
داوود ضد غالوت في عصر الذكاء الاصطناعي
أحدث إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي R1 من شركة DeepSeek الصينية في 20 كانون الثاني/يناير 2025 زلزالاً في عقر دار عمالقة التكنولوجيا في سيليكون فالي، وكذلك في أسواق المال في وول ستريت وأروقة الإدارة الأميركية في واشنطن.
تمكنت شركة صينية شبه مجهولة بميزانية لا تتجاوز 6 ملايين دولار أميركي من زعزعة اليقينيات التكنولوجية والمالية والجيوسياسية، متسبّبة في خسائر مالية تجاوزت 1,000 مليار دولار أميركي في الأسواق المالية يوم 27 كانون الثاني/يناير 2025.
ولا يعود ذلك إلى قدرتها على منافسة الشركة الأميركية الرائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي OpenAI (ومنتجها المعروف ChatGPT) فقط، على الرغم من العقوبات الأميركية المشدّدة على قطاع التكنولوجيا الصيني، بل أيضاً لأنها قدمت ابتكارات تقنية في منهجية تطوير الذكاء الاصطناعي وطرحت منتجها مجاناً ومفتوح المصدر، ما يسمح لجميع المطوّرين بالاطلاع على خوارزمية الذكاء الاصطناعي والتعديل عليها بحرية تامة.
أتى التفوّق الصيني في تصميم وتدريب الذكاء الاصطناعي نتيجة شحّ الموارد التكنولوجية التي فرضتها العقوبات الأميركية على قطاع التكنولوجيا في الصين ضمن السباق الجاري على تطوير الذكاء الاصطناعي
فما هي ميزات برنامج DeepSeek التي أحدثت كل هذه الهزّات، وما هي تبعاته على قطاع التكنولوجيا والسباق الأميركي-الصيني في تطوير الذكاء الاصطناعي؟
من هي DeepSeek؟
يشوب شركة DeepSeek الغموض. تأسّست في أيار/ مايو 2023 على يد رائد الأعمال ليانغ وينفنغ، الذي اشتهر بتأسيس صندوق التحوط الكمي «هاي فلاير» في العام 2015. وتوظف الشركة حوالي 300 موظف.
بالمقارنة مع شركة OpenAI الأميركية الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، التي تأسست في العام 2015، وتوظف أكثر من 1,700 شخصاً، تُعتبر DeepSeek ناشئة وصغيرة الحجم. في العام 2024، حصلت OpenAI على تمويل بقيمة 6.6 مليارات دولار، ما رفع قيمتها الإجمالية إلى 157 مليار دولار. ومع ذلك، نجحت DeepSeek في تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي R1، الذي يضاهي نموذج OpenAI الأكثر تطوراً o1 في قدراته التحليلية والحسابية والبرمجية. ويُعد ذلك إنجازاً لافتاً عند مقارنة أعمار وأحجام وتمويل الشركتين.
الحاجة أمّ الاختراع
تُعدّ آليّة تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي R1 إنجازاً بحدّ ذاته من حيث بساطة تصميمه، وحجمه الصغير، وسرعة تدريبه مقارنة بنموذج o1، فضلاً عن انخفاض كلفة التدريب.
تم تطوير R1 باستخدام منهجية التعلّم المعزّز، وهو فرع من التعلّم الآلي يُمكّن النموذج من التعلّم عبر التجربة والخطأ، إذ يحصل على مكافآت أو عقوبات بناءً على أدائه. تسمح هذه المنهجية للنموذج بتطوير استراتيجيات تفكير ذاتياً من دون الاعتماد الكبير على البيانات المُشرفة، أي تلك المصنفة مسبقاً (مثل تصنيف صورة كلب بأنها كلب من قبل إنسان)، ما يقلّل الكلفة بشكل كبير. بناءً على هذه المقاربة، بلغت كلفة تدريب نموذج R1 حوالي 6 ملايين دولار فقط مقارنة بما يفوق عن 100 مليون دولار لنموذج o1.
أتى التفوّق الصيني في تصميم وتدريب الذكاء الاصطناعي نتيجة شحّ الموارد التكنولوجية التي فرضتها العقوبات الأميركية على قطاع التكنولوجيا في الصين ضمن السباق الجاري على تطوير الذكاء الاصطناعي. فقد فرضت الإدارة الأميركية عقوبات على شركات صينيّة لتقييد قدرتها على شراء تكنولوجيا أميركية ووضعت ضوابط على الاستثمار في شركات التكنولوجيا الصينية وعلى تصدير أدوات الحوسبة المتقدّمة وأشباه الموصلات التي تعتبر المكوّن الأساسي لأجهزة الذكاء الاصطناعي. لذلك، لم يكن على المطوّرين الصينيين سوى المنافسة عبر ابتكار أساليب أكثر بساطة وأقلّ كلفة لبرامج الذكاء الاصطناعي لمحاكاة شحّ الموارد المفروض عليهم.
في المقابل، انخرطت الشركات الأميركية في سباق نحو بناء نماذج «أكبر»، أي تلك التي تعتمد على عدد ضخم من المعلمات (parameters)، باعتبارها معياراً لتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي، وهو افتراض خاطئ يُشبه قياس ذكاء الكائنات الحية بناءً على حجم أدمغتها (مثل مقارنة دماغ الفيل بدماغ الإنسان مثلاً). وبينما ركّزت الشركات الأميركية على الحجم والتمويل الضخم، استثمرت الشركات الصينية شحّ الموارد كدافع للابتكار وبناء نماذج أذكى وأكثر فعالية.
نسف جدران الدفع
لا تكمن أهمية شركة DeepSeek في ابتكارها التقني فحسب، بل تمتدّ إلى نموذجها السوقي أيضاً. أتاحت الشركة نموذج R1 بشكل مجاني لجميع المستخدمين، والأهم من ذلك أنها طرحته كمصدر مفتوح، مما يتيح لأي مطوّر في مجال الذكاء الاصطناعي استخدامه كقاعدة مجانية لتطوير برامجه الخاصة. وتقتصر عائدات الشركة على تقديم خدمات إضافية للمطوّرين، وهو ما يعكس نموذجاً معاكساً تماماً لشركة OpenAI التي قامت بتسليع مخرجات ذكائها الاصطناعي من خلال فرض اشتراكات شهرية وخصخصة نماذجها بموجب قيود الملكية الفكرية، ما يُجبر أي مطوّر على دفع رسوم محدّدة إذا أراد استخدام ChatGPT كأساس لبرامجه.
يفرض نموذج المصدر المفتوح هيمنة واسعة لشركة DeepSeek على شركات التكنولوجيا التي سوف تعتمد على برنامجها
يكمن هنا جوهر الاضطراب المالي والارتباك في الأسواق الذي أحدثته DeepSeek. حذّرت مذكرة مسرّبة من شركة Google في العام 2023 من مخاطر تصاعد نماذج لغة الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر، نظراً لقدرتها على نسف النموذج الاقتصادي القائم على تسليع مخرجات الذكاء الاصطناعي. وهذا ما تحقّق بالفعل. فكيف يمكن تحفيز المستهلك اليوم على دفع اشتراك شهري بقيمة 20 دولاراً إلى OpenAI أو غيرها من البرامج المحمية بجدران الدفع، إذا كان بإمكانه الوصول إلى النتائج ذاتها مجّاناً من خلال DeepSeek؟ جاء الجواب على هذا السؤال في شكل فقدان المستثمرين ثقتهم بربحية استثماراتهم في الذكاء الاصطناعي المسلّع، ما أدّى إلى محو 1,000 مليار دولار أميركي من الأسواق المالية.
إضافة إلى ذلك، يفرض نموذج المصدر المفتوح هيمنة واسعة لشركة DeepSeek على شركات التكنولوجيا التي سوف تعتمد على برنامجها. إذ سوف يعتمد جميع المطوّرين على برنامج DeepSeek، ما يعني أن أي تعديل تُدخله الشركة أو أي قوانين تفرضها على ذكائها الاصطناعي سوف تنعكس مباشرة على جميع البرامج التي ترتكز عليه. كما تحتفظ شركة DeepSeek بحق تحويل برنامجها من مصدر مفتوح إلى ملكية فكرية خاصة في أي وقت، ما يتيح لها فرض رسوم مستقبلية على الشركات التي سوف تستخدم برنامجها.
أدركت شركة Meta أهمية السلطة التي يمنحها نموذج المصدر المفتوح، فقامت بتطوير نموذج لغة مفتوح المصدر يُعرف بـ LLaMA لكنّها لم تنجح في تطويره ليصل إلى فعالية نموذجَي o1 وR1. ومع ذلك، من المتوقع أن تلجأ Meta إلى استخدام تقنيات برنامج R1 لتعزيز برنامجها وخفض تكاليفه بهدف منافسة R1 كنموذج مفتوح المصدر.
الحرب الباردة الثانية
يُشبَّه التنافس الحالي بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة في قطاع الذكاء الاصطناعي بالحرب الباردة الثانية. واستناداً إلى هذا التشبيه، يمكن وصف إطلاق شركة DeepSeek لنموذج R1 بلحظة تاريخية تشبه إطلاق الاتحاد السوفياتي للقمر الصناعي «سبوتنيك»، الذي صدم العالم بريادته التكنولوجية.
تمكّنت شركة صينية غير معروفة من تطوير نموذج ذكاء اصطناعي ينافس أكثر النماذج تطوّراً وبجزء بسيط من الكلفة، فما هي المفاجآت الأخرى التي يمكن ترقبها؟
يسود اليوم الإرباك في أروقة الإدارة الأميركية ومجالس إدارات كبرى الشركات في سيليكون فالي، حيث أصبح واضحاً أن التفوق الأميركي في الذكاء الاصطناعي كان واهماً. كما بدأت تساؤلات كثيرة تُطرح في أذهان القيادات الأميركية: كيف يمكن تقويض التقدّم التكنولوجي للصين إذا كانت العقوبات الأميركية ذاتها قد حفّزت الابتكار التقني؟ وإذا تمكّنت شركة صينية غير معروفة من تطوير نموذج ذكاء اصطناعي ينافس أكثر النماذج تطوّراً وبجزء بسيط من الكلفة، فما هي المفاجآت الأخرى التي يمكن ترقبها؟
يقدّم نجاح DeepSeek نقداً عملياً لأساسات نمط الإنتاج السائد والراسخ في العقول بوصفه المسار الوحيد للتقدّم. فقد أثبت هذا النجاح أن الملكية الفكرية ليست بالضرورة المحفّز الأساسي للابتكار والتطوّر التكنولوجي، كما أنه يقدّم دليلاً على أن الأكبر ليس دائماً الأفضل، بمعنى أن حجم الاستثمارات أو المشاريع لا يضمن بالضرورة النجاح.
مع ذلك، يجب التأكيد أن شركة DeepSeek لم تطِح بسوق الذكاء الاصطناعي ككل، بل فقط بنموذج تسليع نتائج النماذج اللغوية، وهي فئة صغيرة من برامج الذكاء الاصطناعي. لذلك، من المبالغة أيضاً الاحتفال بتحوّل ملكية وسائل الإنتاج المستقبلية من عمالقة رأس المال إلى الملكيّة العامة، إذ لا تزال هذه التصورات بعيدة عن الواقع الحالي.