
مجتمع من كتل ثلاث متساوية: لبنانيون وسوريون ومهاجرون
تحت عنوان «لبنان: أزمات وهجرات، مجالات وسكان، دولة وبلدية؟»، ألقى شربل نحاس محاضرة تناول فيها التحولات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها لبنان في ظل الأزمات المتعددة داخلياً وإقليمياً. استعرض واقع الهجرات وتأثيرها على التركيبة السكانية، خصوصاً في ظل النزوح السوري وآثاره العميقة على المجتمع اللبناني. تطرق إلى العلاقات التاريخية بين لبنان وسوريا، مؤكداً أهمية هذه الروابط وتأثيرها على المشهد الإقليمي، كما ناقش التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه لبنان في ظل التدخلات الإقليمية والدولية المتغيرة. كما قدم رؤية تحليلية مستقبلية حول تطور التركيبة السكانية وتوزيع السكان، وربطها بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي اللبناني، مسلطاً الضوء على التحديات الراهنة والمستقبلية التي تستوجب اهتماماً جاداً.
نص المحاضرة:
في موسم الانتخابات البلدية في بيروت، قد يفيد الاطلاع على بعض الأرقام التي تبيّن العدد الإجمالي للمقيمين في بيروت الإدارية. والتركيز على بيروت الإدارية لأنها تُعدّ محافظة وفق التقسيمات الرسمية، وتُصدر الإحصاءات على هذا الأساس.
تراجع عدد المقيمين في بيروت الإدارية من 474 ألفاً في العام 1970 إلى 375 ألفاً في العام 2004 ثم إلى 340 ألفاً في العام 2018. هذه الأرقام رسمية وصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي. 31% منهم غير لبنانيين، وغالبيتهم من السوريين المقيمين في المدينة. بناءً على ذلك، يبلغ عدد اللبنانيين المقيمين حالياً في بيروت نحو 235 ألفاً، أي ما يعادل نصف عدد المقيمين في العام 1970.
ننتقل الآن إلى أرقام المسجّلين في بيروت. تُظهر لوائح الشطب عددهم الإجمالي، وتُسهم بنية الأعمار في تقدير الفئات دون 21 سنة. وعليه، بلغ عدد المسجّلين 780 ألفاً، من بينهم 445 ألف مهاجر، ما يعني أن 58% من المسجّلين لا يقيمون في لبنان. وتبقى نسبة 42% من المسجّلين المقيمين في لبنان، نصفهم يعيش داخل بيروت الإدارية، بينما ينتشر النصف الآخر في جبل لبنان، خصوصاً بين عرمون والمتن وضواحي المدينة.
يحيط بيروت من الجنوب اتحاد بلديات الضاحية الذي يتخذ طابعاً سياسياً وطائفياً، ومن الشمال الشرقي اتحاد بلديات المتن، وتظهر مفارقات لافتة، مثل تبعية سن الفيل لبتغرين، والغبيري للنبطية.
عند التأمل في هذا الواقع، تبرز أوجه شبه كثيرة مع وضع طرابلس، بل لعلّ الحالة هناك أشد تعقيداً. المشاركة الانتخابية التي تراوح بين 20% و30% تعكس هذا المشهد. تُروّج وسائل الإعلام لصراعات انتخابية حادّة، من دون أن تشير إلى أن 60% من المسجّلين في بيروت وطرابلس مهاجرون.
ننتقل الآن إلى المشهد الإقليمي. عند تناول لبنان وسوريا والأردن كمجال جغرافي مترابط، مع الأخذ في الاعتبار المأساة الفلسطينية، نلاحظ أن نسبة سكان لبنان إلى مجموع سكان هذا الإقليم قد شهدت تحوّلات واضحة. بين العامَين 2010 و2015، ارتفع عدد غير اللبنانيين المقيمين في لبنان نتيجة النزوح السوري، في مقابل تراجع نسبي في عدد سكان سوريا بسبب الحرب والهجرة.
القصة معروفة منذ العام 1997، حين انسحبت البنوك الأجنبية في العام 2000، وأدركت أن الانهيار آتٍ. من بقي، استمرّ على الرغم من علمه بالمصير، وحقّقوا في خلال تلك السنوات نحو 40 مليار دولار من الأرباح
في السياق نفسه، كانت بيروت تحتل موقعاً مركزياً ضمن المدن الرئيسة في الإقليم، إذ حافظت حتى العام 1975 على نسبة تراوحت بين 25% و35% من مجموع سكان المدن في لبنان وسوريا والأردن، سواء من حيث العدد الإجمالي أو عدد اللبنانيين، ما جعلها تتصدّر المشهد الحضري في المنطقة. بدأت هذه النسبة بالانخفاض المتواصل، ثم استقرّت عند 20%. لاحقاً، ومع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا والأزمة المالية في لبنان، تراجعت من جديد. يمثّل سكان بيروت الكبرى اليوم أقل من 20% من مجمل سكان مدن المنطقة التي يزيد عدد سكانها عن 300 ألف نسمة وهي عمان ودمشق وحلب، أما نسبة اللبنانيين من سكان بيروت فانخفضت من 35% إلى 15%.
تكتسب هذه المعطيات أهميّة كبيرة. المدينة لا تنفصل عن محيطها، بل تحتل موقعاً ضمنه، حيث تتركّز فرص العمل، وتتجمّع الاستثمارات، وتتشكل أدوات التأثير الإعلامي والفكري والسياسي والثقافي. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون مدينة متجذّرة في محيطها.
انطلاقاً من هذا الإطار، ننتقل إلى حدث اليوم وإلى موضوع كتاب «لبنان: أزمات وهجرات، مجالات وسكان» الذي نعرض بعض ملامحه.
حين يدرك الإنسان معنى السياسة، يتعامل معها باعتبارها مسؤولية وتحدياً، لا مجرد مواقف متصلّبة أو استعراضات. السياسة في جوهرها ترتبط بالسكان والمجال. ويتغيّر هذان العاملان باستمرار. تتبدّل أوضاع الناس وتتغيّر مواردهم وتُعاد صياغة المجال وترتيبه وتنظيمه. لهذا السبب تبقى دراسة المجال والسكان أولوية دائمة.
ما المقصود بالهجرات؟
الهجرة هي حركة السكان داخل المجال، بغضّ النظر عن الحدود أو الجنسيات. لا يُغيّر ذلك من جوهر المسألة. تعبّر الهجرة عن العلاقة بين الناس والمجال، وعن التحولات التي تطال الاثنين.
وبعد سلسلة دراسات تناولت الهجرة وآلياتها ونتائجها، وضمن أطر تنظيم المجال في لبنان، خصوصاً من خلال المخطط الشامل لترتيب الأراضي، تبيّن لي أن هذا الهمّ يغيب تماماً عن مقاربة معظم الناس، الذين ينظرون إلى أنفسهم وإلى العالم بعين أخرى لا تتقاطع مع هذه الرؤية.
ما الذي يُنتِج الهجرات؟
تظهر الهجرة حين تتغير أوضاع السكان والمجال. عاش الناس في الريف ضمن اقتصاد معيشي بالكاد يكفيهم، يرسلون جزءاً من إنتاجهم إلى المدينة. لاحقاً، ارتفعت الإنتاجية الزراعية، وفقد كثر وظائفهم في الأرض. ومع التعليم، اكتسبوا مهارات جديدة وولد لديهم طموح آخر، فانتقلوا.
حين تتراكم هذه التغيّرات من دون معالجة، لا يكون الانهيار مفاجئاً. لم يشكّل الإفلاس صدمة. فالقصة معروفة منذ العام 1997، حين انسحبت البنوك الأجنبية في العام 2000، وأدركت أن الانهيار آتٍ. من بقي، استمرّ على الرغم من علمه بالمصير، وحقّقوا في خلال تلك السنوات نحو 40 مليار دولار من الأرباح.
نزح سكان الريف في الستينيات، في خلال عهد فؤاد شهاب وما تلاه. وأدّى ذلك إلى الحرب الأهلية. نعرف من أشعلها، ونعرف الزعماء الذين خاضوها، جميعهم من أبناء الريف. بالمثل لم يُفاجئ الانفجار في سوريا من قرأ الوقائع. حين يتجاهل الناس التحوّلات، تتراكم الأزمات.
تأتي الهجرة نتيجة تغيّرات مكبوتة وتنفجر في هيئة أزمات، لكنها تولّد بدورها تغيّرات جديدة وأزمات أخرى. هذا ليس شأناً لبنانياً فحسب، بل واقع عالمي: من الجدار الذي يحاول ترامب بناءه إلى صعود اليمين، تتكرّر المسارات نفسها.
المشكلة أنّنا، في لبنان كما في عموم المنطقة، وفلسطين حاضرة دائماً، وما يجري في سوريا كذلك، نعيش أزمات وهجرات متواصلة، تتسارع بحدّة استثنائية منذ عقود. ومع ذلك، لم تترك التحذيرات والمقترحات والمعطيات أثراً يُذكَر، على الرغم من أن صحّتها تكشّفت تباعاً.
الإفلاس، الهجرات، والتحولات في المجال دفعتني إلى خلاصة مفادها أن الامتناع عن التعامل مع الواقع لا يعود دائماً إلى الجهل أو سوء النيّة، ليس بالضرورة أن يكون الزعماء غير فاهمين، أو أنهم بلا أخلاق، الواقع أنّهم أسرى. يظهرون بمظهر الأقوياء، لكنهم مقيّدون بأدوار مفروضة عليهم، يُضطرون إلى استعراض القوة لطمأنة جمهور قلق، جمهورٍ مفكّك يبحث عن طمأنينة في صورة الزعيم القوي. ومن يتبع الزعيم يريد أن يراه قوياً. لهذا يُنظّم الحشد والهتاف. وعند المواجهة، لا مكان للتردد، لأن التردد يهدّد الموقع والدور.
منذ 6 سنوات حتى اليوم، لم ينطق أيّ من الزعماء، من أي جهة، بكلمة جدّية عن كيفية إدارة ما تبقّى من الموارد، أو بصيغة أكثر دقة، عن كيفية توزيع الخسائر. لا من اليمين ولا من اليسار، لا ليبراليون ولا اشتراكيون. كلّ ما قيل لا يتجاوز العموميات: «فجوة مالية»، «الوديعة المقدسة»، وما شابه. لا يوجد مضمون فعلي، لأن أي مقاربة جدّية ستكشف التناقض داخل كل طائفة: هناك فقراء وأغنياء، دائنون ومدينون. وأي خيار فعلي ينطوي على تفضيل مصلحة على أخرى، ما يؤدّي إلى تفكّك الشرعية وانهيار الزعامة والطائفة.
أي مقاربة جدّية ستكشف التناقض داخل كل طائفة: هناك فقراء وأغنياء، دائنون ومدينون. وأي خيار فعلي ينطوي على تفضيل مصلحة على أخرى، ما يؤدّي إلى تفكّك الشرعية وانهيار الزعامة والطائفة
نحن أمام عجز بنيوي. كلّ زعيم بمفرده عاجز، فكيف إذا اجتمعوا تحت شعار «العيش المشترك»، حيث يمتلك كلّ طرف حق الفيتو؟ النتيجة شلل كامل. لا يتحرك شيء إلّا إذا وصل اتصال من السفارة. عندها فقط يُتّخذ القرار.
هذا العجز والتجاهل ليسا وليدي سوء نية أو قلة فهم. بعضهم يمتلك قدراً من الفهم والأخلاق، ولكن ليست هذه هي المسألة. المهم أن العجز ناتج عن بنية النظام السياسي نفسه. هذه ملاحظة محورية سننطلق منها لفهم طبيعة النظام السياسي-الاجتماعي القائم.
في العام 2016، كانت تجري عمليات إعادة ترميم للنظام. لا ننسى الشغور الطويل الذي أعقب اتفاق الدوحة، ومحاولات إعادة الانتظام التي فشلت، إلى أن بدأت «الهندسات المالية». وفي الوقت نفسه، كانت الحرب في سوريا تنحرف عن السيناريوهات المرسومة، وبدأ يظهر أن «بشار الأسد لن يسقط في خلال يومين» كما توهّم البعض. وفي هذا السياق، تم ترميم النظام تمهيداً لانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بتوافق شبه عام، وتكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة «وحدة وطنية» لتكملة المشهد.
في خضم ذلك، اقترح وزير الداخلية إجراء انتخابات بلدية. وجرى تسويق الفكرة على أنها خطوة عائلية وإنمائية، تساهم في خلق جو ديمقراطي شعبي، وتسهّل إعادة ترميم النظام.
اجتمعنا آنذاك مع عدد من الأصدقاء، وأطلقنا مبادرة «مواطنون ومواطنات في دولة». لم تكن المبادرة ردّ فعل على الانتخابات البلدية نفسها، بل كانت محاولة لمواجهة إعادة ترميم النظام عبر ما سُمّي زوراً انتخابات بلدية. الفكرة كانت أن يترشّح أفراد في القرى والمدن بمشاريع سياسية، ويخوضوا مناقشة مفتوحة مع الناس حول هذه المشاريع. طرحنا برنامجاً سياسياً موحداً، وأعلناه من هذا المنبر بالذات، في مسرح المدينة. لكن التجربة لم تنجح.
جاءت المشكلة الأهم من مكان آخر: عدد من المعنيين بالتخطيط المدني، خصوصاً في الجامعات مثل الأميركية في بيروت، أو في الجمعيات، رأوا في هذه اللحظة فرصة مثالية. السلطة كانت مربكة، وهم قرّروا تحويل موقعهم المهني إلى امتياز معرفي وأخلاقي. وبمنطقهم، خصومهم لا يفهمون ولا يملكون أخلاقاً. بالتالي، صفتهم «المدنية» تمنحهم تفوّقاً يتيح لهم دخول دائرة التأثير.
قالوا إن تحرّكهم غير سياسي، واختاروا بيروت، كونها مدينة طبقية تتأثر بسهولة بالخطاب النخبوي. وسعوا إلى تمثيل أنفسهم عبر مرشحين محترفين، يجيدون العمل العام، وأطلقوا مبادرة «بيروت مدينتي». حصلوا على دعم إعلامي ينجذب إلى المشهدية، وبدؤوا يطلبون تمويلاً من جهات إقليمية صاحبة «قوة ناعمة». وظهروا على الشاشات، واستُحدثت لهم برامج خاصة. سُمّوا «تغييريين». ثم خاضوا انتخابات 2022. لكن ماذا قدّموا؟ هل سمع أحد منهم يتحدّث عن إدارة ما تبقى من الموارد؟ وعن توزيع الخسائر؟ وعن دور المصارف؟
بلدية بيروت كانت تملك نحو مليار دولار وُضِعَت في المصارف. لم يتفوّه أحد منهم بكلمة. بعضهم كان ضمن «8 آذار»، وغالبيتهم من «14 آذار». يكررون على الشاشات الخطاب نفسه: «العيش المشترك»، «احترام الأعراف»، «المناصفة»، فضلاً عن دعوات الإصلاح ومحاربة الفساد. لا يختلفون في شيء عن مندوبي الزعماء، سوى بادعائهم أنهم أذكى.
المسرحية نفسها. النص نفسه. تغيّرت الوجوه فقط. ما يُسمّى «تغييراً» لم يكن سوى تبديل ممثلين.
تابعوا طريقهم، ولم يتنبّهوا إلى الإفلاس، ولا إلى إعادة ترتيب الإقليم بالدم والمال، ولا إلى الانفلات الصهيوني وخرائط نتنياهو، ولا إلى تصاعد الهجرات.
أما نحن، فتابعنا مواجهتنا. خضناها في 17 بلدة، وأسّسنا معاً «مواطنون ومواطنات في دولة». لا كمبادرة بلدية، بل كحزب سياسي في مواجهة شرعية سلطة تستخدم الانتخابات لتغطية إعادة الترميم.
ونخوض اليوم معركة المدن. من بيروت إلى صيدا، ومن طرابلس إلى عيترون. تختصر هذه المدن كل البلد، وتعكس أزماته العميقة. يقول الخطاب الأول إن الشيعة هم من اختاروا هذا المسار، وعليهم تحمّل نتائجه وتدبّر شؤونهم بأنفسهم. أما الخطاب الثاني فيدعو إلى لملمة الصف وتجنّب التصعيد وإغلاق الأبواب أمام الفتنة. بمعنى آخر، طرف يبني جداراً، والآخر يردّ ببناء جدار مقابل.
كيف يُدار التعامل مع السكان والمجال؟
يقول البعض إن «لبنان بلد فريد»، لكن لا شيء يبرّر هذه الفكرة. البشر متشابهون في أنماط تنظيم حياتهم. بعض المجتمعات تنظم نفسها كعشائر تتقاسم الأرض والعمل، ويقودها شيخ. وفي مجتمعات أخرى، تُبنى القبائل على أنساب مختلقة. وهناك الإمبراطوريات التي توسّعت بالحروب ثم انهارت من الداخل. ما زالت أفكار ابن خلدون مرجعاً لفهم هذه التحوّلات.
توجد أيضاً الطوائف، وهي نمط مختلف. الطوائف لا تغزو، بل تعيش على هامش الإمبراطوريات، غالباً في مناطق معزولة: الجبال، الصحارى، أو غيرها، كما كانت الحال في لبنان قبل بيروت. هذه المنطقة لم تكن يوماً مثل الغوطة أو وادي النيل. استوطنتها الطوائف، وما زالت آثار الديانات التي مرّت منذ 2500 سنة حاضرة فيها. الفاطميون، على سبيل المثال، حكموا من مصر، لا من هنا. الطائفة ليست مجرد انتماء ديني، بل أداة لإدارة السكان والمجال. عقلية منغلقة، تُبنى على علاقات قرابة حقيقية أحياناً، لكنها مُلفّقة في كثير من الأحيان.
ما نُسمّيه «الدولة الحديثة» ليس قديماً ولا مركزياً في التاريخ. نشأ هذا النموذج في منطقة هامشية من العالم القديم، هي أوروبا، قبل اكتشاف أميركا. لم تكن أوروبا مركزاً حضارياً، بل هامشاً. وفي خلال قرون من الحروب الدموية، نشأت الدولة الحديثة.
بلدية بيروت كانت تملك نحو مليار دولار وُضِعَت في المصارف. لم يتفوّه أحد منهم بكلمة. بعضهم كان ضمن «8 آذار»، وغالبيتهم من «14 آذار». يكررون على الشاشات الخطاب نفسه: «العيش المشترك»، «احترام الأعراف»، «المناصفة»
تمكّن هذا النموذج من حشد الطاقات والموارد بطريقة غير مسبوقة، وسيطر على العالم. بدأوا بتقسيم الأرض عبر الخرائط، مستخدمين القوة الصلبة، ثم تحوّلوا إلى القوة الناعمة.
وفي منطقتنا، ظهرت محاولات لتقليد إصلاحات العثمانيين. بعضهم حاول بجدّية متفاوتة، وبعضهم اكتفى بالتمثيل. لذا من غير المقبول أن يخرج وزراء أو نواب ليقولوا إنهم أقرّوا قانوناً «لإرضاء المجتمع الدولي». فالقوانين تُقرّ حين تبرز حاجة مجتمعية للتغيير، لا لأن جهة خارجية طالبت بذلك. حتى لو فعلوا، من المعيب إعلان ذلك بهذه البساطة.
اليوم، الحاجة إلى الانتقال من نظام هشّ إلى آخر فعّال لم تعُد نظرية. النظام القائم يقوم على هدنة مضبوطة بين طوائف ممأسسة. ويُترجم هذا العجز تبديداً للمجتمع. أقصى طموحات الناس ألّا تندلع حرب جديدة، وأن يتمكّنوا من تأمين تعليم لأولادهم، لعلّهم لا يضطرون إلى الهجرة. هذه ليست حياة، بل موت رحيم.
كلما صعّد أهل السلطة خطابهم على الشاشات، سكت الناس خوفاً. السلطة تُتقن إدارة القلق من دون عنف مباشر. وتُجيد تفعيل ذلك في الانتخابات، خصوصاً في بيروت، وكأنّ شيئاً لا يتغير.
نحتاج إلى الانتقال إلى نظام دولة، لا بدافع أيديولوجي، بل لأن الضرورة تفرضه. هذه الحاجة راسخة في شرعيتها. وبما أننا أبناء تاريخ نعرفه، لا نبالغ في تمجيده ولا نخجل منه، لا يمكن أن تنشأ عندنا دولة إلا على قاعدة مدنية. في أماكن أخرى، قد تُبنى دولة دينية أو قومية. هنا، الأمر غير ممكن. المسألة ليست أيديولوجية.
كيف نعالج مسألة الطوائف؟
بالاعتراف بواقعها. لا يمكن «إلغاء الطوائف» لأن ذلك يعني عملياً إلغاء المجتمع نفسه. نتعامل معها كموروثات واقعية. وأولى مهمات الدولة أن تحمي الطوائف من بعضها، وأن تحول دون استغلالها من قبل الخارج.
أنظروا إلى سوريا، لا تحتاج إلى شرح. هذا هو المنطلق الذي انبنى عليه هذا الكتاب. أعادت الانتخابات الأخيرة فتح هذا الملف. ويكمل هذا العمل كتاباً صدر في العام 2021 بعنوان طقوسية اللا-دولة الطائفية: انتخابات 2018–2019. غطّى ذلك الكتاب مرحلة محددة، أما الكتاب الجديد، فيرصد ما جرى منذ العام 2019 حتى اليوم: من هجرات إلى إفلاس إلى إعادة ترتيب المجال.
الكتابان يصدران خارج النص الرسمي، ذاك الذي كُتب على مراحل، مواكبةً للتحولات. نسخة مختصرة ظهرت سابقاً، ركّزت على التقديرات والاستشرافات الرقمية، ونُشرت أولاً لدى «المؤسسة الوطنية للمواطنة» بالفرنسية، ثم أعاد موقع «صفر» نشرها.
أما بالعربية، فقد اكتمل الكتاب عملياً بصيغته النهائية في صيف 2024. هذه الصيغة تجاوزت التقديرات العددية إلى تحليل الأسباب، لا للهجرة فقط، بل لإنكارها أيضاً، وأجرت مقارنات بين لبنان وسوريا. فالسردية القائلة بأن «لا علاقة لنا» أو أننا «أشقاء» لا تصمد. ببساطة نحن كيانات سياسية ومجتمعات تحكمها خيارات.
ما هو هذا البلد المسمّى لبنان؟
تشكّل لبنان ككيان سياسي قبل 105 أعوام، على أساس نظام طائفي ورثه عن نظام المتصرفية، الذي أعقب حرباً أهلية دامية بين الدروز والموارنة. لاحقاً ظهرت سرديات متعددة: هناك من تحدّث عن «إمارات»، وهناك من قال «بتوسعة لبنان الصغير». لا وجود لإمارات، ولا «لبنان الصغير» هو من أنشأ لبنان. رسم الفرنسيون الحدود انطلاقاً من مرفأ بيروت، ثم فرضوا سيطرتهم. بعدها ظهرت مسألة السلخ عن سوريا. لكن لم يكن هناك كيان اسمه سوريا، إذ ضمّت المنطقة ثلاث ولايات عثمانية: حلب وطرابلس والشام. اقتطعت مناطق من حلب والشام لتشكيل ولاية بيروت في العام 1880.
تميّزت الطوائف بميزتين أساسيتين: الأولى هي نسبة الريفيين إلى المدينيين ضمن كل طائفة، لأن السلوك الاجتماعي يختلف. حياة المدينة لا تشبه حياة الريف، من حيث العلاقات والعصبيات والطموحات. هذا ينطبق على كل العالم، وليس على لبنان وحده. والثانية هي عدد من عاشوا مرحلة 1840–1864، أي الحرب الأهلية الطويلة التي امتدت 24 سنة، وشهدت تدخلات خارجية. تذكّرنا هذه الخلفية بما يحدث اليوم، هنا وفي سوريا.
وإذا عدنا اليوم إلى سجلات النفوس المعتمدة على تعداد 1932، نجد أن 3 طوائف يتجاوز الريفيون فيها 95% من مجموع المسجّلين. لم تُحدّث هذه السجلات لاحقاً، وما زلنا نرجع إليها حتى الآن. صحيح أن بعض الأشخاص نقلوا قيدهم لأسباب أمنية أو سياسية، بغرض تأمين أصوات لهذا الفريق أو ذاك، لكن هذا الجانب ليس أساسياً هنا.
في تعداد 1932، تجاوزت نسبة الريفيين في أوساط الموارنة والدروز والشيعة 95%. وفي المقابل، شكّل السنّة الاستثناء الأبرز؛ نصفهم تقريباً عاش في المدن، والنصف الآخر في الأرياف. وعلى الرغم من انتقال معظم الناس اليوم إلى المدن، تبقى هذه النسب الأصلية مفتاحاً لفهم التحولات.
بين الطرفين، تقع طائفتان في موقع وسطي: الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك. لم يتركز حضورهم في الريف ولا في المدن بشكل قاطع، ما يجعل تصنيفهم أكثر تعقيداً.
من زاوية أخرى، ارتبط الموارنة والدروز بشكل مباشر بما سُمّي بالمتصرفية، إذ تجاوزت نسبتهم ضمنها 80%، فيما لم يظهر للسنّة والشيعة أي ارتباط يُذكر بذلك الكيان. أما الأرثوذكس والكاثوليك، فاستمرّ موقعهم الوسيط، لا مركزياً ولا هامشياً تماماً.
الطائفة ليست مجرد انتماء ديني، بل أداة لإدارة السكان والمجال. عقلية منغلقة، تُبنى على علاقات قرابة حقيقية أحياناً، لكنها مُلفّقة في كثير من الأحيان
في هذا السياق، تُفهم «قطبية بيروت» لا كتحصيل حاصل، بل كمشروع واضح منذ البداية. ميشال شيحا، المتأثر بالنموذج الغربي، بنى على هذه القطبية لتوسيع الدولة. السلطنة العثمانية نفسها حاولت إعادة تنظيم بيروت كمركز، وقُبيل سقوطها، استعاد هذا المركز دوره، فاستُخدم كقاعدة أساسية. لم يصنع الفلاحون الموارنة أو الدروز هذا الإطار السياسي بعد انهيار السلطنة. لم يكن تأسيس الكيان مجرد تفاعل محلي.
اقتُطع من جنوب ولاية بيروت جزء وصل إلى مشارف يافا، سلّمه البريطانيون للحركة الصهيونية تنفيذاً لوعد بلفور. وقُسّمت المنطقة المتبقية إلى 5 دول: لبنان، حلب، دمشق، دولة العلويين، ودولة الدروز. وبقي لواء الإسكندرون خارج هذا التقسيم مؤقتاً، قبل أن يُسلَّم لاحقاً إلى الفرنسيين ثم الأتراك الكماليين، واستمر ذلك حتى العام 1936. هذه الكيانات، أو بعضها، اعتبرت نفسها لاحقاً دولة واحدة سُمّيت سوريا.
إذاً، اقتُطع منّا شمالاً جزء من ولاية بيروت، وجنوباً منطقة استُخدمت لخدمة مشروع بلفور.
في المقابل، تقدّمت بيروت بسرعة لتتحول إلى مركز إقليمي: احتوت على المرفأ والمصارف والشركات التجارية والصناعية والإعلام ودور النشر والجامعات. تجاوزت حلب ودمشق بمراحل. لم يأتِ سكان بيروت من الريف، بل من مدن أخرى، لأن المدينة نفسها مثّلت نقطة ارتكاز عثمانية. دخلتها الكهرباء قبل أي مدينة أخرى في المنطقة، وتفوّقت في نسب التعليم، وخصوصاً في تعليم الفتيات، على باقي المدن بنحو 3 إلى 4 مرات.
في تلك المرحلة، سيطرت برجوازية بيروت على الريف من خلال مؤسسات طائفية، وركّزت ارتباطها به على أساس اقتصاد دودة القز والحرير. لم تكن هناك عشائر ولا غزوات، بل إنتاج يدرّ المال. لكنهم لم يتقنوا إدارة هذا الارتباط. اعتبروا كل شيء تحت السيطرة. هذا الوهم، فتح في النهاية الباب أمام الحرب الأهلية، حين قرر الريفيون دخول المدينة وتغيير المعادلة.
في ظله، تكثّفت العلاقات الاجتماعية بين الفئات المختلفة. وتقاربت السلوكيات: في العائلة، في المظهر، في اللغة، في طريقة العيش. تشكّلت، عبر قرن ونصف القرن تقريباً، نواة شيء يُشبه «المجتمع اللبناني»، على الرغم من التشوهات والصراعات.
أما الأساطير عن الهجرة، فلا نهاية لها، وكلها روايات بلا مضمون. لم تنبع الهجرة من حلم رومانسي. بل شكّلت خياراً اضطرارياً لفئة من سكان الريف بعد انهيار سلطة الأعيان والمقاطعجية. من كانوا يتسلّطون على الفلاحين قرروا الخروج إلى العالم بحثاً عن موقع جديد. هؤلاء لم يهربوا من الاستغلال، بل حملوه معهم. كانوا من وجهاء القرى، لا من فقرائها. وقد تناول عدد قليل من الكتب هذا الموضوع، ومعظمها كُتب بأقلام أجنبية. اطّلع هؤلاء الباحثون الأجانب على سجلات الشرطة في مرسيليا، والهافر، ونيويورك، ودوّنوا وقائع مهينة: اتجار بالبشر، ابتزاز، سرقة أراضٍ. لم تكن الهجرة نزهة، ولا هي كذلك اليوم.
الشباب الذين يهاجرون اليوم لا يفعلون ذلك بدافع الفضول أو المتعة. وعند عودتهم إلى لبنان، لا يمكن وصفهم بالعائدين إلى «الوطن». إنهم يعيشون اغتراباً مزدوجاً: في الخارج، ينفصلون عن بلدهم؛ وعند العودة، ينفصلون عنه مجدداً. على الرغم من تراكم هذا التاريخ، لا نناقش الهجرات الوافدة. فالتركيز دائماً على الخارجين.
لكن، كيف تكوّن هذا البلد أصلاً؟ نشأت بيروت كمركز بعد تفكك الدولة العثمانية، وظهر ما يشبه الجنسية اللبنانية مع فرض خيار قسري على رعايا السلطنة: إما أن يصبحوا أتراكاً، أو أن يختاروا جنسية الكيان الجديد الناتج عن التقسيم الاستعماري.
هذه سلطة قوية نظرياً، لكنها عاجزة عن مواكبة التحولات الاجتماعية. وهذا ما يفسر امتناعها عن إجراء التعداد. الحجة الظاهرة أن الطوائف تمنع ذلك، لكن الطوائف ليست بحاجة إلى تعداد. التعداد لا يسأل الناس عن طوائفهم
من نزحوا من سهول حلب وكيليكيا في خلال حروب كمال أتاتورك — من الأرمن، والعرب، والسريان — لم يُعاملوا كلاجئين. كانوا رعايا عثمانيين، لم يختاروا الجنسية التركية، فأصبحوا لبنانيين. الأمر نفسه حصل في الكيانات المجاورة، حيث أصبح كثيرون سوريين.
ثم وقعت نكبة فلسطين. واللاجئون الفلسطينيون ما زالوا هنا. الدستور اللبناني يرفض التوطين، لكن ذلك لا يقلق نتنياهو على الأرجح!
في الثمانينيات، ارتفع سعر النفط، وانطلقت ماكينة الحرب الأهلية. بدأت الأموال تتدفق من الخارج، بفضل الهجرة اللبنانية المتزايدة، وبفعل التمويل السياسي المباشر. تلقّت الميليشيات تمويلاً خارجياً، وتحولت الأحزاب إلى شبكات توظيف. مع توافر الأموال، بدأ استقدام عمالة أجنبية مؤقتة، من سوريا، ومن دول مثل الحبشة وسريلانكا والفلبين وغيرها.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، تصاعدت وتيرة الهجرة مجدداً. الهجرة اللبنانية ليست وليدة الحرب الأهلية فحسب؛ بدأت مع أزمة الحرير، حين بحثت الفئات الطامحة إلى الارتقاء الاجتماعي، خصوصاً في الشمال، عن بدائل. هذه الهجرات توقفت بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1914. وحين أوقفت الولايات المتحدة استقبال المهاجرين، اتجه اللبنانيون نحو البرازيل والأرجنتين. لم يكن المناخ هو الدافع، بل انسداد الأفق.
المفارقة أن الهجرة تصاعدت أكثر بعد انتهاء الحرب الأهلية. أثناء الحرب، خاف الناس من التحرك. بعد الحرب، انكشفت هشاشة البنى الاقتصادية والاجتماعية. فارتفاع الأسعار، اختلال النظام المالي، والسياسات الريعية أوصلت الاقتصاد إلى طريق مسدود. كلفة المعيشة والإنتاج ارتفعت، وسوق العمل لم يعد يوفّر وظائف مناسبة. لم يجد الشباب المتعلم فرصاً، وبدأ بالرحيل. ومن بقي، اكتفى بالتكيّف، لأن المجتمع خضع عملياً لعملية تصفية.
أما سوريا، فقد تغيّرت بالكامل. كانت سوريا، تاريخياً، مزدوجة القطب: دمشق وحلب. منذ العام 1920 وحتى استيلاء حزب البعث على الحكم في العام 1963، هيمن الصراع بين المدينتين على السياسة السورية. اتخذ هذا النزاع أشكالاً مختلفة، مثل الانقسام بين حزب الشعب والكتلة الوطنية، ما دفع بعض الأطراف إلى طلب الوحدة مع مصر والدخول في تحالف مع عبد الناصر. وفي بعض الفترات، تفوقت حلب اقتصادياً وسكانياً على دمشق. موقعها الجغرافي جعلها قريبة من العراق، بينما ارتبطت دمشق تقليدياً بخط الحجاز، وبالسعودية لاحقاً.
كلما صعّد أهل السلطة خطابهم على الشاشات، سكت الناس خوفاً. السلطة تُتقن إدارة القلق من دون عنف مباشر. وتُجيد تفعيل ذلك في الانتخابات، خصوصاً في بيروت، وكأنّ شيئاً لا يتغير
لكن ما ميّز سوريا عن لبنان، أن الريف السوري لم يكن مؤطراً بمؤسسات تجارية أو صناعية. اعتمد على الزراعة التقليدية، ولم يشهد تحولات ديموغرافية حادة، خصوصاً في ما يتعلق بالتعليم وتنظيم الأسرة. ظل الريف محكوماً بالبنى العشائرية، بينما احتفظ وجهاء المدن بملكية مساحات شاسعة من الأراضي، كثير منها سُجّل بطرق غير قانونية.
خلق هذا الواقع توتراً بين المدينة والريف، ما دفع الدولة إلى اعتماد سياسات حمائية لدعم الزراعة والصناعة. أفرزت هذه السياسات توتراً مع لبنان، خصوصاً مع بيروت. في أواخر الأربعينات والخمسينات، أجبرت سوريا لبنان على شراء القمح مقابل دفع الذهب، ما أدى إلى انهيار الوحدة النقدية والجمركية بين البلدين، ودفع كل منهما إلى مسار اقتصادي وسياسي مختلف.
لاحقاً، قررت السلطة في سوريا التخلي عن الشعارات العروبية. واختارت توحيد المجال الجغرافي تحت هيمنة دمشق، وقطع الروابط التاريخية التي ربطت العاصمة السورية بمدن كطرابلس، حمص، حماة، وحتى بيروت. جرى تعديل مسارات السكك الحديدية، وإنشاء أوتوسترادات جديدة، وبُني مرفآن في اللاذقية وطرطوس، على الرغم من أنهما كانا سابقاً على ارتباط إداري واقتصادي بطرابلس.
منذ الستينيات، ومع كل أزمة سياسية أو أمنية، كانت سوريا تلجأ إلى إغلاق الحدود مع لبنان. هذا السلوك لم يكن مدفوعاً بمسألة أخلاقية، بل بخيار سياسي واضح.
استقرار النظام السوري بين السبعينيات والألفين استند إلى تحالف بين السلطة المركزية ذات الطابع الأمني والعسكري، وبين الريف. خدم أبناء الريف في الجيش، وتلقّوا دعماً عبر مشاريع زراعية، وسدود، وبنك التسليف الزراعي، وغيرها من الأدوات. لم يشهد الريف السوري موجات نزوح كبيرة كما حدث في إيران أو في أرياف أخرى. بل استمر النمو الديموغرافي بوتيرة مرتفعة، متجاوزاً المعدلات الإقليمية.
بحلول العام 2000، أصبح حضور الأجهزة الأمنية والسياسية السورية في لبنان واسعاً. شاركت في مشاريع الاتصالات، والمناطق الحرة، وقطاعات أخرى. ونُقل النموذج اللبناني بحذافيره إلى دمشق وحلب: مناطق حرة، شركات هاتف خلوي، وغيرها. أُطلق على هذه التحولات اسم «إصلاحات». لكن هذه «الإصلاحات» هدمت التحالف الطبقي والسياسي الذي كان يدعم النظام. الريف لم يعد يجد نفسه ممثلاً أو مستفيداً. وبدأ النزوح إلى المدن، وظهرت العشوائيات كمصطلح سياسي واجتماعي جديد. ومن هذه العشوائيات خرج جزء من المشاركين في الحرب.
السؤال الآن: ماذا بعد؟
ظننا لفترة أن سوريا ستشهد استقراراً، لكن الوقائع تكشف العكس. ما يحدث هناك اليوم يشبه إلى حد بعيد ما جرى في لبنان قبل نصف قرن. 50 عاماً مرّت، ولم نغادر هذه الدائرة.
بلغت نسبة سكان المدن في لبنان وسوريا (سابقاً) حوالي 30%، لكن توزيع الحواضر الكبرى اختلف بين البلدين. في لبنان، تركزت الكثافة المدينية في بيروت وطرابلس، بينما ظهرت في سوريا مراكز متعددة كدمشق وحلب وحمص وحماة. منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت موجات الهجرة من الريف إلى المدن، ورافقتها تحولات ديموغرافية وثقافية، خصوصاً في لبنان، حيث ساهم التعليم في خفض معدلات الولادة في الأرياف، ما أدى إلى ارتفاع نسبة سكان المدن إلى نحو 60% أو حتى 70% في السبعينيات.
أدّى هذا النزوح إلى خلخلة التوازنات الاجتماعية. لم تكن هناك بنية سياسية أو إدارية قادرة على استيعاب القادمين الجدد، وواجه الريفيون نظرة دونية من أبناء المدن. دخلوا الأحزاب، وشاركوا في التحالفات، ما أفرز فوضى سياسية واجتماعية لم تنتهِ آثارها. في سوريا أيضاً، ارتفعت نسبة سكان المدن بين عامي 2000 و2010، لكن نسبة سكان الريف لم تتراجع بالقدر نفسه، وظلت مستقرة نسبياً.
في لحظة معينة، شكّل عدد سكان لبنان ما يعادل 40% من سكان سوريا، وهذا الحجم الديموغرافي حمل تبعات اقتصادية وسياسية مباشرة، خصوصاً في القطاعات المشتركة مثل الجمارك والنقل والسكك الحديدية. تقاسمت الدولتان هذه المصالح بالتساوي، لكن مع الوقت تراجع دور لبنان، وانخفضت حصته إلى ما يقارب 20% بحلول العام 2000.
تفاقمت الأزمة في سوريا، وتعمقت الفجوة بين السكان والدولة. وعندما نبحث في مسألة الهجرة، نلاحظ غياب النقاش الجدي حولها. لا أحد يتحدث عن الهجرة، ليس لأن أثرها ضئيل، بل لأن الهويات الطائفية ظلت ثابتة، وكأنّها أقوى من الزمن والجغرافيا. لا يزال مهاجرون غادروا إلى أستراليا وكندا منذ 3 أجيال يعرفون أنفسهم على أساس طائفي، كأنّهم لم يغادروا. البعض يتمسّك بهذه الهوية، والبعض الآخر يتخلى عنها، لكن في الحالتين، تبقى الهوية الطائفية أقوى من وثائق الدولة. يمكن أن يُفقد جواز السفر، لكن الهوية الطائفية تظل محفوظة.
في المقابل، غابت فكرة الدولة. لم تتشكل علاقة فعلية بين السكان والمجال الجغرافي. في معظم دول العالم، أسست الدول مفهوم الإقامة. في منطقتنا، غزا السلطان سليم دولة المماليك في العام 1516، وأجرت الدولة لاحقاً تعداداً ضريبياً. حتى في الكتاب المقدس، يظهر التعداد السكاني كتقليد إداري قديم، حين فرض الإمبراطور الروماني الإحصاء. لكن في لبنان، لم يُجرَ أي تعداد منذ الثلاثينيات على الرغم من كثافة التحولات.
في تعداد 1932، تجاوزت نسبة الريفيين في أوساط الموارنة والدروز والشيعة 95%. وفي المقابل، شكّل السنّة الاستثناء الأبرز؛ نصفهم تقريباً عاش في المدن، والنصف الآخر في الأرياف
فقدنا مفهوم الإقامة، وكرّسنا القيد. سجل القيد يشير إلى رابط جغرافي مفروض، إلى مكان لا يعبّر بالضرورة عن إقامة فعلية، بل عن انتماء شكلي. أدخل الفرنسيون هذا النظام، ولم يبتكروا آلية جديدة، بل استعاروا النموذج الفرنسي للجنسية والإقامة، وفرضوه على بنية محلية مختلفة. صار تغيير مكان الإقامة يتطلب موافقة السلطات. وهكذا تآكلت فكرة الإقامة من أساسها.
هذا المسار لم ينشأ عن جهل، بل عن رغبة في إبقاء السكان مكشوفين ومعروفين، على الأقل في الأرياف، حيث لا يزال 80% من الناس يعرفون بعضهم جيداً، نسباً وأصلاً ومكاناً. هذه المعرفة تفيد في الانتخابات، إذ يسهل تحديد من "يمثلنا"، لكنها لا تعني أن الدولة تعرف سكانها فعلياً. لا نعرف عددهم، أعمارهم، مستويات تعليمهم، أو حتى أوضاعهم الصحية. لا نعرف أماكن سكنهم الفعلية. نحن أمام سلطة تجهل مجالها وسكانها.
هذه سلطة قوية نظرياً، لكنها عاجزة عن مواكبة التحولات الاجتماعية. وهذا ما يفسر امتناعها عن إجراء التعداد. الحجة الظاهرة أن الطوائف تمنع ذلك، لكن الطوائف ليست بحاجة إلى تعداد. التعداد لا يسأل الناس عن طوائفهم.
ما هي الطوائف؟
هي تحالفات عائلية في المقام الأول، وليست كيانات لاهوتية. والدستور يعطي المواطن حق اختيار طائفته، لكن ذلك لا يمنح السلطة شرعية إذا تناقض وجودها مع مبدأ العيش المشترك.
يجب أن يكون العيش المشترك فوق الانتماءات الطائفية، فالشرعية الحقيقية تحمي الطوائف ولا تخضع لها. لذلك، كل ما يُطرح من حديث عن اللامركزية والتنمية والبلديات والعائلات ليس سوى كلام زائف. الأحزاب التي تحافظ على تحالفات الطوائف تروّج لهذه الأفكار، لكنها لا تسعى إلى تغييرات جوهرية في السلطة. سواء كانت هذه الأحزاب يمينية أم يسارية، إصلاحية، اشتراكية أو ليبرالية، تكرّر شعارات مكررة من دون تقديم حلول فعلية.
كما كنا نقول عن ترامب، قد تتفاوت ردودنا على قراراته، لكن قراره كان واضحاً. الهجرة التي نراها اليوم ليست ظاهرة استثنائية، بل ترافقها شعارات تتناقلها الألسنة بلا معرفة حقيقية. جميع التصريحات المتعلقة بالهجرة لا تعدو أن تكون كلاماً فارغاً، وإذا ما اطلعت على إحصاءات الأمن العام، ستكتشف الواقع الحقيقي خلف هذه الشعارات.
على سبيل المثال، يدخل مليون شخص إلى البلاد ولا يغادر منهم أحد. الحل الوحيد هو الاعتماد على حساب الحركة الخارجية والداخلية للسكان اللبنانيين وغير اللبنانيين، خصوصاً لمن لا يملكون مستندات رسمية. حاولنا إيجاد طريقة بديلة تعتمد على التعدادات الإحصائية التي لا تكون شاملة، لكنها تركز على عينات دقيقة تعطي صورة عن اللبنانيين المقيمين فقط، مع توزيعهم حسب الأعمار.
هذه الطريقة لا تتأثر كثيراً بحجم السكان. فإذا أخذنا مجموعة من الذكور والإناث ضمن فئة عمرية معينة، مثل بين 30 و35 سنة، وأُجري بعد 10 سنوات بحث مماثل، لن تختلف الأرقام كثيراً، إذ إما أن يموتوا أو يهاجروا أو يعودوا. لا خيارات أخرى.
بما أن نسب الوفيات معروفة حسب الجنس والعمر من مصادر مختلفة، يمكن حساب نسبة الهجرة الصافية، أي الفرق بين المغادرين والعائدين، في خلال كل فترة. بناء على ذلك يمكن استنتاج معلومات للفترة بين العامين 1996 و2000.
على سبيل المثال، من بين 100 شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً قبل الألفين، عندما بلغوا عمر 50 إلى 54 سنة، هاجر حوالي 45% من الذكور و35% من الإناث. هذه النسبة ارتفعت مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو واقع نعيشه اليوم.
أما الإنكار، فهو لا يغير من حقيقة أن هرم الأعمار كان سابقاً طبيعياً، مع ولادات مستمرة وعدد متوازن من الأطفال من الذكور والإناث. لكن منذ العام 1997، تغيرت الأمور، وبرزت زيادة في الفئات العمرية العليا بسبب هجرة الشباب.
إذاً، تحوّل هرم الأعمار. بحلول العام 2018، انخفضت أعداد الولادات، لأن النساء المهاجرات يساهمن في تقليل معدل الإنجاب، وهذا أمر متوقع. من يبقى في البلاد هو من يساهم في الولادات، أما المهاجرون فلا. في الوقت نفسه، ارتفع عدد كبار السن بشكل ملحوظ. في دول أخرى، تتبدل الأنظمة السياسية، وتُعاد هيكلة الضرائب والضمانات الاجتماعية. أما نحن فلا ندرك أهمية هذه القضايا الحيوية.
أجرينا حسابات دقيقة تعتمد على التعليم، وتعداد السوريين اللازم للاقتصاد، والخدمة الوطنية الإلزامية، والعديد من الإجراءات المعقدة التي لم تنفذ. ثمة عوامل خارج سيطرتنا، أبرزها الوضع الإقليمي، خصوصاً في سوريا. إذا بدأنا التحليل من العام 2004 وتوقعنا المستقبل بناءً على المتغيرات المحتملة، فإن الخيارات التي نتخذها تعتمد على نجاحها، لكنها لا تقدم ضمانات. فعلياً، لا يشهد عدد السوريين والفلسطينيين زيادة كبيرة، وهم معرضون للهجرة مثل الفئات الفقيرة في لبنان.
لم تنبع الهجرة من حلم رومانسي. بل شكّلت خياراً اضطرارياً لفئة من سكان الريف بعد انهيار سلطة الأعيان والمقاطعجية
بين عامي 2004 و2018، ارتفع حجم الهجرة بشكل ملحوظ، خصوصاً بين الشباب السوريين، بينما كانت نسبة كبار السن السوريين المهاجرين قليلة جداً. وبحلول العام 2023، أصبح عدد الأطفال السوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 عاماً يقارب عدد اللبنانيين في نفس الفئة العمرية.
ننطلق هنا من فرضيات قصوى: إذا نُفذت إجراءات داخلية ووافق الوضع الإقليمي—أي غياب تزايد الحروب والمشكلات السياسية مثل النزاع مع إسرائيل—قد تتحسن الأوضاع. أما إذا لم تُتخذ أي إجراءات، ستظل الأمور على حالها.
تصور مستقبلي لهرم الأعمار:
العام 2023: تبدأ نسبة اللبنانيين بالارتفاع تدريجياً في منتصف الهرم، ما يُشير إلى تحسّن طفيف في فئات عمرية معيّنة.
العام 2033: يزداد التحدي الديمغرافي بالنسبة إلى اللبنانيين، بينما تبقى نسبة غير اللبنانيين مرتفعة، على الرغم من الانخفاض الطفيف في أعدادهم.
العام 2038: تصبح الصورة أكثر وضوحاً؛ استمرار الأوضاع كما هي من دون تدخل سيُبقي على التوزيع السكاني غير المتوازن، ويُعمّق الفجوة الديمغرافية بين اللبنانيين وغيرهم.
بمعنى آخر، استمرار الاتجاهات الحالية سيُفضي إلى واقع ديمغرافي يُضعف الحضور اللبناني العددي في البنية السكانية، خصوصاً في الفئات العمرية الشابة.
في خلال الحرب السورية، شكّل السوريون نحو 90% من سكان المخيمات، لكن هذه النسبة بدأت بالانخفاض مع ازدياد الهجرة، فوصلت إلى 70%، ومن المتوقع أن تستمر بالتراجع لتبلغ نحو 50% بحلول العام 2038. من ناحية أخرى، قد تتراوح نسبة التغيّر السكاني بين 50% و70%، لكن فكرة العودة السريعة للسوريين أصبحت غير واقعية بعد مرور 20 عاماً على النزوح.
قبل الحرب السورية، فيما يتعلق بجيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة، فقد كانت نسبة اللبنانيين تقارب 95%، وذلك لأن العمالة الأجنبية لم تكن ترافقها عائلاتها. غير أن هذا الواقع تغيّر مع اندلاع الحرب السورية، فارتفعت معدلات الإنجاب بين اللاجئين، وانخفضت نسبة الأطفال اللبنانيين في هذه الفئة العمرية إلى 57%. ويُتوقّع استمرار هذا الانخفاض ليصل إلى حدود 30% في العام 2038، مع إمكانية تحسّن النسبة وعودتها إلى حدود 50 أو 52% في حال شهد الوضع تغيراً جذرياً.
يشكّل العمال في سن العمل النسبة الأبرز ضمن التركيبة السكانية، بينما تبقى نسبة كبار السن مستقرة كما أُشير سابقاً. عند التمعّن في البيانات المتوفرة، يتبيّن ارتفاع ملحوظ في أعداد الأجانب المقيمين في لبنان، ويُعزى هذا الارتفاع إلى عاملين أساسيين: الحرب السورية التي أدت إلى تدفّق أعداد كبيرة من اللاجئين، والأزمة الاقتصادية التي دفعت أعداداً متزايدة من اللبنانيين إلى الهجرة. نتيجة لذلك، تراجع عدد اللبنانيين من نحو 3.5 مليون في العام 2003 إلى ما يقارب 2.5 مليون في العام 2018، مع احتمال العودة إلى الرقم الأول إذا استمر الوضع على حاله.
في المقابل، ارتفع عدد الأجانب، لا سيما السوريين، بسبب البنية السكانية الشابة، وارتفاع معدلات الإنجاب، إلى جانب نمط الحياة الأسري الذي يعزز الكثافة السكانية. ومع ذلك، يُواجه هؤلاء نقصاً حاداً في فرص التعليم، ويعيشون في بيئات غير مؤهّلة، وسط غياب تدابير صحية فعّالة.
وعلى صعيد الرعاية الصحية، يجري العمل على مشروع يهدف إلى شمول جميع المقيمين، لكن الواقع يكشف عن فجوات واضحة: ففي حال إصابة شاب أو فتاة سورية بمرض مثل الملاريا، لا يتوفر أي ضمان لعلاجهم، ما يعكس حالة من الإنكار الجماعي لهذا الواقع.
منذ السبعينيات وحتى التسعينيات، شهد عدد اللبنانيين المقيمين في البلاد ارتفاعاً ملحوظاً، نتيجة ارتفاع معدلات الإنجاب في خلال تلك الفترة مقارنة بما هي عليه اليوم. فعندما تكون نسبة الإنجاب مرتفعة، يتزايد عدد العائلات تدريجياً، بينما يؤدي انخفاضها لاحقاً إلى تقلّص عدد الفتيات في الأجيال الجديدة، وبالتالي انخفاض عدد الولادات عبر الزمن. هذا التغير لا يقتصر على اللبنانيين فحسب، بل يطال أيضاً غير اللبنانيين الذين تتأثر أعدادهم وفق عوامل مماثلة.
في التسعينيات، ثم في العام 2004، لوحظت زيادة إضافية في عدد السكان، غير أنّ عمليات التجنيس التي جرت آنذاك أدّت دوراً أساسياً في هذا التحول، ولا يمكن إغفال أثرها عند تحليل تلك المرحلة.
بحلول العام 2018، بدأت أعداد اللبنانيين المهاجرين تقترب من عدد اللبنانيين المقيمين. هذا يعكس واقعاً صارخاً: النمو الطبيعي في عدد السكان لا يُترجم إلى بقاء واستقرار داخلي، بل يتحوّل بأكمله إلى الخارج، فيما يعيش من تبقى داخل البلاد أوضاعاً معيشية صعبة
مع اندلاع الحرب السورية، ظهرت مرحلة جديدة بدأت تتضح معالمها بحلول العام 2018، بدأت أعداد اللبنانيين المهاجرين تقترب من عدد اللبنانيين المقيمين. هذا يعكس واقعاً صارخاً: النمو الطبيعي في عدد السكان لا يُترجم إلى بقاء واستقرار داخلي، بل يتحوّل بأكمله إلى الخارج، فيما يعيش من تبقى داخل البلاد أوضاعاً معيشية صعبة.
أما السوريون، فقد وصلوا إلى لبنان بعد فرارهم من الحرب، ما أضاف طبقة جديدة ومعقدة إلى المشهد الديمغرافي والاجتماعي القائم.
لكن الواقع ليس كما في فرنسا أو حتى اليونان، حيث تتعامل الحكومات مع الموضوع من خلال إجراءات ضريبية وتنظيمية.
ما الذي يمكن فعله؟
هل ننتظر فقط هجرة الناس ونرسل الأموال لعائلاتهم؟ غداً قد يرحل هؤلاء نهائياً. هل ندرك أن عدد السوريين في لبنان يقترب من عدد اللبنانيين؟ نحن نتجه إلى مجتمع بثلاث كتل متساوية: لبنانيون مقيمون، سوريون مقيمون، ولبنانيون مهاجرون. هذه الحقيقة، شئنا أم أبينا.
الكلام المجرد لا ينفع. الواقع واضح ومقلق، والسياسة تعني مواجهته، لا تجاهله. نحن في لحظة هدوء تسبق الانهيار الكامل للسلطة في سوريا، وهذا سيؤثر علينا مباشرة. العلاقة مع سوريا أساسية وليست خياراً بعيداً.
من تأثر بالحرب أكثر؟ نحن أم تركيا؟ التأثير الأكبر وقع علينا. العلاقة بين طرابلس وحمص وطرطوس باقية، وهي أساس لإعادة تنظيم المنطقة، بما يعيد لطرابلس دورها كمركز سكني واستثماري.
هذه المنطقة شهدت صراعات عنيفة، وما يجري فيها اليوم يمسنا جميعاً. الجلوس في بيروت لا يعزلنا عن المأساة. الخطوط التاريخية، كخط سكك الحديد من الجبل إلى دمشق، تذكر بأن المجال الإقليمي لا يُدار ضمن حدود مصطنعة.
حتى الولايات المتحدة، في لحظة تراجع قوتها، تعيد ترتيب تحالفاتها كما يفعل ترامب، لأنه يدرك أن الزمن يتغير. حذرنا من الإفلاس، من التهديدات الأمنية، ومن إعادة تشكيل المنطقة، لكن لم يكن لدى أحد رؤية جدية.
ما يجري اليوم تحت عناوين العائلة والتنمية لا يقل خطورة، بل هو مشروع تدميري.