Preview صندوق النقد

عين على الصندوق
صندوق النقد يدير ظهره للجنوب العالمي
الاجتماعات السنوية  في مراكش

«تمخض الجبل فولد فأراً». قد تكون هذه المقولة الأكثر تعبيراً عن نتائج اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين التي انعقدت في مراكش بين 9 و15 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد 50 عاماً منذ آخر انعقاد لها في إحدى دول أفريقيا . أمِل المتفائلون أن تشكّل هذه الاجتماعات نقطة تحوّل في تعامل الدول المتقدّمة، التي تملك اليد العليا في قرارات وعمليّات المؤسّستين الماليتين الدوليتين الأكثر قوّة وتأثيراً، خصوصاً مع تعاظم التحدّيات التي تهدّد العالم وتحديداً الجنوب العالمي. فنحن الآن أمام أزمة مناخية وأزمة تنمية وأزمة ديون، وفي الوقت نفسه ثمّة إعادة نظر جدّية بشرعية هذه المؤسّسات نتيجة تعاظم مطالب دول الجنوب، ولا سيّما الاقتصادات الأكبر فيها مثل البرازيل والصين وغيرهما، بإجراء إصلاحات جدّية في بنية الصندوق والبنك الدوليين لناحية تمثيل دول الجنوب وقوّتها ووزن أصواتها داخل المؤسّستين. سوف أركّز فيما يلي على صندوق النقد الدولي.

في كلمتها الافتتاحية للاجتماعات، قالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جيورجييفا، إن العالم وأفريقيا يواجهان تحدّيات شبيهة بتلك التي طرحت إبان آخر اجتماعات سنوية عقدت في أفريقيا (تحديداً نيروبي) في العام 1973. ولكن ما لم تقله جيورجييفا هو أن ردّ الصندوق على هذه الاجتماعات آنذاك كان التقشّف وبرامج التكييف الهيكلي الكارثية، التى دمّرت الاقتصادات والمجتمعات الأفريقية. ويبدو أنه بعد 50 سنة، في مراكش، ما زال الصندوق يستجيب للتحدّيات بطريقته المعهودة: التقشّف والدفاع عن مصالح الدائنين. فماذا حصل في هذه الاجتماعات فيما يتعلّق بأزمات الديون والمناخ وإصلاح المؤسّسة؟

أزمة الدَّيْن

وفق الصندوق، 60% من الدول المنخفضة الدخل تعاني من مديونية حرجة، أي أنها لن تستطيع إيفاء التزاماتها المالية للدائنين. على الرغم من ذلك، يكرِّر مسؤولو الصندوق والدول المتقدّمة أنهم ليسوا أمام أزمة ديون مُعمّمة تهدِّد النظام المالي. قد يكون الأمر صحيحاً إذا اعتبرنا أنه يمكننا الحديث عن الأزمات النظامية أو المُعمّمة حين تطال الدول المتقدّمة فقط. ولكن كلفة الدَّيْن تنهك حالياً معظم دول الجنوب، فهذه الدول، ولا سيما المنخفضة الدخل، سوف تدفع يومياً ما يقارب نصف مليار دولار حتى العام 2029 لخدمة الدَّيْن، والأفقر منها سوف تدفع للدائنين ما يصل إلى 4 أضعاف إنفاقها على الصحّة. وفي المقابل سوف تضطر هذه الدول مجتمعة إلى خفض إنفاقها العام بأكثر من 220 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة في وقت تحتاج إلى زيادة إنفاقها على الصحّة والتعليم ناهيك عن الاستثمارات المناخية الملحة.

سوف تدفع الدول المنخفضة الدخل يومياً ما يقارب نصف مليار دولار حتى العام 2029 لخدمة الدَّيْن، أما الأفقر منها فسوف تدفع للدائنين ما يصل إلى 4 أضعاف إنفاقها على الصحّة

أمام هذا الواقع، كلّ ما قدّمه الصندوق والدول المتقدّمة هو سدّ العجز التمويلي لذراع الصندوق التي تقدّم قروضاً مسهّلة للدول الفقيرة من ناحية، والتشديد على أهمّية التسريع في مسار إعادة هيكلة ديون الدول التي تخلّفت عن السداد مثل سريلانكا وغانا وغيرهما. ما زالت مقاربة أزمة الديون - التي لا يعترف بوجودها الصندوق - تقوم على المزيد من الدَّيْن ومعالجة وضع كلّ دولة على حدة من دون اللجوء إلى عملية شطب ديون واسعة. إن الاستمرار في هذا المسار ينذر بكارثة تلوح في الأفق، إذ تستنزف دول الجنوب مواردها العامّة بشكل مضطرد لخدمة الدَّيْن، فيما ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً لمحاربة التضخّم يزيد الطين بلّة من خلال رفع كلفة الدَّيْن بشكل كبير.

الأزمة المناخية

على الرغم من أن دول الجنوب غير مسؤولة عن الأزمات المناخية التي يشهدها العالم، فهي تشهد أسوأ تجلّياتها من التصحّر إلى الفيضانات وغيرها من الكوارث المتواترة يومياً. لذلك على الدول، وخصوصاً دول الجنوب، أن تستثمر بشكل كبير لتحقيق الانتقال البيئي وتعزيز قدرتها على مواجهة التحديّات المناخية المتعاظمة. في هذا الإطار أظهر تقرير «الراصد المالي» الجديد، الذي أطلقه الصندوق في خلال الاجتماعات السنوية، أنه في حال أرادت الدول زيادة استثماراتها العامّة من أجل تلبية طموحاتها المناخية سوف تشهد ارتفاعاً في الدَّيٌن العام بقيمة توازي 45 إلى 50% من الناتج المحلي الاجمالي بحلول العام 2050. أي أنه سوف يرتب أعباءً مالية ضخمة تهدّد استدامة الدَّيْن في هذه الدول، ولا سيما الدول النامية. 

ضريبة الكربون هي نوع آخر من الضرائب غير المباشرة، أي تلك التي يمكن للشركات أن تنقلها إلى المستهلكين عبر زيادة الأسعار، إنها النسخة المناخية للضريبة على القيمة المضافة

من هنا، دعا الصندوق إلى تشجيع الاستثمار الخاص في التحوّل المناخي عوضاً عن الاعتماد على الإنفاق العام، على أن تقدّم الحكومات التسهيلات المناسبة بالتوازي مع ضبط ماليّتها العامّة (أي التقشّف) وفرض ضريبة كربون لجني العائدات من الملوّثين وحثّهم على الانتقال الأخضر.

رسالة الصندوق لدول الجنوب واضحة: مصلحة الدائنين أولى من الإنفاق على مواجهة الأزمة المناخية. عملياً، إن إجابة الصندوق هي نفسها على كلّ تحدٍّ أو أزمة يواجهها العالم: التقشّف! كما أن ضريبة الكربون هي نوع آخر من الضرائب غير المباشرة، أي تلك التي يمكن للشركات أن تنقلها إلى المستهلكين عبر زيادة الأسعار، إنها النسخة المناخية للضريبة على القيمة المضافة. في الخلاصة، يصرّ الصندوق على سياساته الاعتيادية التي فشلت مراراً وتكراراً، عوضاً عن الدفع نحو شطب جزئي للديون لتمكين الدول من الاستثمار المناخي، أو دعوة الحكومات إلى فرض ضرائب على الأغنياء، لأن ملياردير واحد يطلق غازات دفيئة أكثر بمليون مرّة من الشخص العادي.

إصلاح الصندوق

يجري الصندوق حالياً المراجعة السادسة عشر للحصص، أي الكوتا. وعلى الرغم من أن معظم الدول هي أعضاء في الصندوق، ولكنها لا تملك الأوزان نفسها في آليّات اتخاذ القرارات وحقوق التصويت. تُحدَّد أحجام الدول من خلال الحصص المُحدّدة لها في المؤسّسة، ويتمّ احتسابها على أساس قيمة الناتج المحلي الاجمالي والانفتاح الاقتصادي وفق معادلة معيّنة. ولم تتغيّر الحصص بشكل جدّي منذ عقود على الرغم من التغييرات الاقتصادية الكبرى لجهة نمو الاقتصادات، لا سيما في دول الجنوب. فالصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حصتها 6.3% فقط بينما تبلغ حصّة الولايات المتحدة الأميركية 17.4% ممّا يعطيها حقّ النقض، أمّا بلدان أفريقيا جنوب الصحراء فتبلغ حصّتها مجتمعة نحو 3.5%. 

إن عجز الصندوق عن تلبية طموحات أعضائه من دول الجنوب، قد يسرّع فقدانه الشرعيّة، وبالتالي بحث الدول الخائبة عن بديل جدّي له

في خلال الاجتماعات وقبلها تعالت أصوات دول الجنوب، لا سيّما البرازيل والصين، للمطالبة بتعديل هذه الحصص المُجحفة وبالتالي عكس الواقع الحالي وإعطاء دول الجنوب وزناً أكبر في اتخاذ القرارات في الصندوق لتعزيز شرعيّته. ولكن لم يحصل أي من ذلك نتيجة رفض الدول المتقدّمة، لا سيّما الولايات المتّحدة الأميركية، التي لا تريد أن تحصل الصين على حصّة أكبر تجعلها لاعباً أساسياً في الصندوق، فتم تأجيل البحث في الموضوع إلى المراجعة السابعة عشر، أي إلى السنوات المقبلة، من دون أي ضمانات جدّية لتحقيق ذلك.

حاول صندوق النقد في مراكش تقديم نفسه على أنه مؤسّسة متغيّرة، تسعى إلى دعم دول الجنوب أمام الأزمات الطاحنة التي تواجهها. ولكن نتائج الاجتماعات لم تقدّم جديداً غير المزيد من الدعوات لتعميق السياسات التقشّفية، التي تمنع الدول النامية من النهوض وتحقيق أهدافها التنموية والمناخية. إن عجز الصندوق عن تلبية طموحات أعضائه من دول الجنوب، قد يسرّع فقدانه الشرعيّة، وبالتالي بحث الدول الخائبة عن بديل جدّي له، إذ أصبح جليّاً أن الهم الأساسي لصندوق النقد الدولي تقديم مصالح الدول المتقدّمة والدائنين فيها.