
أربعة عقود من الانكماش
كيف أعادت سياسات إعادة الهيكلة رسم تونس من الداخل؟
في لحظة مفصلية من تاريخ تونس الحديث، في مطلع السبعينيات، شرعت الدولة في تغيير وجهها. لم يكن الأمر مجرد تحوّل في السياسة الاقتصادية، بل بداية انزياح هادئ في العقد الاجتماعي ذاته. تحت شعار «الانفتاح»، غيّرت الدولة جلدها تدرّجياً: من دولة وطنية شمولية متدخلة في كل مفاصل الاقتصاد والمجتمع، إلى دولة «مُرشدة» تقود التحوّل نحو السوق، لكنها لا تتنازل عن أدوات التحكم والمراقبة، بل تعيد توظيفها بذكاء جديد. شيئاً فشيئاً، لم تعد الأولوية للتشغيل أو العدالة الاجتماعية أو التوازن الجهوي، بل للاستثمار وجلب رؤوس الأموال وتحقيق «النجاعة». هكذا تغيّرت اللغة، وتغيّرت المفاهيم: صار الفقير «غير نشيط»، والعامل «مكلّفاً»، والمرفق العام عبئاً. ومع هذا التحوّل اللغوي، تغيّر شكل الدولة، وتغيّر معها معنى السياسة.
كان العام 1986 نقطة تحوّل حاسمة في هذا المسار، إذ دشّنت تونس سياسات التعديل الهيكلي تحت ضغط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهذه السياسات، التي ارتكزت على تقليص الإنفاق العمومي، وتحرير الأسعار، وتقليص الدعم، وتشجيع الخصخصة، مثلت منعرجاً جديداً: لم تعد الدولة فاعلاً محورياً في توزيع المكاسب الاجتماعية، بل أصبحت في موقع تقني يضبط قواعد اللعبة لصالح السوق ورأس المال. انكشفت حقائق الانفتاح السابقة، وتحوّلت التناقضات البنيوية إلى أزمات اجتماعية واقتصادية متفاقمة، رافقها تصاعد في مظاهر التهميش والتفاوت.
في القرى والأحياء الشعبية، بدأت ترتسم ملامح خيبة جديدة. الخبز أصبح أغلى، والوظيفة العمومية صارت حلماً بعيد المنال، والتعليم لم يعد بوابة للترقية. في المقابل، وُلدت طبقة جديدة، تجمع بين القدرة الاقتصادية والقرب من دوائر القرار، تُمثل واجهة التحديث، لكنها لا تعكس إلا إعادة إنتاج الامتيازات، في قالب نيوليبرالي. لم تعد الدولة توزع المكاسب، بل أصبحت توزّع الفرص – بتفاوت حادّ – وفق شبكات الزبونية والمصالح. واللافت أن هذا التحوّل تمّ باسم التحرير: تحرير السوق، وتحرير المبادرة، وتحرير المواطن من «وصاية» الدولة. لكنّ التحرير لم يكن إلا إعادة هندسة دقيقة لموازين القوة. أُفرغت السياسات العمومية من بعدها الاجتماعي، وتحوّلت الدولة إلى وسيط بين مصالح رأس المال المحلي والعابر، تتدخل حيث يجب تأمين الأرباح، وتغيب حين يُطلب منها توفير الحماية.
أُفرغت السياسات العمومية من بعدها الاجتماعي، وتحوّلت الدولة إلى وسيط بين مصالح رأس المال المحلي والعابر، تتدخل حيث يجب تأمين الأرباح، وتغيب حين يُطلب منها توفير الحماية
تغيّرت المدينة هي الأخرى. لم تعد الفضاء المشترك الذي يجمع فئات اجتماعية مختلفة، بل انقسمت إلى أحياء مغلقة للفئات المحظوظة، ومناطق معزولة للفئات المفقّرة. صار العمران نفسه لغة تفاضل طبقي، تعبر فيه البنية عن علاقة القوّة: من يعيش في الطبقة العشرين، ومن يكتظّ في الحواشي. أما الريف، فقد تراجع إلى الخلفية، كاحتياطي للهجرة الداخلية، والعمل الموسمي، والذاكرة المهمّشة. وعلى الرغم من أن هذا التحوّل لم يكن تونسياً خالصاً – بل كان جزءاً من موجة عربية أوسع – شكّلت تونس حالة نموذجية، إذ امتزج الانفتاح الاقتصادي باستمرار قبضة الدولة، لا في صيغة سلطوية تقليدية، بل في شكل جديد من «العقلنة السلطوية»، تمارس الإخضاع باسم التنظيم، وتعيد إنتاج الفوارق باسم الإصلاح. لم يكن هذا الانفتاح تخفيفاً من القبضة، بل إعادة توزيعها: أكثر مرونة، أكثر مهنية، لكنها أكثر تغلغلاً في اليومي، وأكثر قدرة على فرز المواطنين وفق قابلية كلّ منهم للامتثال. هكذا، بعد 4 عقود، يمكن القول إننا لم نخرج من النيوليبرالية، بل دخلنا عميقاً فيها من دون أن نقطع مع سلطوياتنا. لا خُصخصت الدولة تماماً، ولا حُرّرت السوق فعلياً، بل جرى بناء نموذج هجين، تتعايش فيه «الليبرالية» مع منطق الامتياز، ويتعايش فيه «الإصلاح» مع التفقير، و«النجاعة» مع الريع.
اليوم، ونحن أمام حصيلة 40 سنة من التحوّل التدريجي، تطرح علينا لحظة المراجعة سؤالاً وجودياً:
هل كان الانفتاح مشروعاً لتحرير الاقتصاد، أم استراتيجية لإعادة إنتاج الهيمنة؟ وهل يمكن فهم ما جرى كسياسات اقتصادية بحتة، أم كان إعادة تشكيل معمّقة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، طالت موقع الفرد، وشكل الفضاء، ومعنى الانتماء؟
الانفتاح الاقتصادي في تونس: مفارقات التحرير وخفايا الإخضاع
حين شرعت الدولة التونسية في تنفيذ أولى مراحل الانفتاح الاقتصادي منتصف الثمانينيات، بدا الأمر، في الظاهر، استجابة عقلانية لأزمة خانقة عصفت بأسس الدولة الوطنية. تراكم العجز التجاري، تنامي المديونية، تراجع النمو، انهيار الدينار وارتفاع نسب التضخم... كلها مؤشرات دفعت نحو البحث عن خلاص بدا، آنذاك، في شكل برنامج إصلاح هيكلي تحت إشراف صندوق النقد والبنك الدوليين. لكن ما قُدّم بوصفه «تحريراً» للسوق لم يكن سوى إعادة ترتيب عميقة لأدوار الدولة وموقعها في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، بل وأكثر من ذلك، كان تأطيراً جديداً للعلاقة بين الداخل والخارج.
كان خطاب المرحلة، منذ العام 1986، يقوم على مفردات ثلاث: الخصخصة، تقليص تدخل الدولة، والانفتاح على السوق العالمية. وتزامن ذلك مع ترويج مكثف لنموذج اقتصاد السوق كحل وحيد وناجع، مستلهماً من موجة النيوليبرالية التي اجتاحت العالم بعد صعود تاتشر وريغان وتراجع دولة الرفاه في أوروبا. غير أن تطبيق هذا النموذج في السياق التونسي لم يتم على قاعدة تكافؤ أو تحصين تدرّجي للنسيج المحلي، بل على وقع تفكيك انتقائي ومفارق لمؤسسات عمومية كانت تمثل إلى وقت قريب أذرع السيادة الاقتصادية: شركة الإسمنت بجبل الوسط، نزل «الكونتيننتال» و«الدولفين»، شركة ستيل ..الخ كلها أمثلة على ما شهدته الدولة من انسحاب مبرمج من القطاعات الإنتاجية والخدماتية لصالح رأس المال الخاص، من دون مراقبة أو تقييم فعلي للأثر الاجتماعي.
في الظاهر، كان ذلك تفكيكاً لبيروقراطية مكبّلة، وفي العمق، كان إعادة إنتاج لهندسة السلطة والامتيازات داخل الدولة، إذ انتقل مركز الثقل من القطاع العمومي إلى شبكات خاصة غالباً ما تكون قريبة من النظام السياسي. لم يكن الانفتاح حياداً للدولة، بل اصطفافاً جديداً، يضبط السوق على إيقاع تحالف المال بالسلطة. لم تكن الخصخصة نتيجة دراسة جدوى اقتصادية أو مطلباً شعبياً، بل تنفيذاً لشروط اتفاقات هيكلية رسمت ملامحها مؤسسات مالية دولية خارج أي إطار ديمقراطي.
وتتعمّق المفارقة حين نعلم أن الدولة التي انسحبت من دعم الخبز والمحروقات وتعليم الأطفال، ظلت في الوقت ذاته ضامنة لرأس المال، ميسرة لمناخ الأعمال، مفرطة في الإعفاءات الجبائية والهبات العقارية... إنها دولة الحدّ الأدنى فقط حين يتعلّق الأمر بالفئات الهشة، ودولة الحدّ الأقصى حين يتعلق الأمر بالمستثمرين المحليين والأجانب.
ثم جاء توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، ليكرّس تحوّلاً آخر أكثر بنيوية. فقد قُدّمت الاتفاقية بوصفها جسر عبور نحو الاقتصاد العالمي، ووسيلة للاندماج في الفضاء الأوروبي الذي يُمثّل 75% من الشريك التجاري لتونس. لكن الاتفاق، الذي نصّ على التفكيك التدريجي للرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية من دون حماية موازية للقطاعات المحلية، كشف عن خلل عميق في توازن القوى. بين 1996 و2004، أُغلقت أكثر من 1600 مؤسسة تونسية بسبب المنافسة غير المتكافئة، وتضاعف عجز الميزان التجاري الصناعي، فيما لم تتجاوز المساعدات الأوروبية – التي قُدّمت على أنها دعم للاندماج – حدود 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً. أصبحت تونس سوقاً مفتوحة للمنتجات الأوروبية ويداً عاملة منخفضة الكلفة، من دون تحوّل في البنية التكنولوجية أو الإنتاجية.
وفي خلفية هذا المسار، يتموضع سؤال السيادة. فبينما تم تفكيك السياسة الاقتصادية تحت يافطة «الإصلاح»، تم تهميش أي نقاش عمومي حول خيارات الدولة الكبرى. لم يُعرض اتفاق 1995 على البرلمان، ولم تُستشر النقابات أو الجامعات أو الهيئات المهنية. وأصبحت ملفات الاقتصاد «شأناً تقنياً» محصوراً بين الخبراء والوزراء، في مناخ تغيب عنه الشفافية ويهيمن عليه منطق الانصياع «للمعقول الدولي». وهنا تتجلى مفارقة أخرى: في الوقت الذي كانت الديمقراطية تتوسّع في الغرب، كانت الخيارات الاقتصادية في الجنوب تُدار بمنطق فوقي، وتحولت الدولة إلى جهاز تنفيذي لإملاءات الخارج، من دون أن تفقد في المقابل أدوات القمع الداخلي.
والأدهى أن الخطاب النيوليبرالي نفسه، الذي يروّج للشفافية والنجاعة والمحاسبة، لم يجد له مكاناً في تطبيقاته الواقعية. إذ تحولت الخصخصة إلى مزاد مغلق، وتوزيع الامتيازات إلى حقل للريع السياسي. لم تكن هناك منافسة حقيقية، بل إعادة تموقع للنخب داخل السوق، بينما تم عزل الكفاءات وتهميش المقاولات المحلية غير المرتبطة بالشبكات السلطوية. في هذا المشهد، لا يبدو غريباً أن تتضاعف نسب البطالة في الوسطين الداخلي والحدودي، أو أن يُقصى الاقتصاد التضامني والاجتماعي من السياسات العمومية، على الرغم من قدرته على خلق مواطن شغل ذات طابع محلي.
إن الانفتاح في تونس لم يكن خطأ في التقدير، بل كان جزءاً من منطق عالمي أعاد صياغة العلاقة بين الجنوب والشمال، بين الدولة والمجتمع، بين السوق والحق
أما على المستوى الرمزي، فقد تم ربط الانفتاح بالحداثة، وبقيم «العالم المتحضر»، في حين كانت مخرجاته تؤدي إلى تعميق الفوارق، وتفتيت الطبقة الوسطى، وترييف المدن، وتسليع الخدمات العامة. ما وُصف بأنه «تحرير» كان فعلياً هندسة لامتصاص الموارد ونقلها من الهامش إلى المركز – داخلياً وخارجياً – وهو ما يؤكد أن النيوليبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل منظومة اجتماعية كاملة تعيد رسم الحدود بين من يملك ومن يُقصى، بين من يُدرج ومن يُهمّش.
وفي المحصلة، يمكن القول إن الانفتاح في تونس لم يكن خطأ في التقدير، بل كان جزءاً من منطق عالمي أعاد صياغة العلاقة بين الجنوب والشمال، بين الدولة والمجتمع، بين السوق والحق. لكنه أيضاً كان مشروعاً لخلق خضوع جديد، أكثر مرونة، لكنه لا يقل تسلطاً، حيث تتراجع الدولة الاجتماعية لتُفسح المجال لـ «دولة السوق»، من دون أن تتخلّى عن سلطتها، بل تُعيد توجيهها نحو حماية النموذج، لا إصلاحه.
المدن التونسية في زمن الانفتاح: من فضاء النمو إلى مجال السيطرة
على مدار 40 سنة من الانفتاح الاقتصادي، تحولت المدن التونسية من فضاءات مزدهرة، أو على الأقل واعدة للنمو والتطور، إلى ساحات يعجُّ فيها التناقض والتمزق الاجتماعي، حيث تتلاقى مشاريع الدولة النيوليبرالية مع مقاومة السكان الذين يجدون أنفسهم خارج حسابات هذه السياسات. كانت مدن تونس الكبرى، من العاصمة إلى صفاقس وسوسة، شاهدة على تحول عميق في البنية الاجتماعية والترابية، حيث تلاقت إعادة هيكلة الاقتصاد مع نزوع الدولة إلى إعادة تموضعها في الفضاء الحضري، بما أنتج شرخاً متزايداً بين «المدن التجميلية» الموجهة للنخبة والطبقة الوسطى، والأحياء الشعبية التي لم تُعدْ سوى «فضاءات هامشية» يعمها الإهمال والتهميش. تكشف هذه المفارقة مركزاً عميقاً في فهم الانفتاح الاقتصادي الذي فرضته البرامج الهيكلية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، حيث أفضى تبني النيوليبرالية إلى إعادة تصنيف المدن إلى فئات متعددة حسب قدرتها على استقطاب الاستثمار ورؤوس الأموال، وهو ما يعكس تحوّلاً في دور الدولة من راعية جامعة إلى جهة مقصرة في تقديم الخدمات، بل وأحياناً مقيّدة لها. انسحاب الدولة من مهامها التقليدية في الإشراف على المؤسسات العمومية مثل شركات الإسمنت والفنادق السياحية، التي كانت من مفاتيح التنمية المحلية، لم يفضِ إلى تحرر اقتصادي كما يُفترض، بل إلى خلق أفرع من القطاع الخاص مرتبط بالمراكز الحضرية الكبرى، وإلى تأزيم العلاقة بين المدينة وسكانها الأصليين.
ففي المدن التونسية، لم يكن الانفتاح مجرد تمرير لمشاريع اقتصادية، بل كان إعادة تشكيل للنظام الحضري: «تقسيم ترابي» ينتج مناطق حصرية للنخب الاقتصادية والسياسية، وأخرى تُترك للانسحاب والتهميش. تشهد التجارب على ذلك في ظهور أحياء مغلقة (gated communities) تكتنفها إجراءات أمنية وحواجز، وهو ما يعكس ما وصفه الباحث مايك ديفيس بـ«الكوكب السكني المترهل» (Planet of Slums) حيث ينفصل الفضاء الحضرِي إلى معازل متباينة: وبين فخامة الأبراج الشاهقة التي تتباهى بها شركات التطوير العقاري، تتكدس الأحياء الشعبية التي اتسمت بتدهور البنى التحتية وغياب الخدمات الأساسية. تلك المدن «التجميلية» التي تم تصميمها وفق منطق «city branding» لم تكن سوى واجهات اقتصادية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية وخصوصاً الأوروبية، قبل أن يتجلى هذا التوجه في الشراكة غير المتوازنة مع الاتحاد الأوروبي في اتفاقية الشراكة التي وقّعتها تونس في العام 1995. هذه الاتفاقية، التي حوّلت السوق التونسية إلى سوق مفتوحة أمام البضائع الأوروبية، لم تكن فقط اتفاقية تجارة حرة بل كانت باباً لتعميق التبعية الاقتصادية وتحويل تونس إلى سوق استهلاكي لا منافس. أججّت هذه الدينامية حدة الانقسامات الاجتماعية داخل المدن، حيث وجدت النخب نفسها تزداد ترسيخاً داخل فضاءات مغلقة، بينما تكافح الطبقات الشعبية من أجل الوجود في فضاءات لم تعد الدولة تراها من أولوياتها.
في قلب هذه المدن، تتبلور تناقضات أخرى أكثر دقة تعبّر عنها طبيعة الصراعات الحضرية التي أشار إليها آصف بيّات، فبينما تبدو الاحتجاجات «صامتة» أو «هادئة» في ظاهرها، فإنها تعبّر عن معاناة يومية تتخذ أشكالاً متعددة: البناء الفوضوي، الاحتلال غير القانوني للأراضي، الأسواق العشوائية، كلها أشكال مقاومة «صغيرة» لسياسات إقصاء اجتماعي وتعليمي وصحي. تعبّر هذه «السياسات الصغرى» عن رفض المواطنين أن يتحولوا إلى مجرد أرقام في إحصائيات النمو الاقتصادي، بل إنها تحفر مناخاً من الاحتقان الاجتماعي يستدعي فهماً أعمق لتداخل السياسة مع التحولات الحضرية.
تأخذ هذه التحولات شكلاً مؤسسياً عبر عملية «إعادة تموضع الدولة» أو ما يسمّيه إريك دينيه وماريون سجور بـ«إعادة تمركز السلطة الحضرية» (state rescaling). فانسحاب الدولة من مهام الخدمات الاجتماعية والتهيئة الحضرية، وتحويل البلديات إلى أجهزة تنفيذية محدودة الصلاحيات، أدّى إلى تفكيك الرعاية الاجتماعية المباشرة، وفتح المجال أمام توسع دور القطاع الخاص والمجالس المحلية تحت ضغط التوجه النيوليبرالي. يُعيد هذا التفكيك من جهة رسم الفضاءات الحضرية عبر خلق مناطق مختلطة بين الثراء والفقر، لكنه من جهة أخرى يرسخ نموذجاً من «التمدن السلطوي» (authoritarian urbanism) حيث يتحول التخطيط العمراني إلى أداة للسيطرة وتقييد الحريات أكثر منه إلى أداة للتنمية الشاملة.
أما في البنية الاجتماعية، فقد أدت هذه السياسات إلى إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية داخل المدن، حيث تتحول الطبقة الوسطى إلى ضحية هذا «التمدن المتوحش» الذي حدّ من قدرتها على تملك المساكن أو البقاء في أماكنها الأصلية. في الوقت نفسه، يزداد تفاقم الفوارق الطبقية من خلال توظيف الفضاءات العمرانية في ترسيخ تقاليد التمييز الطبقي والجغرافي، ما يضاعف من حدة الاحتجاجات ويجعل المدن تونس مختبراً للنموذج النيوليبرالي الذي يعيد إنتاج التهميش بشكل ممنهج. هذه التناقضات ليست مجرّد انعكاس داخلي، بل هي جزء من شبكة علاقات اقتصادية وسياسية إقليمية ودولية تُعيد إنتاج التبعية في شكلها الحضري. فقد أوضح آدم هنيّة كيف أن النيوليبرالية في الخليج تكرس علاقات الطبقة والسلطة بما يخدم مركزية رأس المال، وهو المنطق نفسه الذي يسري على المدن التونسية، حيث تتحول التحولات الحضرية إلى مرآة لتداخل الديناميات الاقتصادية الإقليمية، وتجليات القوة التي تحكم توزيع الفضاء والموارد.
في النهاية، لم تعد المدن التونسية مجرد فضاءات للنمو، بل أصبحت ساحات لصراعات معقدة تجمع بين الدولة والمواطن، بين السوق والحق في المدينة، بين النخبة والمهمشين. هذا الميدان الذي تشكل فيه المقاومة اليومية تحت ضغط سياسات «الانفتاح»، يظهر بوضوح كيف أن الاقتصاد النيوليبرالي لم يحرر المدن، بل قيّدها بشبكات من السيطرة الجديدة، فكانت مدننا – على الرغم من جمال واجهاتها – مرآة لمجتمع لا يزال يبحث عن أدوات حرية حقيقية وسط خرائط تضييق متزايدة.
يزداد تفاقم الفوارق الطبقية من خلال توظيف الفضاءات العمرانية في ترسيخ تقاليد التمييز الطبقي والجغرافي، ما يضاعف من حدة الاحتجاجات ويجعل المدن تونس مختبراً للنموذج النيوليبرالي الذي يعيد إنتاج التهميش بشكل ممنهج
في قلب هذا التحول النيوليبرالي الذي عرفته تونس منذ منتصف الثمانينات، يتبدّى مشهد حضري متناقض تشكّله المفارقات الصارخة بين وعود التنمية والتحديث، وواقع التهميش ونزع التصنيع. فالسياسات التي قُدّمت تحت شعار «تحرير السوق» و«العقلنة الاقتصادية» لم تقتصر على تقليص دور الدولة أو خصخصة المؤسسات العمومية، بل أدّت إلى ضرب البنية الإنتاجية للمدينة التونسية. فبينما كانت الدولة الوطنية خلال الستينيات والسبعينيات تؤسس لمجتمع صناعي قائم على مزيج من السياسات الاجتماعية وتوفير الشغل (مع بروز أقطاب صناعية مثل صفاقس، قابس، بنزرت)، جاء برنامج التكييف الهيكلي ليقوّض هذه الطموحات، ويدفع باتجاه اقتصاد خدماتي هشّ، قائم على السياحة، والتجارة، والمالية، والأنشطة غير المهيكلة. هكذا، تحوّلت المدينة من فضاء إنتاجي إلى مسرح لتمثلات استهلاكية تعيد تشكيل علاقتها بالمجتمع والدولة.
ما يتجلى هنا هو مفارقة بنيوية: بينما كانت السياسات النيوليبرالية تعد بتعزيز النجاعة الاقتصادية، فإنها قادت إلى «ترييف حضري» بالمعنى الذي طرحه مايك ديفيس في Planet of Slums، حيث توسعت المدن أفقياً بشكل عشوائي، مع تصاعد البناء غير المنظم، وتدهور البنية التحتية، وفقدان الطبقة الوسطى لهويتها الإنتاجية. لم تعد المدينة تُمثّل مكاناً للعمل والتصنيع، بل أصبحت مجالاً للهشاشة والتفاوتات: من جهة، أحياء مغلقة ومشاريع عقارية فاخرة تحمل شعارات «التحديث» و«الانفتاح»، ومن جهة أخرى، أحياء مهمّشة لا تصلها شبكات الصرف الصحي ولا التخطيط الحضري، تتكثف فيها البطالة والتجارة غير النظامية وتغيب عنها الدولة. فقد استبدلت الدولة سياسة الاستثمار الصناعي بسياسات تجميل عمراني شكلية، مدفوعة بمنطق الـcity branding، تستهدف النخب والسياح أكثر من سكان الأحياء الشعبية.
في هذا الإطار، يبرز التناقض بين «المدينة النيوليبرالية» التي تُسوّق كمجال جذب استثماري، و«المدينة المتآكلة» التي تُهمل بوصفها عبئاً اجتماعياً. لقد ولّدت سياسات نزع التصنيع ما يسميه بعض الباحثين بـ«تفتت ترابي» (territorial fragmentation)، حيث تم تفكيك الوحدة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، وتحويلها إلى فسيفساء من الفضاءات المتباينة: بعضها يندمج في الاقتصاد العالمي من خلال المناطق الصناعية المُوجّهة للتصدير أو المركّبات التجارية الكبرى، والبعض الآخر يعيش على هامش الحواضر، ويُنتج يومياً أشكالاً من الاحتجاجات الصامتة والمعلنة كما وصفها آصف بيات بـ«التمدد الهادئ» (quiet encroachments).
ومن المفارقات اللافتة أن المدينة أصبحت أكثر اتساعاً وأقل نجاعة. فقد تضاعف عدد السكان في العاصمة تونس بين عامي 1984 و2014، من دون أن يترافق ذلك مع توسّع مُمَنهج في الخدمات أو خلق فرص عمل مُستدامة. بل إن استراتيجيات الدولة تحوّلت نحو تنظيم المعمار لا على أساس الحاجيات الاجتماعية، بل على أساس ما وصفه رامي ظاهر بـ«التمدن الاستبدادي» (authoritarian urbanism)، حيث يُوظّف التخطيط وسيلة للضبط والمراقبة لا للتنمية. فالمشاريع الكبرى مثل ضفاف البحيرة صُمّمت لتخدم منطق الجذب السياحي والاستثمارات الأجنبية، فيما تُركت الأحياء الشعبية لمصيرها.
وتتجلّى هذه المفارقات في البُعد الزمني كذلك: المدينة التي كانت مرآة لتحديث الدولة الوطنية في الستينيات، تحوّلت في زمن نزع التصنيع إلى مسرح يومي لإخفاقات السياسة النيوليبرالية. لا يعود الحي الشعبي اليوم مكاناً لتشكل الوعي العمّالي كما كان في العقود السابقة، بل يصبح مجالاً للنجاة الفردية، للبقاء، للأسواق الفوضوية، وللعنف الرمزي والمادي. وبهذا، فإن نزع التصنيع لم يكن مجرد تحوّل اقتصادي، بل عملية إعادة ترسيم للهياكل الطبقية والمدينية، تقود إلى ما يمكن تسميته بـ«التمدن غير التصنيعي»، حيث تنتفي شروط العمل المهيكل، وتُختزل المدينة إلى استهلاك بلا إنتاج، وإلى فردانية تفتقد للبنى الجماعية.
إن قراءة هذه التحولات لا تكتمل دون الربط بينها وبين السياق الدولي الأوسع، الذي يعيد إنتاج علاقة تبعية بين مدن الجنوب العالمي والمدن المهيمنة في الشمال. ففي حين تحتفظ هذه الأخيرة ببُناها التصنيعية أو تُعيد توطينها وفق منطق العولمة، تُحوّل مدن كالعاصمة التونسية إلى واجهات خدماتية، تُنتج الفوارق وتُعيد إنتاجها في الآن ذاته، في ما يشبه الاستعمار الاقتصادي الجديد. هكذا، تصير المدينة النيوليبرالية، كما حلّلها بارتيل وبلانيل، مشروعاً غير مكتمل: ميداناً للمراقبة، ومجالاً للفوارق، وأفقاً مسدوداً لمن وُعدوا باللحاق بالتنمية ولكنهم وُضعوا خارجها.
ردود الفعل والمقاومات
تمر تونس منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بسلسلة من تجارب نضالية متتابعة، بدءاً بأحداث كانون الثاني/يناير 1976 التي مثلت نقطة انطلاق رمزية في الاحتجاج العمالي في المدن الكبرى. لقد شكّلت تلك المرحلة بداية ظهور وعي طبقي جديد ومقاومة اجتماعية مستمرة، تمخضت لاحقاً عن انفجار احتجاجات الخبز في العام 1984، التي جاءت كرد فعل عنيف على تدهور الأوضاع الاقتصادية وسياسات التقشف. ثم اتسعت هذه الديناميات إلى انتفاضة الحوض المنجمي في العام 2008، لتبلغ ذروتها بالثورة الشعبية في 2011، التي شكّلت تحوّلاً جذرياً في علاقة الشعب بالدولة. غير أن ما يربط هذه المحطات التاريخية ليس فقط اللحظة العنيفة للانفجار الاجتماعي، بل تراكماً يومياً مستمراً لأشكال من المقاومة الصامتة أو الرمزية، التي تتجلى بشكل جلي في الهوامش الحضرية. هنا تظهر مفارقة أساسية: فهذه الأحياء التي خرجت تدريجياً من دائرة الاقتصاد الرسمي بفعل عقود من نزع التصنيع وتراجع الاستثمار العمومي، لم تعد مجرد مساحات للإقصاء، بل تحولت إلى مختبرات للحياة البديلة التي تتأرجح بين التمرّد والالتفاف على الدولة، وبين فضح هشاشتها والتعايش مع غيابها.
تكمن المفارقة الثانية في تأثير سياسات التعديل الهيكلي التي لم تكن مجرد تدابير اقتصادية، بل فعل تفكيكي لهياكل الدولة التنموية، ما أدى إلى تفريغ المدينة الصناعية من أدوارها التقليدية. وقد حلّت محل المصانع المغلقة أنشطة مؤقتة وهشّة، تمثلت في طبقات جديدة من «الفاعلين المؤقتين» كالباعة المتجولين، وسائقي الدراجات النارية، وسماسرة الشغل، والمقاولين الرقميين غير النظاميين. هذه الفئات من «الفاعلين المؤقتين» لا تتطابق مع تصنيفات الطبقة العاملة الكلاسيكية، لكنها أصبحت العمود الفقري لاقتصاد مديني غير مرئي، قائم على الاستفادة من الفراغ الذي تركه الاقتصاد الرسمي. ومع أن تفكك المدينة الصناعية أفرز انتعاشاً غير رسمي للتمدن، إلا أنه جاء على حساب تكريس عدم المساواة واللامساواة في الوصول إلى الخدمات والأمن الاقتصادي. فبينما تعزز النخب تمركزها في الأحياء المخدومة والمجالات المعولمة، تتحول الهوامش إلى فضاءات إنتاج حياة هشة، بلا ضمانات ولا أفق تنموي، حيث تتعايش الأنشطة غير القانونية مع التضامن المجتمعي، والعنف مع الإبداع، في سياق تتقاطع فيه غياب الدولة مع حضورها الأمني الرمزي. تكمن هنا مفارقة ثالثة: فالاقتصاد الموازي ليس مجرد رد فعل وظيفي للبطالة، بل تعبير عن رفض عميق لمنطق الإقصاء الاجتماعي، ومحاولة مشروطة لاستعادة الكرامة عبر العمل، مهما كان هشاً وغير مؤمن. على الرغم من التنظيم الضمني للشبكات الاجتماعية القائمة على الثقة والقرابة، تبقى هذه الأنشطة أسيرة الفضاء الحضري المعزول، الذي يعيد إنتاج أنماط الإقصاء من خلال ضعف البنية التحتية، وسوء توزيع الموارد، وتردي الخدمات.
هذه الفئات من «الفاعلين المؤقتين» لا تتطابق مع تصنيفات الطبقة العاملة الكلاسيكية، لكنها أصبحت العمود الفقري لاقتصاد مديني غير مرئي، قائم على الاستفادة من الفراغ الذي تركه الاقتصاد الرسمي
وأبعد من الاقتصاد الموازي، تكمن المقاومة في تفاصيل الحياة اليومية: في الكتابة على الجدران، وفي الرقصات الجماعية، وفي الأغاني التي تُبث من الدراجات النارية، وفي الجداريات التي توثق شهداء الثورة. تشكل هذه المقاومة الجمالية إعادة بناء للفضاء العام من الأسفل، ليست كمساحة للتظاهر فقط، بل كذاكرة يومية تعكس الألم والانتظار، الخسارة والصمود، ما يعكس رفضاً رمزياً عميقاً للهيمنة الاجتماعية والسياسية. ومع انسداد أفق الحراك الاجتماعي، وغياب السياسات العمومية الفعالة، تتحول الهجرة إلى أفق بديل يحمل في طياته رفضاً للواقع وإرادة في الانتقال إلى حياة خارج شروط البلد الأصل. وتكمن مفارقة إضافية في أن المهاجر، على الرغم من مغادرته، يظل مرتبطاً بالهوامش التي خرج منها، من خلال التحويلات المالية، وبناء المساكن، وسرديات النجاح التي تعزّز خيالاً نيوليبرالياً للاستهلاك والنجاح الفردي، على الرغم من غياب أُسس حقيقية لهذا النجاح في الواقع.
تعكس تلك المشاهد تحولات عميقة في العلاقة بين سكان الهوامش والمدينة والدولة، حيث تُعاد صياغة الحيز الحضري كفضاء للصراع اليومي على الوجود والكرامة، في غياب أدوار الدولة التقليدية. فالمدينة لم تعد مكاناً للاستقرار فقط، بل ميداناً للصراع الرمزي، يمارس فيه السكان أشكالاً غير نمطية من المواطنة، تتراوح بين الالتفاف، والطاعة الماكرة، والتحدي المباشر.
ختاماً، لا يمكن اختزال هذه الظواهر في مجرد انعكاسات لسياسات اقتصادية أو مؤشرات تنموية. فهي تعبير عن «السياسة من الأسفل»، حيث تمارس المواطنة عبر استراتيجيات معقدة للحياة اليومية، في سياق أزمة حضارية للمدينة التونسية، تحكمها قوى السوق بدلاً من معايير العدالة الاجتماعية. وعلى الرغم من كل ذلك، تستمر الحياة كمجابهة مستمرة، ليست للبقاء فقط، بل كفعل إنتاجي للمقاومة والهوية، ينتظر من يفهمها، لا من يتحدث باسمها.