معاينة anti-globalization protests

عولمة ضد الديمقراطية

  • ظلت النيوليبرالية العقيدة السياسية الاقتصادية السائدة في الرأسمالية الحديثة إلى أن كشفت الأزمة المالية الكبرى حقيقتها: يوتوبيا اقتصاد سوق رأسمالي عالمي ذاتي التنظيم، تُختزل فيها السياسات الوطنية إلى دور إنشاء تلك المنظومة ودعمها، وتشجيع التكيف المرن معها، وربما الحفاظ على الطابع الفلكلوري للتقاليد الثقافية والسياسية المحلية، لإضفاء شعور بالانتماء في مجتمع يزداد تيهه

  • ساهم فقدان الاستقرار والثقة، والتوزيع غير المتكافئ للثروات التي تنمو ببطء متزايد، والركود الاقتصادي رغم المطالب بالتغيير الهيكلي، إلى جانب انعدام الأمان الثقافي المتصاعد وازدراء النخب للمتروكين خلف الركب، في ظهور حركات شعبية قاعدية من الطبقات الدنيا. رد النظام النيوليبرالي لما بعد الديمقراطية على هذه الحركات بالترهيب.

مع ظهور العولمة النيوليبرالية، فقدت الديمقراطية مكانتها كوسيلة للتدخل السياسي لتحقيق المساواة في الاقتصاد. وقادت النخب على جانبي الأطلسي هذا التوجه، إذ رأت الديمقراطية «مفرطة التبسيط» من الناحية التكنوقراطية أمام «التعقيد المتزايد» للعالم؛ وعرضةً لإثقال كاهل الدولة والاقتصاد؛ وفاسدة سياسياً بسبب رفضها تعليم المواطنين «قوانين الاقتصاد».

بحسب هذا المنطق، لا ينبع النمو من إعادة التوزيع من الأعلى، بل من الأسفل: من خلال تعزيز الحوافز للعمل (من خلال إلغاء الحد الأدنى للأجور وتقليص مزايا الضمان الاجتماعي في الفئات الدنيا من توزيع الدخل؛ وفي الفئات العليا، على النقيض، من خلال تحسين فرص تحقيق الأرباح وزيادة الرواتب، مدعومة بتخفيض الضرائب). وكانت العملية الأساسية انتقالاً إلى نموذج جديد للنمو مستلهم من أفكار ڨون هايك، يُراد إحلاله محل النموذج الكينزي السابق في سياق الثورة النيوليبرالية.

وعلى غرار أي عقيدة اقتصادية، يجب فهم هذه الأفكار على أنّها تمثيلات مُموَّهة للقيود والفرص السياسية الناتجة عن توزيع السلطة المرتبط بظروف تاريخية معينة، تلبَّسَت لبوس القوانين «الطبيعية». الفرق هنا أنّ الديمقراطية في العالم الهايكيّ لم تعد تظهر بمظهر قوة منتجة، بل بمظهر عبءٍ ثقيل يعيق التقدم الاقتصادي. ولهذا السبب، يجب حماية النشاط التوزيعي العفوي للسوق من التدخل الديمقراطي عبر فرض حواجز صارمة بينهما من مختلف الأنواع، أو الأفضل من ذلك، عبر إحلال «الحوكمة العالمية» محل الديمقراطية.

منذ أواخر السبعينيات، شهدت الديمقراطيات الرأسمالية انخفاضاً ملحوظاً في معدلات المشاركة في الانتخابات بمختلف أنواعها

لقد خضع تفكك النموذج القياسي للرأسمالية الديمقراطية في ظل تقدم العولمة لبحث مكثف. ففي عقدين من الزمن، منذ اختفاء الشيوعية السوفييتية، حققت النيوليبرالية عودة مذهلة: فقد طغت أفكار هايك، بعدما كان لفترة طويلة محل استهزاء بوصفه زعيماً لطائفة هامشية متشددة، على شخصيات بارزة في الشأن العالمي من أمثال كينز ولينين. تغلغلت أفكار هايك في تفكير الاقتصاديين والمؤسسات الدولية، ووصلت حتى إلى الحكومات الوطنية والأحزاب السياسية. شملت أفكاره الدعوة إلى نظام تُحمى فيه الملكية الخاصة دولياً وتتفوق فيه حرية السوق العالمية على السياسات الوطنية؛ وتحقيق التحرير الاقتصادي عبر أنظمة قانونية موحدة في دول ذات سيادة شكلية؛ والتحرير الاقتصادي داخل اتحادات دولية غير متجانسة؛ وحظر سياسة التدخل الحكومي من خلال قوانين المنافسة الدولية؛ وأخيراً، وليس آخراً، حرية حركة السلع والخدمات ورأس المال والأفراد لتحييد الدولة القومية اقتصادياً. بدأت الحكومات الوطنية والأحزاب السياسية تتبنى شكوك نظرية الاختيار العام تجاه نفسها.

ظلت النيوليبرالية العقيدة السياسية الاقتصادية السائدة في الرأسمالية الحديثة إلى أن كشفت الأزمة المالية الكبرى حقيقتها: يوتوبيا اقتصاد سوق رأسمالي عالمي ذاتي التنظيم، تُختزل فيها السياسات الوطنية إلى دور إنشاء تلك المنظومة ودعمها، وتشجيع التكيف المرن معها، وربما الحفاظ على الطابع الفلكلوري للتقاليد الثقافية والسياسية المحلية، لإضفاء شعور بالانتماء في مجتمع يزداد تيهه.

رافق تقدم نموذج النمو النيوليبرالي العولمي تراجع تدريجي للنموذج الديمقراطي القياسي لما بعد الحرب. منذ أواخر السبعينيات، شهدت الديمقراطيات الرأسمالية انخفاضاً ملحوظاً في معدلات المشاركة في الانتخابات بمختلف أنواعها، وكان ذلك أوضح بين الفئات الدنيا في توزيع الدخل والفرص الحياتية، وهي الفئات الأكثر احتياجاً للحماية الاجتماعية وإعادة التوزيع. في الوقت نفسه، شهدت الأحزاب السياسية، بغض النظر عن الفروقات المؤسسية الوطنية، تراجعاً كبيراً في عدد أعضائها. وينطبق الأمر ذاته على النقابات العمالية التي نادراً ما استطاعت منذ أواخر الثمانينيات ممارسة حقها في الإضراب بنجاح يُذكر. أما النظام الحزبي، كما أظهر بيتر ماير، فقد شهد انسحاب الأحزاب التقليدية في الوسط تدريجياً من مجتمع ناخبيها إلى جهاز الدولة، وكان لهذا التحول نحو التمركز في الدولة نظيره في خصخصة المجتمع المدني.

كانت القوة المحركة في هذه العملية الإلزام الفعلي بـ«الحكم بمسؤولية»، كما يصفه بيتر ماير، وهو إلزام نابع من العولمة ذاتها – بعبارة أخرى، نابع من غياب البدائل السياسية الحقيقية أو المزعومة أمام الفكر النيوليبرالي الأحادي المتنامي المرتبط بـ«إجماع واشنطن». ومثلما صارت النقابات العمالية التي تسعى للحفاظ على وظائف أعضائها عاجزة عن رفع مطالب أجور راديكالية، صارت الأحزاب السياسية التي تسعى لحكم دولها، وقد اندمجت الآن في السوق العالمية، عاجزة عن السماح لنفسها بأن تتأثر كثيراً بأعضائها. وباستخدام مصطلحات ماير فقد أتت المسؤولية على حساب التجاوب.

تزامن الانهيار النهائي للنموذج القياسي مع التسارع الكبير للعولمة في تسعينيات القرن العشرين. وتتميّز هذه العملية بأربعة جوانب شكّلت السمات الأساسية للانكماش الليبرالي في الديمقراطية الرأسمالية. يتعلق الأمر هنا بتحول معين في المصالح والمواقف التي يمثّلها مركز النظام السياسي الديمقراطي، وتشكيل نمط متوافق من العرض والطلب السياسي، وتصاعد الصراعات حول مكانة الدولة القومية في مواجهة تنامي الاهتمامات بإعادة إحياء سياسات الحماية وإعادة التوزيع.

بانضمام كل من اليمين الوسطي واليسار الوسطي إلى الجبهة الموحدة للعولمة، فقد كلاهما هويته السياسية، مهما كانت غامضة في الأصل

أولاً، في الأنظمة السياسية القياسية لما بعد الحرب، اضطلعت الأحزاب المحافظة ذات التوجه اليميني الوسطي (كانت في أوروبا القارية ذات توجه ديمقراطي مسيحي غالباً) بمهمة التوفيق بين الحفاظ على التقاليد الاجتماعية والتحديث الرأسمالي. لكن أصبح هذا التوفيق أصعب تحت ضغط العولمة. لم يكن الأمر مجرد أنّ نهاية الاشتراكية الواقعية أسفرت عن اختفاء نقيض النزعة المحافظة البرجوازية، ووجودها كان يسهل التوفيق بين الحفاظ على التقاليد والرأسمالية. بل ظهرت أيضاً ضغوط تنافسية جديدة انصبت على الأحزاب اليمينية الوسطية للتخلي عن توازنها بين التقدم والمحافظة، والانحياز إلى جانب أنصار التدمير الخلاق والتحديث الثقافي، باسم تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية الوطنية. (ومن الأمثلة على ذلك، التحول السياسي المدفوع نحو بنية اجتماعية قائمة على المشاركة الشاملة في سوق العمل، ما أضعف بشكل كبير تقبل المجتمع للسياسات الأسرية المحافظة). نتيجة لذلك، وجدت قطاعات متزايدة من الناخبين المحافظين ثقافياً أنفسهم بلا مأوى سياسي.

ثانياً، حدث تطور مماثل داخل الأحزاب ذات الطابع الاجتماعي الديمقراطي على اليسار من الوسط السياسي. فقد حرمها الانفتاح المتسارع للاقتصادات الوطنية من أهم أداة في حقيبتها السياسية: السياسة الاقتصادية الكينزية بنسختها ما بعد الحرب. يمكن قول الشيء نفسه عن الارتفاع السريع في الديون العامة بعد السبعينيات، وعن حقيقة أنّ تكاليف إبقاء السياسات الاجتماعية في الداخل بمنأى عن التسليع باتت تهدد بأن تصبح عبئاً تنافسياً. إذا أصبحت الأحزاب المحافظة في الوسط تدير التقدم الرأسمالي، فقد أصبحت نظيراتها الاجتماعية الديمقراطية مُيسّرةً وضامنةً له، بل ومروّجة له، تخبر ناخبيها بحماس عن وعود الازدهار المتجدد في آخر نفق العولمة.

في ألمانيا، على سبيل المثال، طُلِبَ من الدوائر الاجتماعية الديمقراطية التقليدية أن تعيد تشكيل نفسها على شاكلة رواد أعمال أفراد (من قبيل شركة إيغوس) مع دعم الدولة إذا لزم الأمر. وأُنبِئَت أنّ العصر الحديث يتطلب سياسة اجتماعية موجهة نحو الاستثمار بدلاً من الاستهلاك؛ والتكيّف المرن أفضل من التقاعد المبكر؛ والتضامن الدولي يعني الآن الخضوع للمنافسة في الأسواق العالمية. لم يلقَ هذا الطرح استحساناً أيضاً. فبينما شعر المنتصرون أنّ تمثيلهم بين مؤيديهم جزئي (جزئي فحسب، إذ انتقل عدد كبير منهم إلى الأحزاب الخضراء الجديدة ذات التوجه اليساري الوسطي)، وجد خاسرو العولمة أنّ كل هذا يفوق قدرتهم على التأقلم، فتخلوا عن راية التحديث الاجتماعي الديمقراطي، أولاً بعدم المشاركة في الانتخابات، ثم بالتحول إلى يمين جديد بعيداً عن المسار الرأسمالي الديمقراطي.

ثالثاً، بانضمام كل من اليمين الوسطي واليسار الوسطي إلى الجبهة الموحدة للعولمة، فقد كلاهما هويته السياسية، مهما كانت غامضة في الأصل. في سيرورة التكيف مع السوق العالمية، تحولت السياسة الديمقراطية فيما بعد الحرب من السعي طويل الأمد نحو نموذجين مختلفين لمجتمع مثالي (نموذج أبوي-هرمي من جهة، ونموذج مساواتي-بلا طبقات من جهة أخرى) إلى سلسلة من ردود الفعل البراغماتية قصيرة الأمد تجاه ظروف السوق العالمية المتغيرة باستمرار وبطريقة غير متوقعة. أصبحت السياسة وصنع القرار أقل أيديولوجية من أي وقت مضى، تفتقر إلى رؤية واضحة، فاستحال التمييز بينهما. وهكذا، تحولت الديمقراطية إلى ما يمكن تسميته بـ«ما بعد الديمقراطية»، حيث يُعامل الناخبون معاملة المتفرج السلبي، مع الاستعانة بخبراء العلاقات العامة ومتخصصي الترويج الإعلامي لتصميم السياسات.

سواء نشأت هذه الحركات من تجربة الحياة اليومية المعولمة أو أثارتها بانتهازية جهات فاعلة سياسية جديدة، فالقاسم المشترك بينها كان، ولا يزال، انعدام الثقة العميق تجاه أي نوع من «الانفتاح» على أحداث غير مؤكدة، من التجارة الحرة إلى الهجرة

تغير بالتبعية سلوك التصويت سواء في النوايا التي يعتمد عليها استراتيجيو الانتخابات أو في اختيارات الناخبين أنفسهم: لم يعد التصويت موجّهاً نحو فكرة اجتماعية جماعية مثالية أو مستقبل مشترك يُسعى إليه، بل انفصل عن المواقف الطبقية والأيديولوجيات، وأصبح استجابة للحظة الحالية بدلاً من التطلع إلى مستقبل مثالي. ونتيجة لذلك، زادت معدلات انتقال الناخبين بين الأحزاب، بينما أصبحت الأحزاب القديمة للنموذج القياسي تعتمد أقل فأقل على دعم مستقر من قواعدها التقليدية.

رابعاً، أسفر نزع الطابع السياسي بطريقة براغماتية عن السياسة، لا سيما في مجال الاقتصاد السياسي، إلى جانب ظهور سياسة اقتصادية موحّدة تتوافق مع السوق، عن إنهاء الهيكل التقليدي للصراع السياسي الحزبي على محور رأس المال-العمل الذي كان يرسم الفروقات السياسية والتكامل في النموذج القياسي. وقد حلّ مكانه انقسام جديد يخترق بنية المحسوبية في النظام القديم، بين أغلبية متقلصة شعرت بأنّها ممثلة بشكل عام في سياسات ما بعد الديمقراطية، وأقلية متزايدة شعرت بالإقصاء. تجلّى هذا الانقسام في عدة مظاهر، من بينها انخفاض نسب المشاركة في التصويت وارتفاع درجة التقلب الانتخابي وتراجع ملحوظ في ثقة المواطنين وتوقعاتهم تجاه السياسة والأحزاب عبر جميع الفئات.

في سنوات الأممية وأزماتها، تبلور انقسام آخر بين توجه قطري وتوجه أممي للمصالح السياسية. مَن شعر بأنّه استفاد من العولمة بطريقة أو بأخرى وجد نفسه ضمن النطاق الضيق لسياسات الطريق الثالث. في المقابل، بين الخاسرين اقتصادياً وثقافياً من العولمة، ممن لم يشعروا بالتمثيل الكافي في الوسط السياسي المعاد تنظيمه، تطور ميل نحو استعادة الاستقلالية السياسية وقدرة الدولة القومية لم يجد تعبيراً لنفسه لفترة طويلة وظل مغموراً سياسياً. وهذا الميل غدا قابلاً للتعبئة بازدياد من قبل الأحزاب والحركات ذات التوجه القومي، سواء اليمينية أو اليسارية، ولهذا السبب استُبعدت من الطيف السياسي السائد بحجة أنّها «شعبوية».

مثّلت أزمة العام 2008 نهاية العصر الذهبي للنيوليبرالية. قُطِعَت الكثير من الوعود، لكن لم يتحقق إلّا القليل. ابتدأت الشكوك حول الديمقراطية، إنْ لم يكن حول الرأسمالية نفسها، تتزايد بين الناس العاديين الذين أعادوا اكتشاف أنفسهم وإعادة تشكيلها سياسياً بأشكال وألوان مختلفة، سواء كمتظاهرين أو كناخبين. ساهم فقدان الاستقرار والثقة، والتوزيع غير المتكافئ للثروات التي تنمو ببطء متزايد، والركود الاقتصادي رغم المطالب بالتغيير الهيكلي، إلى جانب انعدام الأمان الثقافي المتصاعد وازدراء النخب للمتروكين خلف الركب، في ظهور حركات شعبية قاعدية من الطبقات الدنيا. رد النظام النيوليبرالي لما بعد الديمقراطية على هذه الحركات بالترهيب.

فشلت المركزية النيوليبرالية في الحفاظ على مؤسسات قطرية أو دولية قادرة على الحفاظ على استقرار الأسواق العالمية، ولما انهارت الأسواق انهارت معها السياسة النيوليبرالية نفسها القائمة على فكرة عدم قابلية الأسواق للفشل

سواء نشأت هذه الحركات من تجربة الحياة اليومية المعولمة أو أثارتها بانتهازية جهات فاعلة سياسية جديدة، فالقاسم المشترك بينها كان، ولا يزال، انعدام الثقة العميق تجاه أي نوع من «الانفتاح» على أحداث غير مؤكدة، من التجارة الحرة إلى الهجرة. رافق ذلك إعادة اكتشاف للتضامن المحلي والعدالة المحلية، على أسس إقليمية ووطنية وطبقية، وبجميع التركيبات الممكنة. حتى قبل الأزمة، كانت العولمة موضوعاً للاحتجاج. أما بعدها، ومن خلال مسارات متعددة، فقد أعادت تسييس الحياة السياسية التي كانت في حالة جمود لفترة من الزمن، لتصل إلى ذروتها مع صراع جوهري، ومتفاوت في وضوحه، حول المكانة الصحيحة والمشروعة للسياسة والديمقراطية والتضامن داخل المجتمع.

في الوقت الراهن، في جميع دول الرأسمالية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يُعاد اكتشاف بعض بقايا النموذج القياسي لديمقراطية ما بعد الحرب، واستغلالها كموارد مؤسسية للمقاومة الشعبية ضد التحديث الرأسمالي والثقافي المتسارع، وضد التغيير الهيكلي الذي تفرضه العولمة والذي يضعف القوة السياسية. ما يحدث فعلياً هو صراع مرير حول الطابع المستقبلي للدولة، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي: هل ستكون دولة مركزية ومتكاملة لحماية العولمة، أم لامركزية ومجزأة لمنع تقدمها؟ نخبوية أم مساواتية؟ برجوازية (صغيرة) أم شعبية؟ تكنوقراطية أم ديمقراطية؟ في السنوات السابقة على جائحة كوفيد-19، بدأت تظهر ملامح انعكاس الاتجاه النزولي في المشاركة السياسية، مع ازدياد الاحتجاجات والإضرابات المتكررة. والأحزاب القياسية للنموذج القديم وحلفاؤها في الإعلام لم يكن لها دور يُذكر في هذا التحرك. بل على العكس، قاومت الموجة الجديدة من التسييس بكل ما لديها من أسلحة دعائية وثقافية وقانونية ومؤسسية، وغالباً ما أسفرت جهودها من دون قصد عن تقوية مَن اعتبرتهم أعداءً للديمقراطية، بل أيضاً للدولة نفسها.

يمكن ملاحظة ديناميات هذا التطور في انعكاس مسار الانخفاض الطويل في نسب إقبال الناخبين في خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. قبل ذلك، كانت نسب المشاركة الانتخابية في الديمقراطيات الأوروبية تتراجع باستمرار، في استمرارٍ لاتجاه بدأ أواخر الستينيات، وكان هذا الانخفاض أوضح بين الفئات الدنيا اجتماعياً واقتصادياً. لكن في منتصف العقد الأول من القرن الجديد، شهدت نسب الإقبال ارتفاعاً بنحو ثلاث نقاط مئوية، ترافق مع زيادة سريعة في متوسط نسبة التصويت للأحزاب المصنفة شعبوية يمينية إلى 17% بعدما كانت 11%. وبينما تمكنت أحزاب اليمين الجديد، المدعومة بظروف سياسية واقتصادية ملائمة لمرحلة النيوليبرالية ما بعد الديمقراطية، من تعبئة الناخبين غير المبالين أو الساخطين، ساهم نجاحها في دفع الأحزاب القديمة والجديدة في الوسط إلى حشد الدعم، إنْ لم يكن باستقطاب مؤيدين جدد، فعلى الأقل بتحفيز معارضي منافسيها.

وهذا الانعكاس في العزوف الطويل عن المشاركة السياسية الذي طالما تأسفت عليه شرائح واسعة من الناخبين كان في الأساس نتيجة صعود الأحزاب اليمينية الجديدة التي وصفها القائمون على السلطة بغير الديمقراطية أو حتى معادية للديمقراطية. هذا التطور غير المريح أجبر المعلقين الليبراليين على التحول من نظرية ديمقراطية تشاركية إلى نظرية رجعية، كتلك التي قدمها سيمور مارتن ليبست، والتي ترى أنّ ارتفاع نسب المشاركة الانتخابية يعكس استياءً سياسياً قد يفضي إلى تطرف سياسي ويشكّل بالتالي تهديداً للديمقراطية بدلاً من تعزيزها.

ثلاثة عقود من المركزية والوحدة السياسية-الاقتصادية النيوليبرالية غيّرت جوهر الديمقراطيات الغربية: تراجعت الأحزاب السياسية الوسطية مع تعافي نسب المشاركة الانتخابية، وفقدت النقابات العمالية أعضاءها ومكانتها السياسية، بينما نخرت الأحزاب اليمينية الجديدة أو التيارات الشعبوية داخل الأحزاب القائمة التوجه المحافظ الوسطي، بما فيه الديمقراطية الاجتماعية التقليدية. وبحلول العام 2023، أصبحت المعارضة الجديدة في جميع الدول الغربية قوة سياسية مؤثرة بدرجات متفاوتة، وباتت في بعض الحالات شريكاً رسمياً أو غير رسمي في الحكومة، وأحياناً القوة السياسية المهيمنة فيها.

وينطبق هذا على الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك على إيطاليا وفرنسا والنمسا وكل الدول الاسكندنافية، دع عنك بولندا والمجر وأوروبا الوسطى والشرقية عموماً. وبغض النظر عن الخلافات بين القوميين اليمينيين الجدد، فالقاسم المشترك بينهم هو معارضتهم للتدويل وما يرافقه من مركزة وتكامل للحوكمة. وقد أبرز ذلك وسيَّسَ خط الصراع الكامن في الديمقراطيات الرأسمالية، والمرتبط بالنظام العالمي الجديد الذي أُرسيت دعائمه بعد العام 1990 في ظل النيوليبرالية العالمية.

اليوم، تشكّل الضغوط نحو الحكم الذاتي المحلي عبر اللامركزية واستعادة السيادة الوطنية وكيفية الرد عليها قضية محورية في السياسة القطرية والدولية، سواء في السياقات السياسية أو الاقتصادية. فالقوى التي تصر على سيادة دولها القومية، سواء في مواجهة دول إمبراطورية أو منظمات دولية أو أسواق حرة عالمية، بوسعها أن تدَّعي الدفاع عن شرط أساسي للديمقراطية الوطنية، حتى لو كان ذلك لتحقيق مصالحها وحدها وليس خصومها أيضًا. في المقابل، تسعى القوى التي تحافظ على الديمقراطية الليبرالية من الحقبة النيوليبرالية إلى مواجهة هذه التحديات، لكنها تقلل من قوة المعارضة وتبالغ في تقدير قدرات المنظمات فوق الوطنية أو دول الهيمنة الإمبراطورية. لكن لم تستطع الديمقراطية النيوليبرالية منع تضاؤل ثقة المواطنين في مؤسساتها، وهو أحد النتائج طويلة الأمد للثلاثة عقود الماضية من النيوليبرالية. كما فشلت المركزية النيوليبرالية في الحفاظ على مؤسسات قطرية أو دولية قادرة على الحفاظ على استقرار الأسواق العالمية، ولما انهارت الأسواق انهارت معها السياسة النيوليبرالية نفسها القائمة على فكرة عدم قابلية الأسواق للفشل.

 يقدم لنا مصير الاتحاد الأوروبي دروساً حول هشاشة الأممية القائمة على الدول، وحدود الحوكمة المركزية فوق الوطنية، وفشل التكامل في صورة التوحيد المطلق

لقد مزقت الثورة النيوليبرالية النظام السياسي والاجتماعي لتسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية، فاستحال معها العودة إليها. وهذا يجعل من الضروري فهم الأسباب الدقيقة لفشل المركزية فوق الوطنية إذا شئنا أن نفهم ملامح الديمقراطية فيما بعد العولمة والنيوليبرالية. فلا يمكننا ملء الفراغ السياسي الذي خلفته النيوليبرالية بنموذج وظيفي يعادل النموذج القياسي لما بعد الحرب إلّا من خلال هذا الفهم. وكما كان الحال مع سابقه العولمي، يجب أن يكون نموذج الديمقراطية ما بعد العولمي (والمبني على اللامركزية) جزءاً من نظام دولي ملائم يحترم الاستقلالية السياسية المحلية وسيادة الدولة القومية كشرطين أساسيين للديمقراطية في المجتمع والاقتصاد.

في هذا السياق، يقدم لنا مصير الاتحاد الأوروبي دروساً حول هشاشة الأممية القائمة على الدول، وحدود الحوكمة المركزية فوق الوطنية، وفشل التكامل في صورة التوحيد المطلق، وباختصار حول عبثية المحاولات، مهما كانت نواياها حسنة أو سيئة، لإرسال الدولة القومية بصفتها موقعاً للسيادة المشتركة إلى مزبلة التاريخ. من خلال النظر إلى حالة الاتحاد الأوروبي في نهاية الحقبة النيوليبرالية وبداية ما بعد العولمة على وجه الخصوص، يمكن استخلاص دروس حول قوى المقاومة ضد التوسع الهرمي-التكنوقراطي للسياسات فوق الوطنية، وهي القوى نفسها التي دفعت بدول الاتحاد الأوروبي إلى التباعد بدلاً من التحول إلى «ولايات متحدة أوروبية».

علاوة على ذلك، فإنّ الطريقة التي أُعيد بها إحكام السيطرة واستعادة المركزية في خلال مسار الحرب في أوكرانيا تشير إلى أنّ توحيد الدول القومية ذات السيادة فوق وطنياً يتحقق على نحو أفضل بمساعدة عدو أو حليف مشترك (دولة إمبراطورية تؤدي دور الموحّد الخارجي من خلال تحديد أو حتى خلق مشكلة أمنية دولية مشتركة يُصار إلى التعامل معها على المستوى فوق الوطني تحت قيادتها الإمبراطورية: وهذا يجعل الأمر مسألة حياة أو موت، ويختلف كل الاختلاف عن التخلي الطوعي عن السيادة الوطنية لصالح الازدهار الاقتصادي والراحة الكوزموبوليتانية، وهو مسار تحفه مخاطر جسيمة).

نُشِر هذا المقال في Compact Magazine في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.