Preview الاحتكارات تغذي اللامساواة

كيف يغذّي الاحتكار اللامساواة؟

في العام 2023، أصبح أصحاب المليارات في العالم أغنى بنحو 3.3 تريليون دولار بالمقارنة مع العام 2020. وبحسب تقرير بعنوان «Inequality inc» صدر اليوم عن منظّمة «أوكسفام»، يُعدُّ هؤلاء الأثرياء من أكبر الرابحين من الأزمات المتفجّرة منذ بداية العقد الحالي، فقد استغلّت الشركات العالمية الكبرى، التي يملك هؤلاء أسهماً ضمنها أو يستثمرون أموالهم فيها، وضعيّتها الاحتكارية في الأسواق العالمية، ورفعت أسعار السلع التي اشتدّت الحاجة إليها في خلال فترة تفشّي الجائحة واشتعال الحروب واشتداد الظواهر المناخية، ما أدّى إلى رفع هوامش أرباحها إلى مستويات قياسية غير مسبوقة في العقود الأربعة الماضية، وهي أرباح تدفّقت في نهاية المطاف إلى محافظ أغنياء العالم.

أرباح قياسية وغير مسبوقة في أربعة عقود

يعدُّ الاتجاه العام لزيادة الأرباح بشكل دائم من طبيعة النظام الرأسمالي وهاجسه بتحقيق تراكم لانهائي، إلا أن «الانتهازية التي مارستها الشركات الكبرى في السنوات الثلاث الماضية لم يسبق لها مثيل» وفق ما يشير التقرير. وبحسب العديد من المؤسّسات المالية، بما فيها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، «ثمّة الكثير من الأدلة عن قيام الشركات الكبرى في العديد من القطاعات بالتنسيق ضمنياً من أجل زيادة أسعارها ورفع هوامش أرباحها، عندما هزّت صدمات العرض (تراجع الإنتاج) الناجمة عن جائحة كوفيد-19 الاقتصاد العالمي». وتقول «أوكسفام» إن القطاعات التي سجّلت الارتفاعات الأكبر في الأسعار، هي قطاعات الطاقة والغذاء والأدوية، وزادت الشركات أرباحها بأسرع وتيرة منذ العام 1955.

لمتوسّط العالمي لهامش ربح الشركات، أي معدّل السعر إلى التكلفة الفعلية، ارتفع من 7% فوق التكاليف الفعلية في العام 1980 إلى 59% في العام 2020

تظهر بيانات «أوكسفام» المُجمّعة لأكثر من 70 ألف شركة في 134 دولة على مدار العقود الأربعة الماضية، أن المتوسّط العالمي لهامش ربح الشركات، أي معدّل السعر إلى التكلفة الفعلية، ارتفع من 7% فوق التكاليف الفعلية في العام 1980 إلى 59% في العام 2020. وهذه الزيادة الضخمة في الأرباح مسؤولة عنها الشركات الكبرى التي تتربّع على قمة الهرم وتحتكر الأسواق العالمية، إذ تضاعفت حصّة أرباح الشركات المتعدّدة الجنسيات من مجمل أرباح الشركات أربع مرات، من 4% في العام 1975 إلى 18% في العام 2019.

ووفق تحليلات «أوكسفام» و«ActionAid»، من المرجّح أن يكون هامش الأرباح قد سجّل ارتفاعات أكبر في السنوات الثلاثة الماضية، مع تحقيق الشركات العالمية قفزة كبيرة في أرباحها بلغت نسبتها 89% بين عامي 2021 و2022 بالمقارنة مع متوسط الأرباح المُسجّل بين عامي 2017 و2020. وتتركّز ثلث هذه الأرباح لدى 0.001% من مجمل الشركات العالمية. 

بالمقارنة مع الفترة الممتدّة بين عامي 2018 و2021، حقّقت 14 شركة نفط وغاز في العام 2023 متوسّط أرباح أعلى بنسبة 278% وحصلت على أرباح بقيمة 144 مليار دولار في 2022، و190 مليار دولار في 2023. كما سجّلت علامتين تجاريتين فاخرتين متوسط أرباح في العام الماضي أعلى بنسبة 120%، وحقّقت أرباحاً بقيمة 8.5 مليار دولار في 2022 و9.9 مليار دولار في 2023. أيضاً زادت 22 شركة متخصّصة في الخدمات المالية أرباحها بنسبة 32% في العام 2023، وبلغت قيمتها 36 مليار دولار. وسجّلت 11 شركة أدوية عالمية أرباحاً أعلى بنحو 32% في العام 2022، بقيمة وصلت إلى 41.3 مليار دولار.

تحويل الدخل من الجميع إلى قلّة

يعرّف الاحتكار بتمكّن قلّة من اللاعبين، عادة ما يكونون الأقوى والأكثر نفوذاً، بإقصاء اللاعبين الآخرين من أجل التحكّم بإنتاج سلعة أو خدمة ما والسيطرة على إحدى الأسواق أو القطاعات أو الموارد. ويعدّ الاحتكار من الآليات المُستخدمة لتركيز الثروة وتضخيمها ومن نتائج عمل الاقتصاد الحرّ المتفلّت من أي قيود، وأيضاً من سمات الرأسمالية التي تقوم بطبيعتها على تحقيق التراكم اللانهائي عبر الاستحواذ على حصة أكبر من نتاج المجتمع كلّه بما فيه العمّال والمستهلكين والمنافسين. 

تحوّل الاحتكارات الدخل من العمل إلى رأس المال، أي أنها «تعيد توزيع الدخل المتاح لكثيرين إلى مكاسب رأسمالية للقلّة وأرباح للمساهمين وتعويضات للمدراء التنفيذيين»

تتفق العديد من المؤسّسات المالية، مثل صندوق النقد الدولي، على أن قوة الاحتكارات آخذة في النمو في العصر الحالي، وأنها تساهم في تزايد التفاوتات. وبالفعل، «وصل معدّل اللامساواة في توزيع الدخل والثروة في العالم في خلال العام 2023 إلى المستوى نفسه المُسجّل في جنوب أفريقيا»، البلد الأكثر تفاوتاً في العالم. وبحسب «أوكسفام» تحوّل الاحتكارات الدخل من العمل إلى رأس المال، أي أنها «تعيد توزيع الدخل المتاح لكثيرين إلى مكاسب رأسمالية للقلّة وأرباح للمساهمين وتعويضات للمدراء التنفيذيين». ومن خلال خلق الندرة لزيادة الأسعار بهدف تضخيم الأرباح، تعيد الاحتكارات «توزيع الدخل والثروة بشكل رجعي على مستوى الاقتصاد: من العمّال والمستهلكين الذين يتحمّلون أعباء زائدة ويُثقلون بهوامش أعلى من الأرباح، إلى المديرين التنفيذيين والمساهمين في الشركات والصناعات».

احتكار المال مدخل لاحتكار كلّ شيء

يعدّ احتكار المال المدخل الأول لتعزيز الاحتكارات في كلّ شيء. وبحسب أوكسفام «تزيد قوة الاحتكارات وتشتدّ ممارستها بسبب سهولة وصول أصحاب رأس المال والاحتكارات إلى التمويل واحتكارهم له». 

تدير ثلاث أكبر صناديق استثمارية في العالم، وهي بلاك روك وستيت ستريت وفانغارد، نحو 20 تريليون دولار من الأصول، أي خمس الأصول القابلة للاستثمار في العالم

تشير بيانات Wealth X إلى امتلاك 1% من أغنياء العالم نحو 56% من الأصول المالية في العالم. تدير ثلاث أكبر صناديق استثمارية في العالم، وهي بلاك روك وستيت ستريت وفانغارد، نحو 20 تريليون دولار من الأصول، أي خمس الأصول القابلة للاستثمار في العالم، وتوظّفها لشراء أسهم في شركات ما يؤدّي إلى زيادة التركّز والاحتكار. على سبيل المثال، يبيّن بحث أجري في جامعة هارفارد أنه «سيكون لدى نحو 12 فرداً في المستقبل القريب، سلطة عملية، أي حصّة الغالبية، على غالبية الشركات العامة الأميركية». 

أيضاً سمح إتاحة التمويل  بزيادة وتيرة عمليّات الدمج واستحواذ الشركات الكبرى على الشركات الأصغر منها وبالتالي زيادة التركّز. على مدار العقدين الماضيين، اندمجت 60 شركة أدوية بـ10 شركات عملاقة. كما استخدم التمويل المُتاح لتوسيع النشاطات الاستثمارية، ما قلّل الحوافز التي تدفع الشركات إلى المنافسة وأدّى إلى تعميق القوة الاحتكارية. حالياً تسيطر شركتان عالميتان على أكثر من 40% من سوق البذور العالمية بالمقارنة مع 10 شركات قبل 25 عاماً. أيضاً تسيطر أربع شركات على 62% من سوق المبيدات في العالم، كما أن ثلاثة أرباع الإنفاق العالمي على الإعلانات عبر الإنترنت يتم دفعه إلى شركات ميتا وألفابت وأمازون.