في أوّل شتاء بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، مما دفع منظّمة الطاقة العالمية إلى القول أن أسواق الغاز أصبحت أكثر مرونة للتكيّف مع الأزمات.
حتى الساعة، تُبقي منظمة أوبك+ حالة الترقّب في الأسواق من دون الحاجة لأي تدخّل سريع، ويبقى التخوّف الأكبر من توسّع دائرة الحرب وانخراط إيران فيها، وإمكانيّة تأثير ذلك على مضيق هرمز الذي تمرّ عبره كافة شحنات نفط الخليج.
التداعيات على مصر والأردن
في الواقع، تعدّ عمليّة وقف الإنتاج من تامار بمثابة ضربة مباشرة لمصر والأردن، كون الحقل، بالإضافة إلى تأمينه حاجة السوق المحلية، يساهم في صادرات الغاز إلى الدولتين. مصر كانت تعاني أصلاً من توقّف في صادرتها في خلال هذا الصيف بسبب ارتفاع الطلب المحلّي وانخفاض الإنتاج من حقل زهر، وكانت تتطلّع إلى معاودة التصدير في الأشهر المقبلة قبل شتاء أوروبا.
أدّى وقف الإنتاج من حقل تامار إلى إيقاف ضخّ الغاز في أنبوب شرقي المتوسط (East-Mediterranean Gas) الذي يصل بين عسقلان على الساحل الفلسطيني وميناء العريش في مصر، على أن يستمر ضخّ بعض الكمّيات في خطّ الغاز العربي الذي يصل مصر بالأردن. نتيجة لذلك، انخفضت كميّات الغاز المصدّرة لمصر بحوالى 20% منذ اندلاع الحرب، والتي كانت بمعدّل حوالى 24,6 مليون متر مكعب في اليوم في الأشهر الثماني الأولى من هذا العام. أتى ذلك بعد أن كان الطرفان (مصر وإسرائيل) اتفقا في آب/أغسطس المنصرم على زيادة الصادرات الاسرائيلية وتحديداً من حقل تامار.
من الناحية الأخرى، سينعكس إقفال الحقل بكميّات أقل إلى الأردن أيضاً التي سوف تسعى لتأمين شحنات أكبر من الغاز الطبيعي المسال (LNG) على المدى المتوسّط والبعيد، في حين سوف تسعى إسرائيل إلى استمرار تأمين الصادرات إلى مصر والأردن من خلال حقلي ليفياتان وكاريش، إن بقيت الأمور على ما هي عليه اليوم.
آمال قبرص الطاقوية مؤجّلة
يسود حال من الترقّب في قبرص لما يجري وإلى أين ستؤول التطوّرات الأمنية. منذ انتخاب رئيس جديد في الجزيرة الشرق-أوسطية، وتعيين جورجيوس بابانستازيو وزيراً للطاقة بداية هذا العام، حصل تبدّل في الاستراتيجية الطاقوية في قبرص واتجاه لتعميق التعاون مع إسرائيل في مجالي الغاز والكهرباء. في خلال الصيف المنصرم، تمّ عقد اجتماعات مكثّفة وتشكيل لجنتين تقنيتين للبحث في أمرين أساسيين: الأول إقامة أنبوب يربط بين جنوب الجزيرة (وتحديداً في منطقة فاسيليكوس) والساحل الفلسطيني مروراً بالحقول التي تحتلها اسرائيل، بطول حوالى 300 كيلومتراً بدلاً من أنبوب غاز شرقي المتوسط (EMGF) الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر ويصل إلى اليونان فأوروبا. أمّا الأمر الثاني، فهو ربطٌ كهربائي بين قبرص ودولة الاحتلال عبر كابلات بحريّة تسمح بالتبادل الطاقوي.
أدّى وقف الإنتاج من حقل تامار إلى إيقاف ضخّ الغاز في أنبوب شرقي المتوسط الذي يصل بين عسقلان على الساحل الفلسطيني وميناء العريش في مصر
بالإضافة إلى ذلك، برزت في أيلول/سبتمبر الماضي القمة القبرصية-اليونانية-الإسرائيلية التي كان من أهدافها الأساسية تعزيز التعاون الطاقوي بين البلدان الثلاثة، وخصوصاً في مجال الربط الكهربائي، حيث كانت اليونان ستلعب دوراً أساسياً في مشروع الربط الكهربائي المعروف بـEurasia Interconnector بطول 1,500 كيلومتر وبعمق 2,700 متراً، ويتوقّع أن يسمح بتبادل حولي 2,000 ميغاواط من الطاقة.
في ظلّ الأوضاع الراهنة، أصبحت هذة المشاريع بأكملها مؤجّلة، ويترافق ذلك مع تدهورٍ اقتصادي إسرائيلي لا يُعرف كيف سينتهي بعد انتهاء الحرب.
ماذا بعد؟
على مدى العقد المنصرم، حاولت إسرائيل، من خلال أكبر اكتشافاتها في حقلي تامار وليفياثان، أن تلعب الدور المحوري في منطقة شرقي المتوسط بتصدير الغاز إلى أوروبا والعالم. مصر أيضاً لا تخفي آمالها في استقطاب هذا الدور مستفيدةً من محطتي التسييل في إدكو ودمياط لجذب الغاز عبر الأنابيب ومن ثم تصديره الى أوروبا ك LNG بحثاً عن العملات الصعبة، إلّا أنها تصطدم أكثر فأكثر بالعوائق الاقتصادية الداهمة والطلب المحلّي المتزايد. أتت عمليّة طوفان الأقصى لتغيّر هذه الرهانات وتعيد خلط أوراق المنطقة.
يبدو من الصعب التكهّن بما ستؤول إليه الأمور عسكريّاً، إلّا أن توسّع الحرب وامتدادها إلى دول الجوار لا بد أن يرخي بظلاله على المشهد الطاقوي، حيث أنّ الحقول المنتجة الأخرى في المياه الفلسطينية، مثل ليفياتان وكاريش، لن تبقى بمنأى عن الصراع القائم، ممّا قد يؤدي إلى وقف الإنتاج منها أيضاً، قاضية على ما تبقى من «أوهام دبلوماسية الطاقة». يمكن حينها تخيّل ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق المئة دولار للبرميل وربما أكثر، بحسب توقّعات بلومبورغ، بالإضافة إلى معاودة أسعار الغاز للارتفاع مثقلةً اقتصادات أوروبا والعالم.