
حفنة بلدان تحتكر الذكاء الاصطناعي
في العام 2023، قُدّرت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي العالمية بحوالي 4.8 تريليون دولار، وفق «تقرير التكنولوجيا والابتكار 2025» الصادر عن مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، وهو ما يفوق الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الألماني الضخم، ويعادل مئات أضعاف اقتصادات أصغر بكثير مثل لبنان وسوريا، الأمر الذي يجعل الذكاء الاصطناعي أهم قطاع في عالم التكنولوجيا اليوم، ويشكّل نحو 30% من إجمالي سوق «التكنولوجيا الرائدة»، التي تشمل مجالات مثل الطاقة النظيفة وتقنية النانو وصناعة الدرونات وتعديل الجينات والطباعة ثلاثية الأبعاد وغير ذلك.
مع ذلك، تتركّز الخدمات المتداولة في سوق الذكاء الاصطناعي، والاستثمارات الهائلة الموجّهة لتطويره، والعمالة المتخصصة المطلوبة فيه، في دول محددة. ففي حين تحتضن الولايات المتحدة الأميركية شركات تكنولوجيا عملاقة مثل «أوبن إي آي»، وتحتضن الصين شركات مثل «بايدو»، ويستحوذ هذان البلدان مع حفنة من بلدان أخرى على أهم الحواسيب الفائقة وأبرز العلماء والأكاديميين في هذا المجال، تعاني أكثرية البلدان في العالم من حرمان شديد من ثمار هذه الثورة، إذ لا يزال هناك أكثر من 750 مليون شخص يعانون من انعدام تام في الكهرباء، ولا يمتلكون القدرة على الوصول إلى الشبكة العنكبوتية العالمية وتجربة أحدث بوتات الدردشة الذكية. كما أن غالبية دول العالم لا تزال محرومة تماماً من تقنية الجيل الخامس للاتصالات، بل إن عدداً منها يفتقر بشكل تام إلى تقنية الجيل الرابع، بالإضافة إلى تدهور تام في البنية التحتية التكنولوجية التي يحتاجون إليها في البحث والتطوير في قطاع الذكاء الاصطناعي. أيضاً لا يزال معدّل الالتحاق بالتعليم الجامعي في عشرات الدول أقل من 30%، فما بالك بامتلاكها كوادر متخصّصة في مجالات التكنولوجيا المتقدّمة؟
احتكار السوق والاستثمار
يشير تقرير «مؤشر الذكاء الاصطناعي 2024» إلى أن الاستثمار الخاص في مجال الذكاء الاصطناعي بلغ 96 مليار دولار بانخفاض طفيف عن العام 2022، بينما تشير الأونكتاد إلى أن القطاع الخاص يتولّى مسؤولية معظم أبحاث الذكاء الاصطناعي الرائدة، ويُنتج معظم نماذج التعلم الآلي، متقدّماً بذلك على الحكومات والأوساط الأكاديمية، التي لا تتجاوز حصتها النصف.
وعلى الرغم من ضخامة الاستثمارات الخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، تستحوذ الولايات المتحدة على 70% منها، بقيمة 67 مليار دولار أميركي في العام 2023، إذ تهيمن على سوق مقدّمي خدمات الذكاء الاصطناعي شركات مثل أمازون وألفابت وآي بي إم ومايكروسوفت وأوبن إيه آي. وفي العام 2023، واصلت الولايات المتحدة صدارتها من حيث إجمالي عدد شركات الذكاء الاصطناعي المموّلة حديثاً، بما يقارب 7 أضعاف عدد الشركات في ثاني أعلى دولة، الصين.
في المقابل، اقتصرت الاستثمارات الخاصة الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي بين الدول النامية على دولتين فقط: الصين التي حلت في المرتبة الثانية عالمياً باستثمار قدره 7.8 مليار دولار أميركي أي ما يعادل 12% فقط من الإنفاق الأميركي، والهند التي جاءت في المركز العاشر باستثمار بلغ 1.4 مليار دولار أميركي، أي 2% فقط من الاستثمار الخاص الأميركي.
احتكار في تقنيات الحوسبة
شهدت تكلفة تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة ارتفاعاً مطرداً منذ العام 2016، وهي تتضاعف سنوياً بمعدل 240%. فبعد أن استلزم تدريب نموذج «ألفا غو ماستر» أقل من مليون دولار في العام 2017، وصلت تكلفة تدريب تشات جي بي تي 4 إلى عشرات ملايين الدولارات في العام 2023. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ العام 2010، تضاعف متوسط حجم مجموعات بيانات التدريب لنماذج اللغة 3 مرات سنوياً، وأصبحت معقّدة للغاية ولا يمكن معالجتها بفعالية باستخدام مناهج ومنصّات المعالجة التقليدية.
وبالنظر إلى أن الأجهزة تستحوذ على أكثر من نصف تكاليف التطوير، يمثّل تدريب هذه النماذج المتقدّمة تحدياً كبيراً لمعظم المؤسّسات، باستثناء تلك التي تتمتع بتمويل قوي. ونتيجة لذلك، من المستبعد أن تتمكّن معظم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وخصوصاً في الدول النامية، من تطوير نماذج ذكاء اصطناعي جديدة بشكل مستقل. بدلاً من ذلك، سيكون خيارها الأكثر واقعية هو تبنّي وتكييف تقنيات الذكاء الاصطناعي الموجودة لتلبية متطلبات أعمالها الخاصة.
تمتلك الولايات المتحدة حوالي ثلث أفضل 500 حاسوب فائق، وأكثر من نصف الأداء الحسابي الإجمالي لها. وتأتي الصين في المرتبة الثانية، بامتلاكها 80 من أفضل 500 حاسوب فائق، على الرغم من أن أدائها الحسابي الإجمالي أقل من عُشر نظيره في الولايات المتّحدة. وينطبق الوضع نفسه على مراكز البيانات، إذ يقع نصفها في الولايات المتحدة، وعددها 5,831 مركز بيانات، وتتبعها ألمانيا بنحو 521 مركز فقط. بينما يمتلك قليلٌ من الدول النامية حواسيب عملاقة قوية أو مراكز بيانات ضخمة، باستثناء الصين (499 مركزاً) وروسيا (251 مركزاً) والمكسيك (170 مركزاً) والبرازيل (163 مركزاً) والهند (152 مركزاً).
احتكار المؤسّسات البحثية والكادر الأكاديمي
بين عامي 2000 و2023، نُشِر ما يزيد عن 713 ألف مقال علمي مُحكّم في مجال الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى تقديم 338 ألف براءة اختراع، مع زيادة ملحوظة في عددها منذ العام 2020. في هذه الفترة كانت الصين والولايات المتّحدة مسؤولتين عن حوالي ثلث المنشورات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي و60% من براءات الاختراع. باستثناء الصين والهند، لم تحقّق معظم الدول النامية سوى تقدّم محدود، وازداد الفارق بينها وبين الدول المتقدمة.
هناك فجوة مماثلة في توزيع المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً أن حوالي نصف الباحثين من الدرجة الأولى في مجال الذكاء الاصطناعي في العالم ينحدرون من الصين، يليهم 18% من الولايات المتحدة، و12% من أوروبا.