معاينة عودة الصندوق إلى الثمانينيات: تعميم نموذج الأرجنتين

عين على الصندوق
عودة الصندوق إلى الثمانينيات: تعميم نموذج الأرجنتين

أُختِتمت اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن الأسبوع الماضي بجوّ من الارتياح النسبي، إذ تنفّست قيادات هاتين المؤسستين الصعداء بعد إعلان وزير الخزانة الأميركية سكوت بيسينت عن عزم الولايات المتّحدة إبقاء عضويتها في مؤسّستي «بريتن وودز»، ولكن بشروط. 

مع هذا الإعلان، إلى أين سيتجه الصندوق لإرضاء إدارة ترامب؟

لعلّ أبرز معبّر عن وجهة صندوق النقد الدولي تحت ظلال ترامب، هو دبوس الصدر على شكل منشار، الذي قدّمه وزير إزالة القيود التنظيمية الأرجنتيني إلى مديرة الصندوق التنفيذية كريستالينا جورجييفا، وقامت الأخيرة بوضعه على صدرها بفخر وامتنان. هذا المنشار هو شعار إدارة الرئيس الأرجنتيني خافيير ميليه، وقد تبنّاه ايلون ماسك، ويرمز إلى الجهود الرامية إلى قصّ القيود التنظيمية للشركات والأعمال التي ينفّذها ميليه في الأرجنتين وماسك في الولايات المتّحدة. 

لم تتوقّف جيورجيفا عند هذا الحدّ، بل ذهبت إلى التنبيه أنّ على الأرجنتين البقاء على مسار «الإصلاحات» التقشفية، وقالت: «على الصعيد المحلي، ستتّجه البلاد إلى الانتخابات، كما تعلمون، في تشرين الأول/أكتوبر، ومن المهم جدّاً ألا تؤدّي هذه الانتخابات الى إحباط إرادة التغيير». أعتُبِر هذا التصريح بمثابة دعم انتخابي صريح للرئيس الأرجنتيني ما يخالف بنود الاتفاق التي يعمل على أساسها الصندوق. وربما كان ذلك زلة لسان في لحظة حماس، ولكن حتى لو أردنا تبنّي هذا التفسير الحميد لأقوال جيورجيفا، فإنه يشير إلى أريحيتها في التعبير عن الدعم المطلق للرئيس الأرجتنيني من دون مواجهة أي ردة فعل من الدول الأعضاء. وذلك لسبب بسيط وهو الرضى والسرور الذين يشعر بهما الأعضاء الأكثر ثقلاً في الصندوق، كالولايات المتّحدة والدول الأوروبية، من برنامج الأرجنتين وأداء الرئيس في تطبيقه المتمثل بتطبيق مقاربة الصدمة عبر السياسات التقشّفية العنيفة. وفي الأسبوع الذي سبق اجتماعات الربيع، كافأ الصندوق الأرجنتين عبر الموافقة على برنامج إقراض جديد بقيمة 20 مليار دولار أميركي.

الموقف الأميركي هو العذر المرحّب به لدفع المؤسّسة نحو استعادة ماضيها المشؤوم ولكن هذه المرّة من دون قفازات

إذاً، على ما يبدو، الأرجنتين هي وجهة الصندوق، وبرنامج الأرجنتين سيكون النموذج الذي على أساسه سيصمّم الصندوق برامج الدول الأخرى. لن أستفيض في برنامج الأرجنتين، ولكن من المفيد إعطاء لمحة سريعة لمعرفة ماذا سينتظر الدول الأخرى التي ستلجأ إلى الصندوق لمعالجة أزماتها الاقتصادية.

عزم الرئيس اليميني المتطرف ميليه على نقل المالية العامة في الأرجنتين من عجز أولي بلغ 2.9% من الناتج المحلي في كانون الأول/ديسمبر 2023 عندما استلم الحكم إلى تحقيق فوائض مالية أولية بلغت 1.8% من الناتج المحلي في أقل من سنة. وقد حقّق ذلك عبر تطبيق إجراءات تقشفية راديكالية وقاسية جدّاً. فخفض الإنفاق العام بنحو 30%، من ضمنها الإنفاق الاستثماري، كما ألغى وزارات عدّة كوزارتيْ التعليم والعمل. وفي سنة واحدة ألغى أكثر من 38 ألف وظيفة في القطاع العام الذي تعرّضت أجوره إلى انخفاض حقيقي بنسبة 14.5%، كما قصّ من الإنفاق على الأجور التقاعدية بنسبة 14%. هذا بعض من الإجراءات الراديكالية الذي اتخذتها الحكومة الأرجنتنية وأدّت إلى انخفاض الحركة الاقتصادية، فشهد قطاع البناء انخفاضاً بلغ 29.5% كما انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 12.7%. وانعكس ذلك بشكل كبير على سوق العمل الذي خسر أكثر من 240 ألف وظيفة في القطاع النظامي. وأدّى كل ذلك إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 52.9% والفقر المدقع إلى 18.1%.

يدعم صندوق النقد هذه السياسات الراديكالية الخطيرة بشكل مطلق، مبرّراً ذلك بمقولة «ألم على المدى القصير ولكن فوز على المدى البعيد». ويمكن لهذه الصورة أن تبدو معتادة للبعض، نظراً لسمعة الصندوق والآثار التي خلفها في برامج التكييف الهيكلي التي اعتمدها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. ولكن الصندوق كان قد عدّل مقاربته الكلاسيكية. لنكن واضحين، لم يتخلّ الصندوق عن فرض التقشّف على الدول التي تلجأ إليه، لكنه اعتمد، في العقد الأخير على الأقل، مقاربة مرنة سامحاً للدول أن تطبق تقشفاً تدرّجياً من أجل تخفيف الألم على الضحايا. ولكن هذا على وشك أن يتغيّر. فبقاء الولايات المتّحدة في صندوق النقد الدولي مشروط. في الأسبوع الماضي، ألقى وزير الخزانة الأميركية كلمتين، الأولى أمام معهد المالية الدولي، وقال إنه «علينا العمل لجعل صندوق النقد الدولي صندوق النقد الدولي مجدداً»، مفسّراً ذلك بأن على الصندوق العودة إلى دوره كضابط للاقتصاد الدولي ومعالجاً لأزمات ميزان المدفوعات من دون الانشغال بالقضايا الاجتماعية أو المناخ أو المساواة الجندرية. وسمّى الأرجنتين على أنه مثال يُحتذى، قائلاً: «الأرجنتين مثالٌ يحتذى به. زرت الأرجنتين في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر لأُعرب عن دعم الولايات المتّحدة لجهود صندوق النقد الدولي لمساعدة البلاد على استعادة توازنها المالي. تستحق الأرجنتين دعم صندوق النقد الدولي لأنها تُحرز تقدماً ملموساً نحو استيفاء المعايير المالية». وفي اليوم التالي ألقى كلمة أمام اللجنة النقدية والمالية الدولية للصندوق قائلاً: «ينبغي على كلّ من صندوق النقد والبنك الدوليين تعزيز الانضباط السياساتي للدول لتعزيز مؤسساتها [...] وينبغي أن تدار هذه الاقتصادات من خلال نمو غني بالوظائف، يقوده القطاع الخاص، وأن تركز على الحكمة المالية وتعبئة الايرادات المحلية». باختصار تقشّف من دون الالتفات إلى الكلفة الاجتماعية الباهظة، تأديب الدول اقتصادياً، وتقليص حجم القطاع العام ونزع القيود على الأعمال.

الأرجنتين هي وجهة الصندوق، وبرنامج الأرجنتين سيكون النموذج الذي على أساسه سيصمّم الصندوق برامج الدول الأخرى

يجب وضع تصريحات بيسينت في إطار اعتزام الصندوق مراجعة مشروطياته وكيفية تصميم البرامج. وأشارت الأجواء في خلال اجتماعات الربيع إلى أن هذه المراجعة تعتزم التركيز على منع البرامج المتكرّرة لبلد واحد والتشديد على الانضباط المالي (أي التقشّف)، وخصوصاً تطبيق التقشّف بمعظمه في المراحل الأولى للبرامج المرتقبة، أي في السنة الأولى على غرار ما فعلته الأرجنتين. تحدثت في المقال السابق عن الذعر في الصندوق خشية انسحاب الولايات المتحدة وما يمكن أن يحدث في حال لم تنسحب. وفي السيناريو الأخير كان التركيز من جهة على كبح الصندوق من التدخل في القضايا غير الأساسية لتأسيسه أي المناخ والجندر والقضايا الاجتماعية، ومن جهة أخرى، العودة إلى فرض التقشف القاسي. بما يتعلق بالأول، فهذا الاتجاه جلياً من خلال خطاب بيسينت ومن خلال غياب هذه القضايا بشكل كبير من اجتماعات الربيع بعدما كانت تأخذ موقعاً محورياً في الاجتماعات السابقة. ويمكن أن تحاول المديرة التنفيذية والدول الأوروبية المحافظة على هذه القضايا، وتحديداً المتعلقة بالمناخ، خصوصاً أن المديرة التنفيذية هي من دفعت باتجاه أن يكون الصندوق فاعلاً في معالجة التحدّيات المناخية. فهذا الاتجاه مرجح ويمكن تحقيقه عبر تخلي الصندوق خطابياً عن المناخ ولكن المحافظة على التوصيات السياساتية والبرامج المتعلق بهذه القضية. 

أما في ما يتعلق بتشديد التقشف والتخلي عن المرونة في هذا المجال، فهناك شبه إجماع على ضرورة تحقيق ذلك. فالموقف الأميركي هو العذر المرحّب به لدفع المؤسّسة نحو استعادة ماضيها المشؤوم ولكن هذه المرّة من دون قفازات. ويمكن لبعض البلدان وقيادات الصندوق أن تستخدم الولايات المتّحدة لتبرير سياسات لطالما اشتاقت إليها. في افتتاح الاجتماعات السنوية في العام 2015 في ليما، البيرو، قالت كريستين لاغارد، المديرة التنفيذية للصندوق حينها أن الصندوق «ليس صندوق جدّكم». عنت بذلك أن هذه المؤسسة هي ليست نفسها التي عرفها جدّكم الذي شهد نتائج برامج التكييف الهيكلي الكارثية. ولكن مع اجتماعات الربيع في العام 2025 تبيّن أن صندوق جدّنا يعود بعد نومٍ طال أكثر من عقد… فلنستعدّ.