سلاح النفط العربي خارج الخدمة
يستبعد المحلّلون كلياً تكرار سيناريو حرب العام 1973، عندما قرّرت الدول العربية المُنتجة للنفط حظر تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأميركية وهولندا وبريطانيا وكندا واليابان ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يومها ارتفعت أسعار النفط 4 أضعاف، وساهم ذلك بتعميق أزمة الركود التضخّمي في الدول الرأسمالية المتقدّمة التي سبقت هذه الحرب.
دفع الحظر وارتفاع الأسعار إلى استثمارات كثيفة في السنوات الخمسين الماضية لتطوير مناطق نفطية جديدة خارج الشرق الأوسط، مثل بحر الشمال وأصول المياه العميقة والطاقة البديلة
وكان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قد طالب دول منظّمة التعاون الإسلامي، التي عقدت اجتماعاً استثنائياً لوزراء خارجيتها في السعودية، بفرض حظر شامل على إسرائيل، بما في ذلك حظر النفط، وطرد سفرائها من عواصم تلك الدول. إلا أن مصادر من منظّمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، التي تنتج ثلث النفط العالمي وتضمّ دولاً إسلامية عدة من بينها إيران، قالت لـ«رويترز» إن المنظمة لا تخطّط لاتخاذ إجراء فوري أو عقد اجتماعات طارئة في ضوء طلب إيران. وعلّق أحد المصادر على الطلب الإيراني: «نحن لسنا منظّمة سياسية». في حين ردّ الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم البديوي، على سؤال عمّا إذا كان يتعيّن على الدول العربية خفض إنتاج النفط ردّاً على تصرّفات إسرائيل في غزّة، فقال إن «مجلس التعاون الخليجي ملتزم بأمن الطاقة ويجب ألا يستخدم النفط كسلاح». وأضاف أن «مجلس التعاون الخليجي يعمل كشريك واضح وصادق ومصدر للنفط مع المجتمع الدولي، ولا يمكن أن نستخدم ذلك كسلاح بأي شكل من الأشكال».
يشير المحلّلون إلى أن هناك متغيّرات جيوسياسية في خريطة السوق النفطية تحدّ من إمكانية استخدام هذا السلاح، إذ أن الواقع اليوم مغاير لما كان عليه في العام 1973، وقد دفع الحظر وارتفاع الأسعار إلى استثمارات كثيفة في السنوات الخمسين الماضية لتطوير مناطق نفطية جديدة خارج الشرق الأوسط، مثل بحر الشمال وأصول المياه العميقة والطاقة البديلة. وبينما كانت الدول الغربية في السبعينيات من القرن الماضي المشتري الرئيسي للنفط الخام الذي تنتجه الدول العربية، أصبحت آسيا اليوم هي المشتري الرئيسي لخام أوبك.
الارتباط بين الحروب وأسعار النفط
تاريخيّاً، أدّت الحروب في منطقة المشرق العربي وإيران إلى إرتفاع كبير في أسعار النفط. ارتفع سعر البرميل في خلال حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، من 13.4 دولار أميركي إلى 15.9 دولار أميركي بأسعار العام 2010. ومع اندلاع الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة في العام 1978 عادت أسعار النفط للارتفاع ووصلت إلى 39.6 دولار أميركي بأسعار العام 2010. وأشعلت الحرب العراقيّة الإيرانيّة في العام 1980 أسعار النفط وأوصلتها إلى 76.9 دولار أميركي بأسعار 2010 وهو مستوى غير مسبوق، قبل أن تعاود الانخفاض تدريجيّاً، ومن ثم رفعت حرب الخليج في العام 1990 سعر النفط إلى 47.1 دولاراً أميركياً بأسعار 2010.
السيناريوهات الثلاثة المحتملة
بعيداً من إمكانية استخدام النفط كسلاح للردّ على حرب الإبادة التي تشنّها دولة الاحتلال على غزّة، يسود القلق في الأسواق العالمية من تداعيات هذه الحرب على أسعار النفط وانعكاساتها على التضخّم ومعدّلات النمو الاقتصادي على صعيد العالم، لا سيّما أن هذه التداعيات ستنضم إلى صدمات أخرى نتجت عن جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا ورفع أسعار الفوائد في البلدان الرأسمالية المتقدّمة، ولا سيما الفائدة الاميركية، التي ترتّب أعباء ضخمة على خدمة ديون دول الجنوب العالمي وتستنزف مواردها المالية المحدودة.
لن يؤدّي هذا السيناريو الأسوأ إلى تداعيات بحجم العام 1973، إلا أنه سينعكس انخفاضاً بمقدار نقطة مئوية واحدة في النمو العالمي، إلى 1.7% في العام 2024، وسيكون هذا أسوأ نمو منذ العام 1982
وعلى الرغم من استبعاد السيناريوهات الأكثر سلبية على المدى القصير، إلا أن حالة من عدم اليقين تسيطر على الأسواق. فقد شهدت أسعار النفط تذبذبات منذ بدء دولة الاحتلال حربها الهمجية على سكّان غزّة المحاصرين منذ 16 عاماً. ويتفق المحلّلون على أن اتجاه الأسعار هو صعودي، نتيجة عوامل عدّة متزامنة لا تنحصر بسيناريوهات الحرب، إلا أن التوقّعات تبقى مرهونة بالسيناريوهات، إذ تقدّر «بلومبرغ إيكونوميكس» زيادة تتراوح بين 3 إلى 4 دولارات على سعر برميل النفط، ضمن سيناريو يقوم على محاكاة للحرب الإسرائيلية على غزّة في العام 2014، حيث تبقى محصورة هناك ولا تتوسّع. و«سيكون التأثير على الاقتصاد العالمي في ظل هذا السيناريو ضئيلاً، خصوصاً إذا قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة بتعويض البراميل الإيرانية المفقودة باستخدام طاقتهما الاحتياطية».
أمّا السيناريو الذي يعدّ الأخطر، والذي يشمل دخول إيران إلى الحرب، فقد يرتفع سعر النفط إلى 150 دولاراً. ووفق نموذج «بلومبرغ إيكونوميكس»، لن يؤدّي هذا السيناريو الأسوأ إلى تداعيات بحجم العام 1973، إلا أنه سينعكس انخفاضاً بمقدار نقطة مئوية واحدة في النمو العالمي، إلى 1.7% في العام 2024، وسيكون «هذا أسوأ نمو منذ العام 1982»، وهي الفترة التي رفع فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة لاحتواء التضخّم الناتج عن الصدمة النفطية في السبعينيات. ومن شأن هذه الصدمة النفطية أن تعرقل الجهود العالمية لكبح جماح الأسعار، مما يترك معدّل التضخّم العالمي عند 6.7% في العام المقبل.
يشير تطوّر أسعار النفط أن حروب المشرق العربي لديها تأثير على أسعار النفط أكثر من الحروب الأخرى في العالم. ويميل المحلّلون إلى احتمالية أكبر لسيناريو وسطي بين بقاء الحرب محصورة على غزّة وبين دخول إيران إليها مباشرة، وينطوي هذا السيناريو الوسطي على توسّع القتال ليشمل الضفّة الغربية ولبنان وسوريا.
يستند هذا السيناريو إلى محاكاة لحرب تموز/ يوليو 2006 التي شنّتها دولة الاحتلال على لبنان، إذ ارتفع سعر النفط الخام حينها بمقدار 5 دولارات للبرميل. وإذا أضيفت محاكاة لتحرّكات احتجاجية شبيهة بالتي عمّت العالم العربي في العام 2011، فإن توسّع الحرب إلى الدول المجاورة لفلسطين المحتلّة بالتزامن مع التحرّكات الشعبية دفاعاً عن غزّة اليوم من شأنه أن يرفع السعر بنسبة 10% إلى حوالي 94 دولاراً.
إقفال مضيق هرمز
يوجد سيناريو إضافي، وهو أن تلجأ إيران لإقفال مضيق هرمز للضغط على الدول الداعمة لدولة الاحتلال، إذ يمرّ عبر هذا المضيق حوالي سدس النفط العالمي.
يعدّ مضيق هُرمُز أحد أهم الممرّات المائية في العالم، وأكثرها حركة للسفن. يقع في منطقة الخليج فاصلاً ما بين مياهه من جهة ومياه خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة أخرى، وهو المنفذ البحري الوحيد للعراق والكويت والبحرين وقطر. وتطل عليه من الشمال إيران (محافظة بندر عباس)، ومن الجنوب سلطنة عمان (محافظة مسندم) التي تشرف على حركة الملاحة البحرية فيه باعتبار أن ممرّ السفن يأتي ضمن مياهها الإقليمية.
إلا أن هناك استبعاد لمثل هذه الخطوة ما لم تكن من نتائج اتساع الحرب لتشمل المنطقة كلّها، إذ أن 76% من شحنات النفط الخام التي تمرّ عبر مضيق هرمز تتجه إلى الأسواق الآسيوية، وتعتبر الصين من أكبر وجهات هذه الشحنات ومن ثمّ الهند واليابان وجنوب كوريا، فيما بلغت حصة الولايات المتّحدة 1.4 مليون برميل عبر مضيق هرمز. ما يعني بعبارة أخرى أن أمن المضيق وضمان استمرارية تدفّق النفط عبره سيكون مشكلة صينيّة بالدرجة الأولى.
رفع العقوبات الأميركية عن فنزويلا
في سياق منفصل، ولكنه يتصل بتداعيات الحرب على أسواق النفط العالمية، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية يوم الأربعاء 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن تخفيف العقوبات على تصدير نفط فنزويلا، وذلك بعد توقيع اتفاق خارطة طريق انتخابية بين حكومة الرئيس نيكولاس مادورو والمعارضة. ويتراوح إنتاج النفط الحالي بين 750 ألف و800 ألف برميل يومياً تقريباً. وتتقاطع التقديرات بإمكانية زيادة الإنتاج بمعدّل يتراوح بين 250 ألف و300 ألف برميل يومياً بحلول العام 2025.
وبطبيعة الحال لا تستطيع فنزويلا سدّ ثغرة احتمال إغلاق مضيق هرمز. حتى لو أضفنا إليها خطوط أنابيب النفط لنقل الوقود التي تمتلكها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بسعة تقدر بـ 6.5 مليون برميل يومياً، وتجنّبها المرور بالمضيق الذي يبلغ طوله 155 كيلومتراً وعرضه في أضيق نقطة 34 كيلومتراً. إذ أن أحجام النفط الخام والمكثفات والمنتجات النفطية التي تعبر مضيق هرمز مستقرة على حوالي 17 مليون برميل يومياً منذ العام 2016، عندما رُفِعت العقوبات الدولية المفروضة على إيران وعاد إنتاج النفط الإيراني وصادراته إلى مستويات ما قبل العقوبات. ما يعني أن النفط الفنزويلي، وتفعيل كامل القدرة الاستيعابية لأنابيب النفط سوف يبُقي ثغرة تقدّر بـ9.7 مليون برميل نفط يومياً إذا استمرت الحرب حتى العام 2025.