السيطرة على الكون
ماذا يفعل الأغنياء بأموالهم؟ ولماذا يجب أن نكرههم؟

  • مراجعة لكاتب روب لارسون «السيطرة على الكون: الثروة الفاحشة للطبقة الحاكمة، وما يفعلونه بأموالهم، ولماذا يجب أن تكرههم أكثر»، الذي يقدّم نقداً لاذعاً للأوليغارشية، ويكشف كيف يحتكر الأثرياء الفاحشون الثروة، ويعمّقون عدم المساواة، ويدمّرون البيئة، وكلّ ذلك تحت غطاء الشعبوية الزائفة.

كان العام 2024 سيّئاً لليسار. عانت الشعبوية اليمينية للمرّة الأولى من بعض النكسات في الهند والمجر، وتنازل المحافظون أخيراً عن السلطة لحزب العمّال المحايد بقيادة كير ستارمر، ومُنِع أقصى اليمين من الوصول إلى السلطة في فرنسا، إلا أن إعادة انتخاب ترامب بمساعدة حماسية من أغنى رجل في العالم وغيره من الأوليغارشيين، كانت هزيمة ساحقة عموماً.

ضاع في هذه الرواية المألوفة بصيص أمل ملحوظ. لقد تجاوزنا الأيام القديمة التي أصرّ فيها كثيرون على أن الوعي الطبقي ومعاداة النخبوية أمرين غير قابلين للتطبيق في الولايات المتحدة، لأن الأميركيين جميعاً اعتبروا أنفسهم مليونيرات مُحرجين مؤقتاً. وبدلاً من ذلك، شهدنا المشهد المحرج لرئيس ملياردير يصل إلى السلطة مدّعياً توجيه ضربة ضدّ العولميين المتغطرسين في كل مكان. معاداة النخبوية هي النظام اليومي، وينبغي لليسار أن يكون قادراً على الاستفادة منها إذا تعلّم من جديد كيفية الاستفادة من هذه التأثيرات.

يساعدنا روب لارسون في ذلك، وهو الخبير الاقتصادي ومؤلّف كتاب «الرأسمالية مقابل الحرية» وغيره من الكتب. يكتب عمداً وفقاً لتقاليد الاشتراكية الديمقراطية، مع مؤلفين مثل أورويل وبيكيتي ونشطاء مثل مارتن لوثر كينغ، الذين يشكّلون حجر الأساس المتكرّر. يعتبر كتاب لارسون الجديد، «السيطرة على الكون: الثروة الفاحشة للطبقة الحاكمة، وما يفعلونه بأموالهم، ولماذا يجب أن تكرههم أكثر»، مساهمة حيّة في الأدب الطبقي. إنه كتاب ممتع ومضحك في كثير من الأحيان، مدعوم بهدف جادّ، إنه جزء من النقد الاقتصادي القائم على البيانات، وجزء من الجدل الأخلاقي المشتعل، وجزء من أساليب حياة الأثرياء والمشاهير. يريد لارسون أن ندرك أن الطبقات الحاكمة الغنية جداً تتسبّب في قدر كبير من الضرر لسياساتنا والبيئة والعمّال، وكل شخص تقريباً يتقاسم معهم ما يصرّون على أنه كوكبهم.

لماذا كان الأثرياء قادرين على إحداث تحوّل نحو الأسواق غير المنظّمة والضرائب المنخفضة التي نسميها النيوليبرالية؟ لأن إصلاحات الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والصفقة الجديدة في الولايات المتحدة لم تصادر ممتلكات الأثرياءفي الماضي لم يكن الأمر كذلك. وعلى الرغم من إصرار الكثير من اليمينيين منذ فترة طويلة على أن الرأسمالية وتسلسلاتها الهرمية الطبقية للثروة والسلطة طبيعية وغير قابلة للتغيير، فقد تم إحراز تقدّم كبير في خلال منتصف القرن العشرين في معالجة حكم الأثرياء وهيمنة الطبقات. فقد ضغطت الحركات الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية، والنشاط العمّالي والأحزاب اليسارية بقوة من أجل المطالبة بمزيد من الديمقراطية الاقتصادية. وفشلت الكثير من التجارب بشكل مأساوي، أو ارتبطت بالفظائع الستالينية والماوية. لكن نجحت الكثير من التجارب الأخرى ببراعة. حرّرت الحركات المناهضة للاستعمار مليارات البشر من أغلال الهيمنة الإمبريالية. وطوّرت الدول الغنية مثل السويد إصلاحات ديمقراطية اجتماعية قوية لدرجة أن أوف بالمه كان بإمكانه أن يزعم أنها أكثر اشتراكية من الكثير من البلدان التي أطلقت على نفسها اسم الاشتراكية. وحتى في الدول البرجوازية الشهيرة مثل بريطانيا والولايات المتحدة، أصبحت إصلاحات نظام الصحة الوطني والصفقة الجديدة شائعة لدرجة أن قِلّة من الناس تجرأوا على تحدّيها علناً. فماذا حدث بعد ذلك؟ هذا ما يجيب عنه لارسون بشكل لا لبس فيه.

لماذا كان الأثرياء قادرين على إحداث تحوّل نحو الأسواق غير المنظّمة والضرائب المنخفضة التي نسميها النيوليبرالية؟ لأن إصلاحات الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والصفقة الجديدة في الولايات المتحدة لم تصادر ممتلكات الأثرياء - فبينما كانت الملكية الخاصة خاضعة لضرائب باهظة وخضعت لقواعد تنظيمية عامّة مكثّفة، ظلّت الملكية الخاصة أوليغارشية. وظلت وول ستريت والصناعات الكبرى والمقاولون العسكريون وصناعة التكنولوجيا المبكرة، مؤسسات عملاقة مملوكة لأفراد أثرياء أو على نحو أكثر شيوعاً شركات ضخمة مملوكة لأفراد أثرياء.

كانت نتيجة الهجوم المضاد النيوليبرالي انخفاض دراماتيكي للحكم الطبقي في جميع أنحاء العالم. وبحسب لارسون، الذي يعيد ما قاله خبراء اقتصاد آخرين مثل توماس بيكيتي، فقد دخلنا في عصر ذهبي جديد يمتلك فيه الأغنياء كل شيء، فيما لا يمتلك الآخرون أي شيء على الإطلاق. فقد وجد تقرير اللامساواة العالمي أن 1% من سكان العالم حصدوا نحو 37% من نمو ثروة الفرد في العالم بين عامي 1980 و2017. وفي الولايات المتحدة، امتلك أغنى 1% من الأميركيين 34.9% من الثروة الوطنية في العام 2021، بينما امتلك أغنى 10% نحو 70.7% من الثروة. وعلى عكس الادعاء الراسخ بأن المدّ المتصاعد يرفع كل السفن، يأتي هذا النزيف للثروة والسلطة بعواقب وخيمة على الناس العاديين. ويشير لارسون إلى أنه وفقاً لباحثي راند، «بلغ متوسط ​​دخل الأميركيين نحو 36 ألف دولار في العام 2018، في حين تظهر فرضيتهم متوسط ​​دخل يبلغ 57 ألف دولار. وهذا فرق كبير بالنسبة إلى الناس. ولكن الأكثر بشاعة هو ما تظهره التجارب الافتراضية لأغنى 1%، إذ أن دخلهم السنوي سيكون 549 ألف دولار في ظل نظام «الصفقة الجديدة» القديم القائم على المساواة. لن يكونوا فقراء بهكذا ثروة. ولكن في الواقع، كان الحد الأدنى لدخل 1% في ذلك الوقت ضعف هذا المبلغ وقد وصل إلى 1,160,000 دولاراً».

يجب أن تُنفق هذه الثروات في مكان ما، وليس على الصناديق الائتمانية فقط. يركّز جزء كبير من كتاب «السيطرة على الكون» على التقارير التي تكشف عن بذخ الأثرياء وقسوتهم. يروي الكتاب قصصاً عن أغنياء يرفضون حتى فتح أبوابهم بأنفسهم، فينتظرون في البرد حتى يقوم الخدم بذلك، ويشترون يخوتاً مجهزة بمسارح IMAX تكلف ثروة هائلة، ويملكون عقارات حول العالم من دون أن يسكنوا فيها، ما يرفع أسعار المساكن. كما يسافرون بطائرات خاصة، متسببين في أضرار بيئية جسيمة. لكن حتى الطائرات الخاصة لم تعد كافية لاستعراض مكانتهم، فالتوجه الجديد للأثرياء هو السياحة الفضائية. وكما يشير تقرير منظمة المرأة في التنمية، فإن السياحة الفضائية التي تستغرق 11 دقيقة «تنفث ما لا يقل عن 75 طناً من الكربون إذا أخذنا في الاعتبار الانبعاثات غير المباشرة (والأرجح أنها تتراوح بين 250 و1,000 طن). في المقابل، ينبعث من حوالي مليار فرد عادي أقل من طن واحد للشخص الواحد سنوياً. وعلى مدار حياتهم، لا يتسبّبون بانبعاث أكثر من 75 طناً من الكربون للشخص الواحد. وبالتالي يستغرق الأمر بضع دقائق من السفر إلى الفضاء لإصدار كمية من الكربون تعادل ما يتسبّب به فرد عادي طوال حياته». ويصف لارسون الأمر بأنه خبر «مدمّر» نتيجة الضرر الذي يلحقه الأسياد بالكوكب الوحيد الذي لدينا.

 إن السياحة الفضائية التي تستغرق 11 دقيقة تنفث ما لا يقل عن 75 طناً من الكربون وهذا يعادل ما يتسبّب به فرد عادي من انبعاثات طوال حياته

وتتناول الأجزاء الأخيرة من الكتاب رسم خطّة لمكافحة الأوليغارشية، وهنا أعتقد أنه يمكن تعزيز حجمه. يبحث لارسون بجديّة عن أسباب تجعله متفائلاً بالفكر. تشمل الأدلة التي قدمها لارسون مجموعة من الإحصاءات التي تظهر الدعم واسع النطاق لدفع الأغنياء لحصتهم العادلة، والتطبيع (النسبي) للاشتراكية الصريحة في الولايات المتحدة، وقدرة الرأي العام على التأثير على السياسة في الولايات المتحدة والخارج. وبقدر ما قد يكون الأمر صحيحاً، لم يتمكن اليسار إلى حد كبير من الاستفادة منه. ويعود الأمر إلى القوى المموّلة جيداً التي تم ترتيبها ضدنا. نحن متفوّقون، ولكن نفوذ اليسار الأنغلو-يساري تراجع منذ ذروته في عامي 2019 و2020، عندما كان كوربين زعيماً لحزب العمّال في بريطانيا وبيرني ساندرز المرشح الأوفر حظاً للرئاسة الأميركية. لو لو لم تتحالف النخب الديمقراطية ضدّ بيرني، أو يواجه كوربين حسابات انتخابية أكثر ملاءمة في خلال عثرة انتخابه في العام 2017، لكانت الأمور مختلفة. ولكن ارتُكبت الأخطاء وفُقد الزخم. إن بعض الحلول العملية المحتملة التي لا يناقشها لارسون هي العمل بجديّة أكبر لبناء منافذ إعلامية بديلة لنشر الأفكار الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية. وهذا يشمل الفضاءات الرقمية حيث يهيمن اليمين بشكل هائل حالياً. لا شك أن هناك بعض الرواد في هذا الصدد، ولكن هناك الكثير مما يجب القيام به.

على الصعيد الإيديولوجي، هناك حاجة أيضاً إلى إطار أكثر وضوحاً لدمج الاهتمامات بالمساواة بين الجنسين والمساواة العرقية والجنسية مع نقد أكثر قوة للهيمنة الرأسمالية إلى جانب مؤشر للحلول العملية التي من شأنها أن تجعل الحياة أفضل بسرعة. وكما يلاحظ عالم الاجتماع موسى الغربي في كتابه «لم نستيقظ قط»، فإن الكثير من الناس العاديين ينظرون إلى اليساريين على أنهم نخب ملتزمة باستغلال سياسات الهوية للمضي قدماً، في حين لا تبالي بالضائقة الاقتصادية التي يعاني منها الناس العاديون. لا شك أن هذا التصوّر من صنع اليمين جزئياً، لكننا نخاطر بتفاقمه من دون التزام متجدّد بالديمقراطية الاقتصادية ورفاهية الجميع. وكما يشير لارسون، قد يكون الأمر شائعاً للغاية - خصوصاً بالنظر إلى مقدار التنكّر المناهض للنخبوية على اليمين الذي يحجب تعاونهم مع أكثر سكان العالم تدليلاً.

هذه ليست انتقادات ولكنها بعض الأفكار التي طرحت نفسها أثناء قراءة كتاب لارسون العملي والمكتوب بشكل جيد. هذا النوع من الكتابة هو ما يحتاج إليه اليسار ويستحقه حقاً: إنه كتاب سهل المنال، ويتسم بالصلاح الشديد، ويغلب عليه طابع الغضب. وهو أيضاً كتاب مضحك للغاية، ولنكن منصفين، فإن لارسون لديه بعض الأهداف السهلة في ظل أساليب الطبقة الحاكمة التي تأكل الرقائق الذهبية. ولابد وأن يكون كتاب «سادة الكون» اختياراً سهلاً لأي شخص مهتم بكيفية وصولنا إلى عصر ذهبي جديد وكيف يمكننا أن نتخذ مساراً صعباً للخروج منه.

نُشِرت هذه المراجعة في Marx & Philosophy Review of Books في 4 شباط/فبراير 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.