الإسهام الألماني في آلة القتل الإسرائيلية
«أريد أن أقول بكل وضوح: إسرائيل ستحصل على ما تحتاجه للحفاظ على أمنها». بهذه الكلمات اختصر المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، في العام 2005، العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل.
تحمِّل ألمانيا نفسها مسؤولية خاصّة تجاه أمن إسرائيل، وتعتبر دعمها غير المشروط نوعاً من التعويض عن ارتكاب ألمانيا تحت سلطة النازيّة «الهولوكست»، أو الإبادة الجماعية لليهود.
إن وقوف ألمانيا الحازم والقاطع إلى جانب إسرائيل يتعدّى الموقف السياسي إلى الدعم العسكري والمادي الكبير، ما يجعلها شريكة أساسية إلى جانب الولايات المتّحدة الأميركية في بناء قدرة إسرائيل العسكرية التي تستخدمها، تحت مسمّى «الدفاع عن النفس»، في حربها الحالية على قطاع غزة ولبنان، وفي كلّ حروبها وعمليّاتها العسكرية في الضفّة الغربية وأينما كان.
الموقف الألماني الجديد/القديم
«في اللحظة الحالية، لألمانيا مكان واحد فقط: إلى جانب إسرائيل، قطعاً. هذا ما نعنيه عندما نقول إن أمن إسرائيل كان وسيبقى الدافع الرئيسي لتصرّفات الدولة الألمانية».
ترجمت ألمانيا موقفها داخلياً عبر التضييق على التظاهرات الداعمة لفلسطين، وشهدت مدن ألمانية موجة اعتقالات في تظاهرات عدّة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر
بهذه الكلمات، في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حدّد المستشار الألماني أولاف شولتس موقف بلاده - غير الجديد - تجاه حرب إسرائيل على غزّة. ويأتي هذا الموقف في سياق «المسؤولية التاريخية» لألمانيا تجاه «أمن إسرائيل»، التي اعتبرتها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل «جزءاً لا يتجزأ من السياسة الأمنية لألمانيا»، في خطاب ألقته أمام الكنيست الإسرائيلي في العام 2008. وأصبح هذا التصريح هو اللسان الرسمي للدولة الألمانية في كل موقف يتعلّق بإسرائيل.
ترجمت ألمانيا موقفها داخلياً عبر التضييق على التظاهرات الداعمة لفلسطين، وأضفت عليها طابع معاداة السامية. وانتشر هذا الخطاب في معظم وسائل الإعلام الألمانية، كما شهدت مدن ألمانية موجة اعتقالات في تظاهرات عدّة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.
دعم عسكري ضخم بعد 7 تشرين الأوّل/أكتوبر
حتّى الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، وافقت الحكومة الألمانية على تصدير معدّات عسكرية وأسلحة حسّاسة إلى إسرائيل بقيمة 303 ملايين يورو (ما يعادل 323 مليون دولار أميركي) للعام 2023. وتوافق ألمانيا عادة على تصدير المعدّات العسكرية إمّا من خلال صفقة كبيرة أو من خلال إعطاء تصاريح لتصدير معدّات معيّنة تطلبها الدول. وافقت ألمانيا على 218 تصريح فردي لإسرائيل من ضمنها 185 تصريحاً بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، على عكس الإرشادات الألمانيّة التي تحظر تصدير الأسلحة إلى دولة في حالة حرب أو تواجه نزاعات على حدودها.
تساوي قيمة هذه الصادرات العسكرية الألمانية إلى إسرائيل نحو عشرة أضعاف قيمتها في العام 2022 التي بلغت 32 مليون يورو فقط.
ليست هذه القيمة الأعلى التي تلقّتها إسرائيل من ألمانيا تاريخياً. فبين كانون الثاني/يناير وتمّوز/يوليو 2014، احتلّت إسرائيل المرتبة الأولى بين الدول التي استوردت أسلحة ومعدّات ألمانية، وبلغت قيمتها آنذاك نحو 616.8 مليون يورو، بحسب التقرير الألماني عن صادرات الأسلحة. ووصلت القيمة إلى هذا الحدّ بسبب صفقة غوّاصات ضخمة شغلت اهتماماً دولياً لسنوات.
وافقت ألمانيا على 218 تصريح استيراد أسلحة لإسرائيل من ضمنها 185 تصريحاً بعد 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، على عكس الإرشادات التي تحظر تصدير الأسلحة إلى دولة في حالة حرب
وفقاً للمصادر الألمانية الرسمية، احتلّت إسرائيل المرتبة الثالثة بين الدول التي تصدّر إليها ألمانيا أسلحة ومعدّات عسكرية بين عامي 2018 و2022، واستحوذت على 9.5% من مجموع صادرات ألمانيا العسكرية بين هذين العامين. واحتلّت هذه المرتبة أيضاً بين العامين 2014 و2018، إذ تلّقت 8.3% من مجمل الصادرات العسكرية الألمانية.
في المقابل، ومنذ العام 2011 على الأقل، لا تزال ألمانيا في المرتبة الثانية، بعد الولايات المتّحدة الأميركية، بين قائمة الدول التي تستورد إسرائيل الأسلحة والمعدّات منها، بحسب «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام» الذي يستند إلى التقارير الرسمية للدول. وعادة ما تحتلّ إيطاليا المرتبة الثالثة بنسبة ضئيلة.
تتباين حصّة ألمانيا من واردات المعدّات العسكرية والأسلحة في إسرائيل سنوياً، وذلك بحسب الصفقات التي تحصل بين البلدين. على سبيل المثال، شكّلت أسلحة ألمانيا ومعدّاتها 20% من واردات إسرائيل العسكرية بين 2018 و2022، ووصلت هذه النسبة إلى 36% بين 2012 و2016.
أنواع الأسلحة الألمانية في إسرائيل
تشتمل الأسلحة الألمانية المصدّرة إلى إسرائيل، والتي تساهم ألمانيا أحياناً في دفع ثمنها، على الغوّاصات والسفن الحربية، ولكن إسرائيل تستخدم أيضاً أسلحة عديدة ذات معدّات وقطع ألمانية. فمثلاً، السلاح الرئيسي في دبّابات ميركافا 3 و4 الإسرائيليّة التي استعملتها إسرائيل في حرب 2006 على لبنان وفي حرب 2008 على غزّة، هو مدفع من عيار 120 ملم يعتمد على تصميم شركة Rheinmetall الألمانية، كما طوِّر نظام مكافحة الاحتراق في الدبابات في شركة AEG الألمانية. وكذلك فإن محرّك «ميركافا 4» وناقل الحركة هما من صنع شركتي MTU وRenk الألمانيتين. ويُضاف إلى ذلك أنظمة المراقبة التكتيكية ومراكز مكافحة الحرائق والجرّافات والمركبات الأرضية.
صفقة الغوّاصات التي لا تنتهي
تنعكس العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل بوضوح في دور ألمانيا التاريخي في تعزيز السلاح البحري الإسرائيلي، والذي كانت بداياته في سبعينيّات القرن الماضي. حينها، اعتمدت البحرية الإسرائيلية على ثلاث غوّاصات من فئة Gal صُمِّمت في ألمانيا الغربية عبر شركة Industriekontor LübeckK، وصُنِّعت في المملكة المتّحدة بين العامين 1973 و1977 بمساعدة ألمانية.
وفي العام 1986 حصلت إسرائيل - لا عن طريق الحكومة الألمانية الغربية - على غوّاصة جديدة طلبتها من شركة التصميم ذاتها وحوض بناء السفن HDW في مدينة كيل الألمانية. ولكن الصفقات الرسمية بين إسرائيل وألمانيا أصبحت ممكنة أكثر مع تأسيس الجمهورية الفيدرالية الألمانية في أوائل التسعينيّات.
وقبل هذه الفترة، كانت أسلحة عديدة تنتقل من ألمانيا إلى إسرائيل بطرق غير رسمية تحت مسمّى «قروض»، ومنها أسلحة اختفت من مخازن وزارة الدفاع الألمانية وسُجِّلت في خانة «السرقة». وشملت المعدّات مروحيّاتٍ وطائرات نقل ودبّابات ومدافع مضادّة للطائرات وصواريخ موجّهة مضادّة للدبّابات.
وفي كانون الثاني/يناير 1991، توصّلت ألمانيا إلى اتفاق مع إسرائيل (وقِّع في حزيران/يونيو) يسمح بتزويدها بأسلحة تبلغ قيمتها 1.2 مليار مارك ألماني، ويشمل ذلك التمويل الألماني الكامل لغوّاضتين. وبعد مفاوضات العام 1992، وقّع الطرفان ملحقاً للاتفاق الأوّل في العام 1995 بشأن غوّاصة ثالثة.
وصلت الغوّاصات الثلاث إلى إسرائيل تباعاً وهي «دولفين» في تموز/يوليو 1999، و«ليفياثان» في تشرين الثاني/نوفمبر 1999، وأخيراً غوّاصة «تيكوما» في تشرين الأول/أكتوبر 2000. أنتجت الغوّاصات في حوض HDW التابع لشركة ThyssenKrupp الألمانية.
لم تنتهِ صفقات الغوّاصات هنا، فقد تكرّر الحديث عن مفاوضات إسرائيلية-ألمانية لشراء غوّاصات جديدة. وفي اليوم الأخير قبل انتهاء ولايته في العام 2005، وافق المستشار الألماني غيرهارد شرودر على تصدير غوّاصتين جديدتين. وبعد سنوات تخلّلتها مفاوضات عديدة، وقّعت ألمانيا وإسرائيل في برلين عقداً لتصدير غوّاصة سادسة في آذار/مارس 2012. ومجدّداً، دعمت الحكومة الألمانيّة الصفقة بمبلغ 135 مليون يورو، وهو ما يعادل ثلث تكلفة الغوّاصة، وسمحت لإسرائيل بتأجيل سداد الجزء الخاص بها حتى 2015 بسبب وضعها الاقتصادي.
تكثر التقارير عن طلب إسرائيل من ألمانيا تعديل غوّاصات «دولفين» الذي يرجّح أن هدفه هو تناسب مقدّماتها مع صواريخ إسرائيل المسلحة برؤوس حربية نووية
وفي تعليق لـ جريدة «Die Zeit» الألمانية في العام 2017، قالت المستشارية الألمانية أنجيلا ميركل إن تمويل ألمانيا للغوّاصات يُظهر أنّ ألمانيا «ما زالت ملتزمة بمسؤوليّتها التاريخية تجاه أمن إسرائيل غير المشروط».
إنّ الغوّاصتين الرابعة والخامسة هما من فئة «دولفين» وهما مجهزتان بنظام الدفع المستقلّ عن الهواء. شغّلت إسرائيل الغوّاصة الرابعة (INS Tanin) في العام 2014 والغوّاصة الخامسة (INS Rahav) في العام 2016. واللافت أنّ إسرائيل كانت تطلب دائماً تعديلات على تصميم الغوّاصات.
في كانون الثاني/يناير 2022، وقّعت إسرائيل عقداً مع الشركة الألمانية نفسها بقيمة 3 مليار يورو (3.4 مليار دولار أميركي) لتصنيع ثلاث غوّاصات متقدّمة كبديل عن الغوّاصات الثلاث الأولى التي حصلت عليها إسرائيل بين 1999 و2000. ومن المفترض أن تستلم الغوّاصة الأولى في غضون تسع سنوات، وفقاً للاتفاقية التي تشمل أيضاً بناء جهاز محاكاة للتدريب في إسرائيل وتوريد قطع الغيار.
وبحسب وزارة الدفاع الإسرائيليّة، فإنّ الحكومة الألمانية تغطّي 600 مليون يورو من التكلفة من خلال منحة خاصة، كانت جزءاً من اتفاقية بين البلدين في العام 2017، وحالت دون إبرامها آنذاك القضيّة رقم 3000، التي أثيرت جرّاء شبهات بعمليّات فساد ورشاوى من مسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلية ومقرّبين من نتنياهو ومسؤولين في الشركات الألمانية.
تضاعفت قيمة صفقة الغوّاصات الثلاث بين 2017 و2022 بسبب إضافات وتعديلات سلاحيّة جديدة على الغوّاصات. وبالإضافة إلى ذلك، وقّع الطرفان اتفاقية بقيمة 850 مليون يورو مقابل استثمار الحكومة الألمانية في الصناعات الإسرائيلية، بما في ذلك شركات الدفاع.
شابت صفقة الغوّاصات شبهات عن تزويد إسرائيل بقدرات تحميل الغوّاصات بأسلحة نووية. انتشرت هذه الشبهات في العام 2002 على لسان مسؤولين سابقين في الخارجية الأميركية في البنتاغون بحسب مبادرة التهديد النووي NTI، وتعزّزت مع تفشّي قضايا الفساد في الصفقات اللاحقة. نفت إسرائيل هذه المزاعم ولم تعِرها الحكومة الألمانية اهتماماً جدّياً ولم تعلّق على طلب إسرائيل تعديل الغوّاصات «دولفين» الذي يرجّح أن هدفه هو تناسب مقدّماتها مع صواريخ إسرائيل المسلحة برؤوس حربية نووية.
ألمانيا تتدرّب في جنوب فلسطين المحتلّة وتتمركّز فيها
يتعدّى التعاون الألماني-الإسرائيلي الدعم العسكري وتبادل السلاح والمعدّات العسكريّة، إلى إجراء تدريبات مُشتركة إمّا ضمن تدريبات تشمل دولاً أوروبيّة عديدة من حلف «الناتو» أو ضمن تدريبات خاصّة بالجيشين الألماني والإسرائيلي.
في العام 2021، حصلت مناورة «العلم الأزرق» للقوّات الجوّية متعدّدة الجنسيّات في صحراء النقب، وهي مناورة تتكرّر كلّ سنتين. ضمّت المناورة ست طائرات (طائرات أف-35، ورافال، وميراج، ومقاتلات يوروفايتر) التي تستخدمها القوّات الجوّية الألمانية، والتي جلبتها إلى قاعدة عوفدا الجوية الإسرائيلية بالقرب من إيلات على مقربة من البحر الأحمر، بالإضافة إلى نحو 160 جندياً من ألمانيا وحدها. وحملت إحدى الطائرات اسم «نجمة النسر» وهي تجمع بين نجمة داود من العلم الإسرائيلي والنسر هو الرمز الفيدرالي الألماني، ممثلة العلاقات الخاصة بين القوتين الجوّيتين.
في أيلول/سبتمبر 2023، عقدت إسرائيل صفقة مع ألمانيا قيمتها 3.5 مليار دولار لشراء منظومة «آرو-3» للدفاع الصاروخي بعيد المدى واعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي
وحتى من قبل هذه المناورة، يتمركّز سرب «البارون الأحمر» الألماني الإسرائيلي في القاعدة الجوّية ذاتها، ويخضع مكان التمركّز لسرّية كبيرة. وفي العام 2020، زار جنود من الجيش الإسرائيلي شمال ألمانيا للمرّة الأولى بست طائرات مقاتلة من طراز أف-15 حيث قاموا بمناورات عسكرية في مساحات شاسعة هناك.
السفن الألمانية تدافع عن حقول الغاز
في أيّار/مايو 2015، وفي أعقاب زيارة وزيرة الدفاع الألمانية حينها أورسولا ڤون دير لاين (رئيسة المفوضية الأوروبية حالياً)، وقّعت ألمانيا وإسرائيل صفقة ضخمة تشتري من خلالها إسرائيل 4 سفن حربية من ألمانيا بقيمة 430 مليون يورو، تُستخدم بحسب إسرائيل للدفاع عن أصول الطاقة البحرية وحقول الغاز قبالة الساحل الفلسطيني، على أن تسلّمها شركة ThyssenKrupp Marine Systems في خلال خمس سنوات. وفي تموز/يوليو 2021 سلّمت ألمانيا السفينتين الأخيرتين إلى الجيش البحرية الإسرائيلية.
إسرائيل تبيع المنظومة الدفاعية لألمانيا بصفقة ضخمة
قبل حوالى شهرين، في 28 أيلول/سبتمبر 2023، أنهت إسرائيل عقد صفقة كبيرة مع ألمانيا قيمتها 3.5 مليار دولار أميركي تشتري من خلالها ألمانيا منظومة «آرو-3»، وهي منظومة دفاعية مُصمّمة للدفاع الصاروخي بعيد المدى واعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي للأرض. حصلت هذه الصفقة في آب/أغسطس الماضي بموافقة الولايات المتحدة الأميركية، كونها هي التي ساعدت في بناء تلك المنظومة، ومن المتوقّع أن تستلمها ألمانيا في العام 2025. واعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت أنّ هذه الصفقة هي تأكيد على تعاون إسرائيل وألمانيا في بناء مستقبل أكثر أماناً لهما: «ومثلما حمت هذه المنظومة سماء إسرائيل وحياة مواطنيها، ستحمي ألمانيا ومواطنيها».