
قانون المعاش التقاعدي في لبنان: حالة الانتظار الطويلة
عندما صدر المرسوم الاشتراعي الرامي إلى إنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في العام 1963، نصّ على اعتماد نظام تعويض نهاية الخدمة كإجراء مؤقت إلى حين إقرار تشريع نظام المعاش التقاعدي. ولكن استمرّ النظام المؤقّت لمدّة 62 عاماً حتى الآن، ولم يبدأ مجلس النواب بمناقشة النظام الدائم إلا في العام 2000، أي بعد 37 سنة من إنشاء الصندوق، واستغرقت مناقشات عدد من مشاريع واقتراحات القوانين للانتقال إلى نظام المعاش التقاعدي نحو 23 عاماً، إلى حين أقرّ مجلس النواب قانون التقاعد والحماية الاجتماعية في نهاية العام 2023. ومنذ ذلك الحين، دخل القانون الجديد فترة انتظار إضافية، أو تعطيل متواصل، بسبب امتناع الحكومة عن وضع وإقرار المراسيم التطبيقية التي يشترطها القانون لنفاذه.
على مدى العقود الماضية، شكّل مطلب الانتقال من نظام تعويض نهاية الخدمة إلى نظام المعاش التقاعدي للعمّال والعاملات في القطاع الخاص مطلباً رئيساً من مطالب الحركة العمّالية اللبنانية، بالنظر إلى الإجحاف الشديد الذي انطوى عليه هذا النظام المؤقت. وفضلاً عن أن أكثرية العمّال والعاملات مكتومين من قبل أصحاب العمل والشركات ولا يتم التصريح كلياً أو جزئياً عن أجورهم لدى صندوق الضمان، وبالتالي يجري حرمانهم من تعويضاتهم، يتقاضى المضمونين منهم تعويضات هزيلة في نهاية خدمتهم، تُحتسب على قاعدة أجر شهر واحد عن كلّ سنة خدمة ووفق قيمة الأجر المصرّح عنه، وتُدفع دفعة واحدة عند تصفية حقوق المضمون وإنهاء علاقته مع صندوق الضمان، بما في ذلك التغطية الصحيّة، في أكثر مرحلة من حياة الإنسان يحتاج فيها إلى الحماية الاجتماعية والصحية، وهي مرحلة التقاعد.
وفق البيانات الصادرة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في العام 2018، عشية انهيار سعر صرف الليرة الثابت، كان متوسط قيمة التعويض لا يتجاوز 15 ألف دولار، علماً أن أكثرية المضمونين كانت تعويضاتهم تقلّ عن 10 آلاف دولار، ولم يكن هذا المبلغ المقطوع يغطّي كلفة عملية جراحية أو حالة استشفائية واحدة قد يضطر المتقاعد لإجرائها. بعد العام 2019، انهارت قيمة تعويضات نهاية الخدمة كلّياً مع انهيار العملة بنسبة 98%، ولم يعد متوسط قيمة التعويض تساوي أكثر من 10% مما كانت عليه في العام 2018.
انهارت قيمة تعويضات نهاية الخدمة كلّياً مع انهيار العملة بنسبة 98%، ولم يعد متوسط قيمة التعويض تساوي أكثر من 10% مما كانت عليه في العام 2018
يعتقد رئيس الديوان والمدير المالي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي شوقي بو ناصيف أن هذا الانهيار شكّل عامل ضغط من أجل إقرار قانون التقاعد والحماية الاجتماعية بعد انتظار طويل جدّاً، ولكن جرى ترحيل القضايا الخلافية التي كانت من أسباب عرقلته سابقاً إلى المراسيم التطبيقية، التي يجب على الحكومة إقرارها ليصبح القانون نافذاً. وقد نصّت المادة 12 من القانون على أن «يستمر العمل في فرع تعويض نهاية الخدمة بأحكامه كافة المنصوص عليها في قانون الضمان الاجتماعي لحين الانتهاء من إقرار الـمراسيم كافة ووضع هذا النظام موضع التنفيذ الفعلي».
تحت إدارة الصندوق
بانتظار صدور المراسيم العتيدة، حسم القانون الجديد الخلافات في شأن الجهة المسؤولة عن إدارة صندوق المعاش التقاعدي، وتقرّر إبقاء هذا الفرع تحت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بعد اشتراط إجراء تعديلات على إدارة وحوكمة الصندوق، فأقرّ تخفيض عدد أعضاء مجلس الإدارة من 26 عضواً إلى 10 أعضاء. ووُضعت شروط خاصة لعضوية مجلس الإدارة. كذلك أنشأ القانون لجنة استثمارات بصلاحيات أوسع من اللجنة المالية الحالية، وفرض إطلاق عملية مكننة لتطوير مؤسّسة الضمان الاجتماعي.
والأهم، حسم القانون الجديد طبيعة النظام التقاعدي في القطاع الخاص، عبر الدمج الانتقائي بين النظام الترسملي (الاشتراكات) والتظام التوزيعي (مساهمة الدولة والحد الأدنى المضمون للمعاش)، ووفقاً لبو ناصيف، فإن الجمع بين النظامين الترسملي والتوزيعي ليس نظاماً فريداً بل موجود في دول عدّة وإن كانت قليلة.
على مدى نصف قرن، كان النقابيون والخبراء المستقلّون يطالبون بإنشاء صندوق مالي منفصل عن صندوق الضمان الصحّي لإدارة أموال معاشات التقاعد، ولا سيما أن التجربة حتى الآن التي جمعت صناديق المرض والأمومة والتعويضات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة في مؤسّسة واحدة وتحت إدارة واحدة، سمحت بوضع اليد على أموال المضمونين لتمويل الحكومة (توظيفها في سندات الخزينة) وتمويل العجوزات في صندوق المرض والأمومة لتغطية تهرّب الحكومة من تسديد مستحقات الصندوق المترتبة عليها وتغطية تخفيض الاشتراكات المترتبة على أصحاب العمل والشركات وتمكينهم من التهرّب من تسديد هذه الاشتراكات.
نجحت القوى السياسية والاقتصادية المسيطرة باستبعاد كل المطالب بإقرار «الأجر الاجتماعي» لجميع اللبنانيين المقيمين في لبنان
وكذلك، نجحت القوى السياسية والاقتصادية المسيطرة باستبعاد كل المطالب بإقرار «الأجر الاجتماعي» لجميع اللبنانيين المقيمين في لبنان، عبر اعتماد النظام التوزيعي المموّل من الضرائب والرسوم لتوفير تغطية صحية أساسية شاملة وضمان شيخوخة (المعاش التقاعدي ضمناً).
حسابات المشتركين افتراضية
وفق القانون الجديد، يتكوّن حساب صندوق التقاعد والحماية الاجتماعية من الأموال التي ستنتقل إليه من صندوق تعويض نهاية الخدمة، ومن تدفّق الاشتراكات المفروضة على أصحاب العمل والعمّال. وتشكّل هذه الأموال محفظة استثمارية تعود على الصندوق بإيرادات مالية تدخل في حساب الصندوق. أما بالنسبة إلى المشتركين فليس لديهم حسابات خاصّة فعلية في الصندوق بل يجري افتراض وجود حساب يتيح للمستفيد تقدير قيمة المعاش التقاعدي الذي سيحصل عليه.
ويتألّف الحساب الافتراضي من رصيد تعويض نهاية الخدمة المحوّل إلى نظام التقاعد، ومن الاشتراكات المفروضة والتي سيجري تحديدها لاحقاً بموجب مرسوم، بالإضافة إلى زيادة سنوية تتماشى مع زيادة متوسّط مداخيل المشتركين.
وترتبط الزيادة وفق بو ناصيف بوجود عوائد استثمارية. أي أنه في حال شهد متوسط الأجور زيادة معيّنة ولكن لم يجرِ تحقيق عوائد استثمارية في خلال السنة نفسها، فإن الزيادة في متوسط الأجور لن تضاف على الحساب الافتراضي للمستفيد. كذلك لن يضاف على الأجور أي زيادة في حال بقي متوسّط الأجور على حاله أو حتى لو حقّقت الاستثمارات أرباحاً.
كيف يتم احتساب التعويض؟
يجري الضمان 3 عمليات حسابية لتقييم التعويض ويستفيد المشترك من الأجر الأعلى.
العملية الحسابية الأولى، وفقاً لبو ناصيف، ترسملية بالكامل، ويستفيد منها أصحاب المداخيل العالية على العكس من طريقتي الاحتساب الباقيتين. وهي مجموع الاشتراكات التي جمعها المستفيد من الاشتراكات، بالإضافة إلى الزيادة السنوية لمتوسط الأجور، ويتم تقسيمها على عامل التحويل. ويتحدّد عامل التحويل بناء على عملية حسابية مبنية على طرق تقنية مدرجة في سياسة تمويل الصندوق يدخل ضمنها العمر بتاريخ التقاعد، أو العجز، أو الوفاة، والفهرسة المستقبلية للمعاش التقاعدي بناءً على التطوّر المتوقع لمؤشر أسعار الاستهلاك، والعمر المتوقع، ووجود خلفاء للـمضمون عند التقاعد.
في حال شهد متوسط الأجور زيادة معيّنة ولكن لم يجرِ تحقيق عوائد استثمارية في خلال السنة نفسها، فإن الزيادة في متوسط الأجور لن تضاف على الحساب الافتراضي للمستفيد
الطريقة الثانية للاحتساب يستفيد منها أصحاب المداخيل المتوسطة، عبر عمليتين حسابيتين الأولى يتم ضرب عدد سنوات الخدمة بـ1.33، ومن ثم يتم احتساب متوسط الأجر في خلال عدد سنوات الخدمة ليكون المعاش التقاعدي هو النسبة المئوية لمتوسط الدخل الناتجة عن العملية الحسابية الأولى، على سبيل المثال، إذا افترضنا أن مدة العمل هي 30 عاماً، تكون النتيجة: 30x1.33 = 39.9%. وبالتالي إذا كان متوسط الدخل خلال هذه السنوات الثلاثين، 500 دولار أميركي تصبح قيمة المعاش التقاعدي 39.9% من قيمة متوسط الأجر أي 199.5 دولار أميركي.
من المهم الاشارة هنا إلى أن الحد الأقصى للاحتساب هو 30 سنة خدمة أي أن سنوات العمل التي تزيد عن 30 لا يجري احتسابها
طريقة الاحتساب الثالثة، وهي ضمانة الحد الأدنى للمعاش التقاعدي، التي حدّدت بنسبة تتراوح بين 55% و80% من الحد الأدنى للأجور بتاريخ استحقاق المعاش التقاعدي. وسيحصل من قضى 15 عاماً خدمة مصرّح عنها لدى الصندوق على 55% من قيمة الحد الادنى المقرّ عند استحقاق المعاش التقاعدي. وعلى سبيل المثال لو كان الحد الأدنى يساوي 100 دولار أميركي، فإن من قضى 15 سنة يحصل على 55 دولاراً شهرياً، وتزداد هذه النسبة 1.75% عن كل سنة اشتراك، أي أن من يعمل 20 سنة يحصل على 55% + (5x1.75) لتساوي 63.75%، أو ما يعادل 63.75 دولاراً أميركياً. وبذلك فإن الذي سيحصل على 80% من الحد الادنى للأجور يفترض به أن يكون قد عمل 29.2 عاماً، ليحصل على معاش تقاعدي قيمته 80 دولاراً أميركياً.
عقبات أمام التنفيذ
القانون الذي احتاج 60 عاماً لإقراره لا يزال غير عادل، فضلاً عن أنه غير نافذ، بانتظار إقرار مجموعة من المراسيم ليصبح تطبيقه ممكناً، وبالنسبة إلى بو ناصيف هناك 3 مراسيم أساسية يشكّل إقرارها شرطاً لانطلاق عمل صندوق معاش التقاعد. وهي المراسيم المتعلقة بإنشاء لجنة الاستثمار وجهازها التنفيذي، والمرسوم التطبيقي، ومرسوم تحديد الاشتراكات.
التحدّي الأساسي أمام الحكومة الجديدة هو في اقرار المرسوم التطبيقي، إذ يحدّد كيفية انتقال الأموال من صندوق تعويض نهاية الخدمة إلى صندوق التقاعد ويطرح معه إشكالية مبالغ التسوية
التحدّي الأساسي أمام الحكومة الجديدة هو في اقرار المرسوم التطبيقي، إذ يحدّد كيفية انتقال الأموال من صندوق تعويض نهاية الخدمة إلى صندوق التقاعد ويطرح معه إشكالية مبالغ التسوية.
معضلة مبالغ التسوية
وفق قانون تعويض نهاية الخدمة الحالي، تساوي قيمة التعويض قيمة الأجر الأخير عن كل سنة خدمة. وفي حين يكون الأجر الأخير هو الأجر الأعلى، فإن تسديد قيمة التعويض وفق القانون تستوجب إجراء تسوية بين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وبين أصحاب العمل تلزم الأخيرين بدفع الفرق بين ما تم جمعه في خلال سنوات الخدمة وبين قيمة التعويض المستحقة. وبحسب بو ناصيف تشكّل مبالغ التسوية 90% من تعويضات نهاية الخدمة.
وفي حال أقر مرسوم نقل أموال تعويضات نهاية الخدمة إلى صندوق التقاعد من دون إضافة مبالغ التسوية، فإن ذلك يعني خسارة المشتركين جزءاً أساسياً من مكتسباتهم، وسيقلص من متوسط أجورهم عند احتساب معاشاتهم التقاعدية. ويدفع أصحاب العمل بشدة إلى عدم إدراج هذه المبالغ في المرسوم التطبيقي، وعلى الرغم من أن ديباجة القانون (الأسباب الموجبة) تشير إلى أن قانون التقاعد والحماية الاجتماعية يوفر على أصحاب العمل مبالغ التسوية «الباهظة»، يعتبر بو ناصيف أن القانون سيرفع أعباء مبالغ التسوية عن أصحاب العمل من بعد إقرار النظام وليس في خلال الانتقال من تعويض نهاية الخدمة إلى المعاش التقاعدي. ويؤكد على ضرورة احتساب مبالغ التسوية مستنداَ إلى المادة (54-6) من القانون، الذي ينص على أنه «يجب تضمين المرسوم التطبيقي جميع الأحكام الانتقالية المتعلقة بمعالجة وتصفية الحقوق المكتسبة للأجراء بموجب نظام تعويض نهاية الخدمة»، معتبراً أن مبالغ التسوية هي جزء من الحقوق المكتسبة للعاملين.
تحديد الاشتراكات
أما بالنسبة إلى مرسوم تحديد الاشتراكات فإن نجاح النظام يفترض أن ترتفع قيمة الاشتراكات من 8.5% في نظام تعويض نهاية الخدمة الحالي إلى 16% من الأجر المصرح عنه للضمان في نظام المعاش التقاعدي. وكان أصحاب العمل يدفعون هذه الاشتراكات بالكامل مهما بلغت قيمة الأجر. في حين أن التعديلات الجديدة ستحدد سقف الإشتراك بـ5 أضعاف متوسط الأجر وفقاً لبو ناصيف.
في حال أقر مرسوم نقل أموال تعويضات نهاية الخدمة إلى صندوق التقاعد من دون إضافة مبالغ التسوية، فإن ذلك يعني خسارة المشتركين جزءاً أساسياً من مكتسباتهم، وسيقلص من متوسط أجورهم عند احتساب معاشاتهم التقاعدية
ويسعى أصحاب العمل إلى توزيع الـ8% المتوقع زيادتها بينهم وبين العمّال بالتساوي. وهذا سيطيح بأهم حق للعمّال، وهو الحق بالأجر، إذ أن فرض مساهمة العمّال بنسبة عالية لتمويل أجورهم التقاعدية ستكون له آثار جسيمة على إعادة توزيع الدخل.
هذه المراسيم الثلاثة هي المراسيم الأكثر تعقيداً وحساسية بين المراسيم الواجب إقرارها ويبلغ عددها حوالي 13 مرسوماً. والتي أقرّ منها مرسوماً واحداً فقط، هو مرسوم تحديد الهيئات الأكثر تمثيلاً لمجلس إدارة الضمان، فيما ينتظر مرسوم تحديد مواصفات وخبرات أعضاء المجلس الموافقة عليه من مجلس الخدمة المدنية ليسلك مساره إلى النور. وما زالت مراسيم كثيرة غير معدّة على الإطلاق كالمرسوم الخاص بالعمال في الأعمال المرهقة، بالإضافة إلى المراسيم المتعلقة بدرجات الدخل ولائحة الأطباء الاختصاصيين ومراسيم تعيين أعضاء مجلس الإدارة ومقدار تعويضاتهم.