المستفيدون من الرأسمالية العربية والمنبوذون منها
- مراجعة لكتاب ستيفن هيرتوغ «محرومون من التنمية: المستفيدون من الرأسمالية العربية والمنبوذون منها»،، الذي يعترض على ما يعتبره باحثو التنمية السائدون عجزاً سياسياً واقتصادياً للمجتمعات في الشرق الأوسط عن اتباع الطريق الغربي وتحقيق الإصلاحات النيوليبرالية من أجل ضمان التنمية الاقتصادية والإنتاجية والابتكار، ويعيدها إلى علاقة الدولة التّعاضُدية مع العمالة والقطاع الخاص، إذ تعمل الدولة كصوت لمصالح المستفيدين وقمع أي محاولة من قِبل المنبوذين لإعادة تشكيل الوصول إلى الموارد الرئيسة.
تناقش تجمّعات من المنظِّرين الاقتصاديين والسياسيين منذ فترة طويلة كيف يُحدِّد الفاعلون المختلفون أولويّاتهم من «التنمية» وأُطُر فهمهم لها. وقد أعلن باحثو ما بعد التنمية وتقليص النمو، مثل أرتورو إسكوبار وغوستافو إسكوبار وفولفغانغ ساكس وجايسون هيكيل، وفاة نموذج التنمية السائد كمشروع. وحاججوا أن «مشروع التنمية» قد لا يكون مفيداً بالتساوي لجميع المجتمعات، بما أنه يحمل أبعاداً مركزية إثنية وعالمية تُسهِم في هيمنة الغرب.
تدريجياً، استَبدلت فكرة «المقاس الواحد الذي يناسب الجميع» للتنمية النيوليبرالية، والتي تتوسّل التمويل ورأس المال الشركاتي، أشكالٌ بديلةٌ من التنمية. وأدّت خيبة الأمل المُتعاظمة من النموذج الاقتصادي الأنغلو ساكسوني إلى زيادة أهمّية فحص التكوينات السياسية والاقتصادية البديلة داخل الدول الغربية المتقدّمة وخارجها. ويمكن إدراك أهمّية نظرية «تعدّديات الرأسمالية» من خلال تركيزها على أوجه التشابه والاختلاف الموجودة داخل مؤسّسات الاقتصادات المتقدّمة. وفي الآونة الأخيرة، أخذ الباحثون هذه الرؤى على محمل الجد واستفادوا من إطار «تعدّديات الرأسمالية» لشرح الأسباب التي تجعل المؤسّسات السياسية والاقتصادية تختلف عبر المجتمعات. وقد يعاني الخطاب المُتعلّق بالديمقراطية والتنمية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من التفسيرات الاستشراقية التي تربط بشكل مباشر الدين والثقافة بركود المنطقة السياسي والاقتصادي. ويعترض ستيفن هيرتوغ في كتابه «مُحرومون من التنمية» على ما يعتبره باحثو التنمية السائدون العجز السياسي والاقتصادي للمجتمعات في الشرق الأوسط عن اتباع الطريق الغربي وتحقيق الإصلاحات النيوليبرالية من أجل ضمان التنمية الاقتصادية والإنتاجية والابتكار.
إن معدلات التوظيف المرتفعة في الوظائف العسكرية، وسياسات إعادة التوزيع الكبيرة، ودعم الغذاء، وضوابط الأسعار لا تزال سائدة في المنطقة، ما يدل على إرثها القومي والدولاني
تتألّف الحجج الرئيسة لكتاب هيرتوغ من ثلاثة أجزاء. أولاً، تعاني السرديات النيوليبرالية من نظرة مُجحِفة. فهي تتعقّب إخفاقات محاولات التنمية من خلال التركيز على مستوى التزام صُنّاع السياسات بالسوق والخصخصة. كما أنها تعتبر ضمان الإيمان بآليات السوق لأنظمة الإنتاج والتوزيع أمراً بالغ الأهمية. ومع ذلك، فإن المشاكل غير الاقتصادية الخاصّة بكلّ بلد مهمّة. وفي حالة العالم العربي، يتمتّع الخطّ الفاصل العميق بين المستفيدين والمنبوذين عبر المجتمعات بقوّة تفسيرية أكبر من السرديّات الكلاسيكية بشأن حضور السوق بشكل كبير جدّاً أو قليل جدّاً (ص. 81). ثانياً، يعتقد هيرتوغ أن المنظور المقارن المُمَوضَع ضمن سياق عالمي يحمل رؤى حاسمة. فلا يمكن فحص البلدان المُختارة من خلال التركيز فقط على الاختلافات الموجودة داخل المنطقة ولكن يجب النظر إليها ضمن مسار التنمية العالمي ومقارنتها بالدول المتقدّمة (ص.7). ثالثاً، يحتل دور الدولة مركزاً غامضاً إلى حدّ ما في نظرية التنمية. وقد أضاف مفهوم «الدولة التنموية» المزيد من التعقيد. ويجب معالجة خصائص الدولة وعلاقتها التَّعاضُدية مع العمالة والقطاع الخاص عند تفسير العوامل المساهمة في استمرار مشكلة التنمية في العالم العربي (ص. 8).
يبدأ هيرتوغ بفحص مُفصّل للأدبيات الأكاديمية بشأن الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط، وتنويعات مقاربات الرأسمالية، ومَفْهَمَته لـ«اقتصادات السوق المجزّأة». ويتبنّى الفصل الثاني منظوراً تاريخياً ويعرض حالة التحوّلات السياسية والاقتصادية في البلدان المختارة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الفصل الثالث، يكشف هيرتوغ مُحاججته لإطار «اقتصادات السوق المجزّأة» من خلال تسليط الضوء على الدولة وسوق العمل وقطاع الأعمال وتكوين المهارات. يلي ذلك تحليل مُفصّل لدراسات الحالة القُطرية، مصحوباً بـ«اقتصادات السوق المجزّأة» واتجاهات البحث المستقبلية. وأخيراً، يلخِّص هيرتوغ أسباب العجز السياسي والاقتصادي للمنطقة عن اتباع الطريق الغربي.
يُحاجج هيرتوغ بأن مقاربة «تعدّديات الرأسمالية»، من خلال تركيزها على التباين بين الرأسماليات القائمة، مفيدة لشرح الخصائص الفريدة للرأسمالية العربية. تخلق التركيبات المختلفة للشركات والقطاع المالي والشبكات ونظام المهارات تفاعلات من النوع المثالي (تلك التي تُجسِّد خصائص معينة لظاهرة ما) وتؤدّي إلى تنويع داخل الرأسمالية. وقد حلّلت مقاربة «تعدّديات الرأسمالية» الأصلية الكثير من دول «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» التي تنتمي إلى العالم المتقدّم. وبمرور الوقت، استخدم الباحثون القوّة التفسيرية لـ«تعدّديات الرأسمالية» لشرح أداء التنمية في البلدان غير الغربية مع إدخال تعديلات مُحدّدة. واستناداً إلى أدبيات متأخِّرة لنظرية «تعدّديات الرأسمالية»، يعتقد هيرتوغ أن هذه المقاربة تناسب العالم العربي جيّداً (ص. 8).
يعاني الخطاب المُتعلّق بالديمقراطية والتنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تفسيرات استشراقية تربط الدين والثقافة بركود المنطقة السياسي والاقتصادي
هناك ديناميتان رئيستان في المنطقة. وكما يناقش الفصل الثاني، فقد كانت الدولة لاعباً رئيساً في بَنيَنة ساحة اللعب بين المصالح المختلفة في المنطقة (ص. 9). والخصائص التدخّلية والتوزيعية للدولة تسير جنباً إلى جنب مع الدينامية الأخرى، وهي استمرار الانقسام بين المستفيدين من الاقتصاد والمنبوذين منه. وبمعنى عام، تعمل الدولة كصوت لمصالح المستفيدين لقمع أي محاولة من قِبل المنبوذين لإعادة تشكيل الوصول إلى الموارد الرئيسة. ويحذِّر هيرتوغ من أن البنية الدقيقة لنموذج «اقتصادات السوق المجزّأة» لا تنطبق إلا على الأعضاء الأساسيين في المنطقة، مثل الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس وسوريا واليمن. والمُرشِّح الرئيس وراء هذا الاختيار من البلدان هو مشاريع بناء الدولة التي نُفِّذت بين عامي 1950 و1970 (ص. 4-5).
يجد هيرتوغ جذور نموذجه لـ«اقتصادات السوق المجزّأة» في القومية العربية في عصر ما بعد الاستقلال. فقد اندمجت مشاريع بناء الدولة في البلدان المختارة مع الأيديولوجيات القومية والدولانية في ذلك الوقت. ويثير النقاش بشأن التاريخ الطويل للمنطقة مسألة «التّعويل على المَسْلَك»، التي تُستخدم لوصف القوّة المحدودة للقرارات السابقة على المسارات اللاحقة. يتجنّب هيرتوغ الانخراط في هذه النظريات بعيدة المدى، معتقداً أنها غير مناسبة لكتاب قصير، وأن الخصائص الرئيسة لنموذج «اقتصادات السوق المجزّأة» نشأت مؤخّراً. وقد كانت سياسات التأميم والتدخّل النشِط في الاقتصاد من سمات القومية العربية (ص. 15). وفي مشاريع بناء الدولة، حدّدت مصر وسوريا المعايير التي نُسِخَت لاحقاً من دول أخرى. واستراتيجيات الحفاظ على ارتفاع معدلات التوظيف في القطاع العام من خلال الوظائف العسكرية، وسياسات إعادة التوزيع الكبيرة، ودعم الغذاء، وضوابط الأسعار لا تزال سائدة في المنطقة، مما يدل على إرثها القومي والدولاني (ص. 28).
تُشكِّل المناقشة الإمبريقية التفصيلية لـ«اقتصادات السوق المجزّأة» جوهر الكتاب. ويتألّف الإطار من الدولة وسوق العمل وقطاع الأعمال ونظام المهارات (ص. 9). ويمكن تحديد الطابع التوزيعي للدولة من خلال فحص حصّة التوظيف العام، التي تظل مرتفعة من منظور عالمي. كما تُنظِّم الدولة أسواق العمل على نطاق واسع، وتحتفظ بمعاقل رئيسة للوصول إلى الأراضي والائتمان (ص. 29-30). ويُحاجج هيرتوغ أن هذه العوامل تؤدّي إلى تجزئة العمل والقطاع الخاص، مع الحفاظ على مستوى المهارة منخفضاً. ويضمن وجود الدولة في سوق العمل الانقسام بين المستفيدين والمنبوذين. وبالنظر إلى وجود قدر ضئيل من التنقّل، فإنه نادراً ما يفقد المستفيد موقعه. ولا يستطيع المنبوذ الوصول إلى مخطّطات حماية الرعاية الاجتماعية التي تقودها الدولة. وهذا يؤدّي إلى إقصاء اجتماعي وبيئة غير مُنتجة (ص. 32-48).
تعمل الدولة كصوت لمصالح المستفيدين لقمع أي محاولة من قِبل المنبوذين لإعادة تشكيل الوصول إلى الموارد الرئيسة
وتوجد ديناميات مماثلة في قطاع الأعمال، إذ تتعايش الشركات الكبيرة ومجموعات الشركات الصغيرة (ص. 55). ويزعم هيرتوغ أن تدخّل الدولة في القطاع الخاص يخلق فرصاً فريدة لشبكات المحسوبية، إذ تستفيد الشركات المرتبطة سياسياً من الائتمانات والتراخيص. وينخرط الفاعلون التجاريون الذين يتمتّعون بوضع خارجي في أنشطة صغيرة الحجم غير مُنتجة (ص. 58-60). ولا بد من التفكير في نظام المهارات في علاقته بقطاعات العمل والأعمال المجزّأة، ذلك أن مستويات المهارات المنخفضة تمنع التنقّل وتحدّ من الإبداع والتطوير التكنولوجي (ص. 69).
في المجمل، يُحاجج هيرتوغ بأن تدخّل الدولة في المنطقة يؤسِّس للانقسام بين المستفيدين من الاقتصاد والمنبوذين منه. وبذلك، يؤكد هيرتوغ على فائدة إعادة الدولة إلى التحليل. ففي مجال السياسة المقارنة، ظلت فكرة الدولة كفاعل مستقل على الهامش حتى ثمانينيات القرن العشرين. تأتي نقاط عجز الكتاب في شكلين. أولاً، لا يذكر كيف تتلاءم العلاقات الرأسمالية العالمية مع «اقتصادات السوق المجزّأة». وقد لا يقدم دفاع هيرتوغ القائل بمحدودية العولمة الاقتصادية في المنطقة حلاً، لأن ديناميات التراكم الرأسمالي العالمي تعتمد على سحب المواد من البلدان الطرفية من دون المساهمة فيها. ثانياً، ادعاء هيرتوغ بضعف حضور النيوليبرالية في العالم العربي مشكوك فيه، إذ يُحاجج الكثير من الباحثين (جايسون هيكيل وفيليب ميروفسكي) بأن الدول ذات القدرات القوية يمكنها تنفيذ إصلاحات التحرُّر والخصخصة اللازمة. وبالتالي، فإن حضور النيوليبرالية لا يتنافى مع القدرات القوية للدولة. في الشرق الأوسط، نرى مزيجاً فريداً من كلٍّ من الإصلاحات السياسية النيوليبرالية والقدرات القوية للدولة. وعلى الرغم من أن هيرتوغ يبني قضيته ويُكيِّف مقاربات مبكرة لـ«تعدّديات الرأسمالية» ومواضيع التنمية لشرح منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن صُنّاع السياسات والمتخصّصين في التنمية والأكاديميين سوف يجدون أن التحليل الاقتصادي الجاف وحده لا يكفي. فالأمر يتطلّب تحليلات أكثر دقة تأخذ في الاعتبار التفاعلات التّعاضُدية بين الدولة وقطاع الأعمال والقوى العاملة. ومن خلال القيام بذلك فقط يمكن الاعتراف بكيفية اختلاط السياسة بالاقتصاد، وتصميم برامج تنمية بديلة استجابةً لذلك.
نُشِر هذا المقال في LSE Review of Books في 11 آذار/مارس 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.