صندوق الثروة السيادي في بلدٍ مفلسٍ
التشريع الذي لا تُحتمل خفّته
- يؤدّي القانون المُقترح لإنشاء الصندوق السيادي وظيفة مزدوجة: الأولى هي سياسية-إعلامية، وتندرج ضمن استراتيجية إنكار الأزمة والتلهّي عنها، ورفض تحمّل أدنى مسؤولية تجاهها، والهروب إلى الأمام عبر التمسّك بأسطورة تزعم خلاص لبنان من خلال النفط والغاز.
- الوظيفة الثانية، وهي الأكثر واقعية، فتقضي باحتفاظ السلطة بإمكانية استخدام الأصول العامة المُفترضة، إنّما تحت غطاء بنية وإدارة مستقلّة، ما يحرّرها من الالتزام بقواعد إدارة المالية العامة، بدءاً من وضع رؤية للاقتصاد الكلي، تُخصّص الموارد الوطنية على أساسها.
لقراءة تعليقات أندرو باور، الخبير في الصناديق السيادية، أنقر/ي هنا
تعليقات الخبير في الصناديق السيادية أندرو باور
ما يفتقر إليه لبنان حقّاً هو الإنفاق العام
«لن أخاطر حتى بإجراء أي تقدير». بهذا الحزم ختم الخبير المالي أندرو باور تعليقاته على مشروع القانون اللبناني لإنشاء صندوق سيادي لإيرادات الغاز والنفط. يقول إن «آفاق إنتاج النفط في لبنان تصرِف الناس عن القضايا الحقيقية المُتمثلة في ملاءة القطاع المالي وسوء الإدارة الاقتصادية. والحقيقة أنّنا لا نعرف كيف سيكون شكل الاقتصاد اللبناني بعد عشر سنوات، ولا حجم ناتجه المحلّي الإجمالي، ولا احتياجاته. لا نملك أدنى فكرة عن حجم عائدات النفط التي قد يحصل عليها لبنان واحتياجاته المحلّية الملحّة من الطاقة». لذلك «قد يكون قانون الصندوق السيادي ضرورياً قبل بدء الإنتاج في الحالة اللبنانية، من أجل منع تحويل عائدات النفط المُحتملة نحو مسارب تخدم الفساد والزبائنية السياسية. ولكن لا توجد حالة طوارئ تشريعية (...) وعلى الجهود البرلمانية أن تركّز على معالجة الأزمة الراهنة، قبل التفكير بكيفيّة استخدام عائدات النفط والغاز المُفترض الحصول عليها بعد عقدٍ من الآن».
أندرو باور هو خبير في مجال الإدارة المالية العامة، وحوكمة المؤسّسات المملوكة للدولة وصناديق الثروة السيادية، وفي مجال تنظيم قطاع التعدين والبترول. قدّم خدمات استشارية وتدريبية في العديد من البلدان منها لبنان. وجّهنا إليه أسئلتنا عبر البريد الإلكتروني، وكانت هذه الأجوبة:
ضروري ولكن غير مُستعجل
هل إنشاء صندوق سيادي للثروة قبل وجود أي اكتشاف تجاري يتماشى مع الممارسات الجيّدة؟
ثمّة أسباب معيّنة تفرض إنشاء صناديق للثروة السيادية قبل بدء تدفّق عائدات النفط والغاز إلى خزائن الدولة، خصوصاً أن أحداً لا يرغب بالوصول إلى وضع يقضي بإنشاء صندوق سيادي على عجل بمجرّد العثور على اكتشاف كبير، بما يؤدّي إلى تخصيص عائدات النفط لتغذية الزبائنية وخدمة مصلحة السياسيين الشخصية.
يكمن التحدّي الأساسي بعدم معرفة حجم الأموال المُنتظَرة الا بعد أن تبدأ عائدات النفط بالتدفّق. وفي كثيرٍ من الأحيان تُعدَّل القوانين التي تُنشِئ صناديق الثروة السيادية، عندما تبدأ الأموال في رفد خزائن الدولة. عملياً، جميع البلدان التي لديها قوانين لصناديق الثروة السيادية تعدّلها بمرور الوقت لتكييفها مع احتياجاتها. ومع ذلك، من النادر جدّاً سنّ قوانين لصندوق الثروة السيادية قبل العثور على اكتشاف تجاري. سورينام هي مثالٌ على ذلك، ولكن بمجرّد العثور على اكتشاف نفطي فيها، تعدَّل القانون بالكامل. أمّا في غيانا فقد تمّ إقرار القانون قبل سنتين أو ثلاث سنوات من بدء الإنتاج، ولكن بعد العثور على اكتشاف تجاري.
على أية حال، قد يكون قانون الصندوق السيادي ضرورياً قبل بدء الإنتاج في الحالة اللبنانية من أجل منع تحويل عائدات النفط المُحتملة نحو مسارب تخدم الفساد والزبائنية السياسية. مع ذلك، لن تتحقّق هذه الإيرادات إلّا قبل عقدٍ من الآن تقريباً، وبالتالي لا توجد حالة طوارئ تشريعية. المهمّ هو أن يكون القانون منطقياً ومناسباً لسياق الاقتصاد الكلّي للبلاد، وأن يحترم المبادئ السارية على صناديق الثروة السيادية لا سيّما فيما يتعلّق بالشفافية والتدقيق الخارجي.أحدٌ لا يرغب بالوصول إلى وضع يقضي بإنشاء صندوق سيادي على عجل بمجرّد العثور على اكتشاف كبير، بما يؤدّي إلى تخصيص عائدات النفط لتغذية الزبائنية وخدمة مصلحة السياسيين الشخصية
هل تعتقد أن مشروع القانون المعروض أمام البرلمان يلبِّي احتياجات لبنان الاقتصادية الكلِّية؟
كما نعلم جميعاً، يمرُّ لبنان بأزمة مالية واقتصادية وأزمة ديون عميقة. ومن غير المنطقي ادخار أموال النفط واستثمارها في أصول خارجية في بلدٍ مثقل بالديون ويحتاج إلى التنمية. يجب أن تنصبَّ الجهود البرلمانية على معالجة هذه القضايا والإشكاليّات، لا على عائدات النفط والغاز المُحتمل تدفّقها بعد عقدٍ من الآن.
صلاحيّات غامضة للغاية
ما رأيك بالقواعد المتعلّقة بتخصيص الأموال في المحفظتين اللتين يتكوَّن منهما الصندوق في لبنان؟
هناك صناديق تكون قوانين الاستثمار مُفصّلة للغاية فيها، مثل غانا وغيانا وتيمور الشرقية وكولومبيا والمكسيك. في النروج، هذه التفاصيل منصوص عنها في الأنظمة والقوانين. أمّا في منطقة الخليج - المحكومة من عائلات أو نخب ملكية صغيرة - لا تتضمّن القوانين الكثير من هذه التفاصيل. يأتي مشروع القانون اللبناني مستوحى من النماذج الأخيرة ولا تنطبق عليه الممارسات العالمية الفضلى.
تبدو محفظة الادخار والاستثمار أشبه بصندوق ادّخار تقليدي. هناك محدودية في أنواع الأصول التي يمكن الاستثمار فيها، مع إشارة فضفاضة إلى استثمار 75% منها في أصول خارجية من دون أي توضيح أو إشارة إلى ماهية هذه الأصول. وهذا يعني أيضاً أنه يمكن استثمار 25% من هذه العائدات في أسهم الشركات اللبنانية والدين اللبناني. أما صلاحيّات الاستثمار المُدرجة في محفظة التنمية فهي غامضة للغاية. نظرياً، من الممكن أن تكون مفيدة وأن تساهم في تلبية الاحتياجات التمويلية للشركات اللبنانية... لكن في بلدان أخرى مثل روسيا وأذربيجان وكازاخستان والمملكة العربية السعودية، خُصِّصت الأموال لتلبية معايير سياسية بدلاً من معايير مالية. وبالتالي، ما لم تكن هناك رقابة قويّة وشروط قانونية صارمة للاستثمار وفق أسس مالية بحتة، فهناك احتمال كبير أن تخدم هذه الأموال شبكات المحسوبية والزبائنية.في منطقة الخليج - المحكومة من عائلات أو نخب ملكية صغيرة - لا تتضمّن القوانين الكثير من هذه التفاصيل. يأتي مشروع القانون اللبناني مستوحى من النماذج الأخيرة ولا تنطبق عليه الممارسات العالمية الفضلى
بحسب قراءتك لقواعد الاستثمار والسحب من الصندوق، ما هي قيمة الأموال التي قد تنتهي بتسديد الدين العام؟
يمكن استخدام ما يصل إلى ثلث قيمة أصول محفظة التنمية لتمويل الميزانية، بما فيها تخفيض الديون، لأن الأموال مترابطة وقابلة للاستبدال.
هل ينطوي القانون على أي مخاطر تشجّع المحسوبيَّات أو الفساد؟
إن وجود قواعد استثمار وقيود مشدّدة على تخصيص الأصول من شأنها تقليل المخاطر. مع ذلك، تعدُّ البنود المرتبطة بالرقابة والشفافية بالأهمّية نفسها. يجب التبليغ عن كلّ الأصول المملوكة للصناديق كما هو الحال في ألاسكا، ويجب أن يكون هناك تدقيق خارجي مناسب. وهذان العنصران غير مُدرجين في القانون المقترح للبنان.
ما يفتقر إليه لبنان حقّاً
لماذا تعتقد أن الصندوق المُخصَّص هو الحل الأنسب للبنان؟
تنشئ الصناديق لأغراض مختلفة. هناك صناديق ادّخارية للدول التي تتمتّع بإيرادات نفطية هائلة للفرد وفوائض مالية كبيرة ومستويات مديونية عامّة منخفضة مثل الكويت أو قطر أو النروج. وهناك بلدان تكون عائدات النفط فيها ضخمة إلى حدّ يخلق حالة من عدم الاستقرار الكلّي مثل كازاخستان أو المكسيك، بحيث يصبح إنشاء صندوق لتحقيق الاستقرار أمراً منطقياً. وهناك بلدان لا يتمتّع القطاع الخاص فيها بالقدرة الكافية على الوصول إلى التمويل وتكون أسواقها المالية متخلّفة، بحيث يكون إنشاء صندوق استثمار استراتيجي منطقياً مثل نيجيريا والسنغال.
لا ينطبق على لبنان أي من هذه المعايير. ما يفتقر إليه لبنان حقاً هو الإنفاق العام على الخدمات العامة الأساسية، مثل إدارة النفايات والنقل العام والطاقة المتجددة. لذلك، فإن الاستخدام الأمثل لأموال النفط سيكون من خلال صندوق مُخصَّص. مع ذلك، من السابق لأوانه أن تحدَّد اليوم احتياجات لبنان في العقد المقبل.ما يفتقر إليه لبنان حقاً هو الإنفاق العام على الخدمات العامة الأساسية، مثل إدارة النفايات والنقل العام والطاقة المتجددة. لذلك، فإن الاستخدام الأمثل لأموال النفط سيكون من خلال صندوق مُخصَّص
هل ينطبق على لبنان ما تسمّيه بـ«لعنة الموارد الأولية»؟
نعم. قد يشكّل لبنان حالة دراسية لظاهرة لعنة الموارد الأولية. فهو مكان تتجاوز فيه التوقّعات الواقع بكثير، وآفاق إنتاج النفط تصرِف الناس عن القضايا الحقيقية المُتمثلة في ملاءة القطاع المالي وسوء الإدارة الاقتصادية. والحقيقة أنّنا لا نعرف كيف سيكون شكل الاقتصاد اللبناني بعد عشر سنوات، ولا حجم ناتجه المحلّي الإجمالي، ولا احتياجاته. لا نملك أدنى فكرة عن حجم عائدات النفط التي قد يحصل عليها لبنان واحتياجاته المحلّية الملحّة من الطاقة. لذلك لن أخاطر حتى بإجراء أي تقدير.
في خلال المؤتمر الصحافي الذي أُعلِن فيه اقتراح قانون يقضي بإنشاء صندوق سيادي لإيرادات النفط، ادّعى النائب إبراهيم كنعان أن هذا الاقتراح هو «شمعة في النفق المُظلم» الذي يمرّ عبره لبنان. هل هو كذلك حقّاً؟
في سياق التحوّل الاجتماعي والسياسي المستمرّ منذ الانهيار الاقتصادي المالي في العام 2019، يأتي اقتراح القانون الخاصّ بإنشاء صندوق سيادي مُنفصلاً عن أولويات لبنان، لا سيّما أنه لم يثبُت حتّى الآن وجود كمّيات تجارية من الغاز في مياهه الاقتصادية. لقد رست باخرة TransOcean Barents عند نقطة الحفر في البلوك رقم 9 في 16 آب/أغسطس. ومن المتوقّع أن تستغرق مرحلة الاستكشاف وتحليل نتائجها بضعة أشهر. وفي حال تبيَّن وجود كمّيات تجارية، فلن يدخل دولار واحد إلى حسابات الدولة اللبنانية قبل سنوات عدّة، مع العلم أن احتمال تخصيص هذه الاستكشافات الغازية لتلبية احتياجات الطاقة المحلّية كبير جدّاً، وهذا يترك هامشاً ضئيلاً لتصدير النفط والغاز المُسكتشف.
لن يدخل دولار واحد إلى حسابات الدولة اللبنانية قبل سنوات عدّة، مع العلم أن احتمال تخصيص هذه الاستكشافات الغازية لتلبية احتياجات الطاقة المحلّية كبير جدّاً، وهذا يترك هامشاً ضئيلاً لتصدير النفط والغاز المُسكتشف
في ظل هذه الظروف، كيف نفسِّر السمة المُلحّة المنسوبة لهذا النصّ القانوني، الذي لم يمرّ عبر اللجان المشتركة حتّى، واقترحه نوّاب في البرلمان وليس الحكومة؟ يزعم رئيس لجنة المال والموازنة النيابية، إبراهيم كنعان، إن النوايا حسنة، موضحاً أن اللجنة استشارت خبيراً نروجياً في خلال مداولاتها التي عقدت كالعادة خلف الأبواب المُغلقة. تشتهر النروج بتصدّرها قائمة أكبر 10 صناديق سيادية في العالم، وتعدُّ نموذجاً في قواعد حوكمة هذه الصناديق واستقلالها. وقد استخدم إبراهيم كنعان هذه النقطة كحجّة رئيسة، للإشادة بـ«استقلالية» الصندوق اللبناني، إذ ينصّ اقتراح القانون المطروح على إنشاء «مؤسّسة عامة ذات طابع خاص، لا تخضع لقواعد الإدارة وتسيير الأعمال والرقابة التي تخضع لها مؤسّسات القطاع العام، وتتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري وأوسع الصلاحيّات في صياغة تفويض الاستثمار». وبما أن إسكات المُشكِّكين بقدرة السلطة على الامتناع عن التدخّل وممارسة المحسوبية ضروري، يحدّد نص الاقتراح (المادة 5) أن مجلس إدارة الصندوق، «يتألّف من ثمانية لبنانيين من ذي الخبرة»، سيتم تعيينهم «بموجب امتحان تجريه شركة توظيف دولية مُتخصّصة». يثير هذا البند سخرية القانونين ودهشتهم في آنٍ، فهو لا يفصّل شروط هذا الامتحان حتّى. أيضاً لم يتخلَّ المُشرِّع عن عاداته السيّئة، إذ تقترح المادة 23 من اقتراح القانون تمويل هذه الإدارة المُستقلّة من خلال «سلفة خزينة» إلى حين تمكّنها من تمويل ميزانيتها الخاصّة، في حين لا يوجد أي تقييم لتكلفة الإدارة الجديدة التي ستبقى من دون مسؤوليّات لسنوات.
لكن هذا ليس الجزء الأسوأ. جوهر المشكلة هو عدم وجود أي إجابة على المسائل الأساسية: كيف سيخدم الصندوق السيادي الاقتصاد والمجتمع في لبنان؟ إذ تحت عنوان «هدف الصندوق»، تنصّ المادة 5 على أن «يتولّى الصندوق إدارة الأموال المُحصّلة من الدولة من وارادات الأنشطة البترولية» فقط لا غير، من دون ذكر أي تفصيل أو معلومة عن هدف إنشائه.
ما فائدة الصندوق السيادي؟
الصناديق السيادية هي كيانات عامّة مملوكة للدول، تتمثّل مهمّتها في إدارة الأصول المالية على المديين المتوسّط والطويل من أجل تلبية الأهداف الاقتصادية الكلّية. وتُعدُّ فوائض احتياطيات النقد الأجنبي التي تولِّدها البلدان التي تتمتع بموارد طبيعية وفيرة هي السبب في إنشاء هذه البنى من خارج الموازنة. ويُعتبر الصندوق السيادي الكويتي أول هذه الصناديق، وقد تأسّس في العام 1953. إذاً، يهدف هذا المنطق الادخاري، الذي يقف خلف إنشاء هذا النوع من الصناديق، إلى استثمار السيولة الفائضة لمصلحة الأجيال المستقبلية، ولكنّه فاقد لمعناه في حالة لبنان، الذي يعاني من عجز هيكلي في احتياطيات العملات الأجنبية ولا يملك أية فوائض.
يهدف هذا المنطق الادخاري إلى استثمار السيولة الفائضة لمصلحة الأجيال المستقبلية، ولكنّه فاقد لمعناه في حالة لبنان، الذي يعاني من عجز هيكلي في احتياطيات العملات الأجنبية ولا يملك أية فوائض
تشكِّل صناديق الاستقرار فئة ثانية من الصناديق السيادية المُمكن إنشاؤها. تستخدمه الدول المنتجة للنفط عموماً لإدارة تقلّبات الأسعار. وهذا لا ينطبق على لبنان أيضاً، فوفقاً لأكثر التوقّعات تفاؤلاً، لن تكون عائدات النفط كبيرة بالمقارنة مع حجم الناتج المحلّي الإجمالي لإحداث تقلّبات كبيرة في الاقتصاد.
يبرز نوعان آخران من الصناديق يمكن أن تخدم لبنان هي: الصناديق المُخصّصة، وصناديق الاستثمار الاستراتيجية. في الحالة الأولى، تخصّص عائدات النفط لتلبية حاجة أساسية في الاقتصاد لا يتوفّر لها تمويل عام، كالنقل العام على سبيل المثال. وفي الحالة الثانية، تسمح صناديق الاستثمار الاستراتيجية بتعويض ضعف الادخار الوطني أو الوصول إلى الائتمان من خلال الاستثمار المباشر في القطاعات الإنتاجية.
خياران غير ملائمين
يختار اقتراح القانون المُقدّم خيارين غير ملائمين لاحتياجات لبنان، ويفتح تصميمهما الطريق أمام اختلاس الأموال العامّة أو تحويلها إلى غير غايتها.
تنصّ المواد 6 و11 و12 و13 من اقتراح القانون على تقسيم صندوق الثروة السيادية المُقترح إلى محفظتين منفصلتين: صندوق الادخار والاستثمار وصندوق التنمية. تفترض المحفظة الأولى استثمار ما لا يقلّ عن ثلاثة أرباع عائدات النفط في الأسواق الدولية، أمّا المحفظة الثانية التي تُدعّم بالإيرادات الضريبية للأنشطة البترولية، فيفترض أن تقوم باستثمارات تساهم في تنمية الاقتصاد اللبناني، لكن مساهمتها المباشرة في موازنة الدولة ممكنة أيضاً. هناك الكثير لقوله عن المصطلحات المستخدمة والالتباسات الواردة في النصّ، ولكن الأساس أن: «لا معنى لإنشاء محفظة ادخار في الحالة اللبنانية، أمّا القواعد التي ترعى محفظة التنمية فهي متساهلة إن لم نقل فضفاضة، وتفتح الطريق لجميع أنواع الاختلاسات وتحويل الموارد» وفق أندرو باور الخبير في المالية العامّة والصناديق السيادية.
فيما يتعلّق بصندوق الادخار، فإن أقل ما يمكن قوله هو أن الوضع النقدي للبلد لا يبرِّر إنشاء مثل هذا الصندوق، لا سيّما أن وظيفته الأساسية هي إدارة الاحتياطيات الفائضة من العملات الأجنبية. يمرُّ لبنان بأزمة غير مسبوقة تتسمّ بشكل أساسي بعجز خارجي مزمن، تمّ سدّه على مدار سنوات عبر مخطّط بونزي على مستوى البلاد، تسبّب الكشف عنه في صدمة اقتصادية كبيرة. عدا أن صافي احتياطيات العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي سالبة. ما يعني أنه لا يوجد فائض في هذه المرحلة لاستثماره، عدا أن أي أموال جديدة ستضخّ كسيولة يحتاجها البلد. وإلى حين عودة لبنان إلى مسار يسمح له بخدمة ديونه، من غير المجدي الاستثمار في الأصول الدولية التي يقل عائدها عن عبء الدَّيْن العام.
أما بالنسبة لصندوق التنمية، فقد يكون منطقياً من الناحية النظرية في ظلّ الصعوبة التي تواجهها المؤسّسات المحلّية في الوصول إلى رأس المال والائتمان، ولكن تخصيص الموارد العامّة لاستثمارات خاصّة هو بالغ الخطورة في بيئة مسيّسة وفاسدة، خصوصاً أن القانون المُقترح لا يذكر الكثير عن قواعد الاستثمار ولا يتضمّن محظورات، مثل حظر الاستثمار في العقارات أو في الأصول المضاربة. وهذا ما يفتح الباب أمام جميع أنواع تضارب المصالح والفساد.
لا معنى لإنشاء محفظة ادخار في الحالة اللبنانية، أمّا القواعد التي ترعى محفظة التنمية فهي متساهلة إن لم نقل فضفاضة، وتفتح الطريق لجميع أنواع الاختلاسات وتحويل الموارد
والأخطر من ذلك، أنه بخلاف التمييز الرسمي بين المحفظتين، توجد ممرّات بينهما، تفتح الباب لإمكانيّة تمويل الدَّيْن العاممن دون وجود أي حماية أو ضمانة. في الواقع، يعطي النصّ إمكانيّة تخصيص ما يصل إلى ثلث قيمة أصول المحفظة التنموية لموازنة الدولة. فما هو الهدف عندها من إيداع الأموال في صندوق خارج الموازنة، وفق بنية مستقلة وإدارة ذات تكلفة، إذا كان سيساهم في النهاية في تمويل الموازنة بشكل مباشر؟ وعلى الرغم من أن نصّ الاقتراح يضع شرطاً أمام تحويل هذه الإيرادات إلى الموازنة، وهو تحقيق فائض أولي لتجنّب استخدام عائدات النفط لدفع أعباء الديون، إلّا أن هذه الالتفافات مُعقّدة للغاية في بلد تُعدُّ الإدارة المالية العامة فيه كارثية، وهذا ما يفتح الطريق أمام إقرار موازنات خطيرة على النفقات العامّة، في حين أن هناك آليّات أكثر فاعلية لتحقيق الهدف نفسه، وفق استشارة أعدّها أندرو باور لصالح المبادرة اللبنانية للنفط والغاز (Logi)، مثل اعتماد القواعد الضريبية التي تحدّ من نمو النفقات أو وضع سقف للدين العام.
أسطورة الخلاص بالغاز
في الواقع، يؤدّي القانون المُقترح لإنشاء الصندوق السيادي وظيفة مزدوجة؛ الأولى هي سياسية-إعلامية، وتندرج ضمن استراتيجية إنكار الأزمة والتلهّي عنها، ورفض تحمّل أدنى مسؤولية تجاهها، والهروب إلى الأمام عبر التمسّك بأسطورة تزعم خلاص لبنان من خلال النفط والغاز. أما الوظيفة الثانية، فتقضي باحتفاظ السلطة بإمكانية استخدام الأصول العامة المُفترضة، إنّما تحت غطاء بنية وإدارة مستقلّة، ممّا يحرّرها من الالتزام بقواعد إدارة المالية العامة، بدءاً من وضع رؤية للاقتصاد الكلّي، تُخصّص الموارد الوطنية على أساسها.
إن أسطورة الوفرة تسمح باستمرار تسويق وهم «صندوق إعادة تكوين الودائع» عبر تحويل الأصول العامّة. تُعدّ لجنة المال والموازنة من أوائل الذين روّجوا لهذا الصندوق كبديل مُضلِّل عن خطط إعادة هيكلة البنوك، بدءاً من خطّة حكومة حسَّان دياب التي وضِعت بالتعاون من شركة لازار. لذلك إن قانون إنشاء الصندوق السيادي المُقترح من لجنة برلمانية يسمح باستمرار الخلط بين هاتين الهيكليتين، حتى لو كانتا منفصلتين تقنياً في هذه المرحلة.
بعيداً من فرصة تخصيص حصّة للمودعين من عائدات الغاز الافتراضية - أو أي دخل آخر للدولة - وهو موضوع نقاش آخر، يُعدُّ هذا الاحتمال واهم ومنفصل عن الواقع قياساً إلى الكمّيات المتوقّعة والخسائر المتحقّقة. في الواقع، تقترب خسائر المودعين من نحو 80 مليار دولار، فيما أكبر حقل غاز مكتشف حتى الآن في البلدان المجاورة هو حقل ليفياثان وتبلغ احتياطاته نحو 16 تريليون قدم مكعب. أمّا حقل كاريش الأقرب من حقل قانا المزعوم فيضمّ نحو 1.4 تريليون قدم مكعب فقط. وبالتالي هناك احتمال ضئيل جدّاً بأن تضمّ الاستكشافات كمّيات أكبر، وهذا ما يعني أن الإيرادات المُحتملة لن تحدث ثورة في الاقتصاد اللبناني ولن تقلبه رأساً على عقب. قبل الأزمة، دعا تقدير أجرته LOGI و«كلّنا إرادة» إلى عدم التفاؤل كثيراً. فوفقاً للسيناريو الأكثر إيجابية، إذا اكتشف لبنان حقلاً كبيراً من الغاز بحجم مماثل لحقل ليفياثان (16 تريليون قدم مكعب)، وإذا كان قادراً على تطوير جميع احتياطاته، فعندئذ ستصل حصّته من إيرادات الحقل إلى نحو 6.1 مليار دولار بالقيمة الحقيقية على مدى عمر المشروع، وهو ما يوازي 6 دولارات لكّل MBTU.
إن أسطورة الوفرة تسمح باستمرار تسويق وهم «صندوق إعادة تكوين الودائع» عبر تحويل الأصول العامّة. تُعدّ لجنة المال والموازنة من أوائل الذين روّجوا لهذا الصندوق كبديل مُضلِّل عن خطط إعادة هيكلة البنوك
لذلك، الأولوية هي لانتظار نتائج مرحلة الاستكشاف. إذا تم اكتشاف كمّيات، فإن الخطوة التالية ستكون بتحديد ما إذا كان استغلالها مربحاً، ووفقاً لمعايير تتيح مشاركة هذه الموارد الوطنية مع إسرائيل، والتي تركت الدولة اللبنانية لشركة توتال مهمّة وضعها وتقديرها بموجب العقد الموقّع معها. وبعد ذلك، سيكون من الضروري تقييم احتياجات لبنان من الطاقة لإنتاج الكهرباء بالإضافة إلى الاستخدامات الصناعية والمنزلية. وفي حال تجاوزت الكمّيات التجارية هذه الاحتياجات، عندها يتمّ التفكير بأساليب إدارة هذه الإيرادات. وهذا يتطلّب نقاشاً وطنياً يعتمد على الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد واحتياجاتها، لا أن تترك بعهدة لجنة المال والموازنة في البرلمان الحالي.
في غضون ذلك، سيضيف لبنان إلى لعناته العديدة، ما أسماه الخبراء بـ «لعنة ما قبل الموارد» التي تؤثّر على البلدان وتضاعف أخطاء الاختيار حتى قبل الاستفادة من الموارد الطبيعية الموعودة.
الصناديق السيادية تدير 10 ألف مليار من الأصول العالمية
تزخر الأدبيات بمزايا الصناديق السيادية، التي أصبحت شائعة في جميع أنحاء العالم منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. هناك حالياً عشرات الصناديق، لكن معظم الأصول المُدارة تتركّز في أهمّها، أي صناديق النروج والصين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت. إنّ القوة المالية لهذه البنى الضخمة، والتي تتجاوز في بعض الأحيان حجم اقتصاداتها الأصلية، هي موضوع مثار باستمرار في الصحافة الاقتصادية الدولية، وكذلك المخاوف المرتبطة بالسيادة، حيث يتركّز ثلث هذه الأموال في صناديق آسيا والشرق الأوسط بينما استثماراتهم تغذّي بشكل رئيسي الأسواق الغربية. وتعود هذه المخاوف بشكل خاص إلى اعتماد مبادئ سانتياغو في العام 2008، التي تدعو إلى اتباع قواعد الحوكمة السليمة والشفافية في إدارة هذه الصناديق.
تتجاوز الأصول المُدارة في العام 2020 نحو 10 آلاف مليارات دولار في مقابل 500 مليار في العام 1995. وأكبر صندوق، هو صندوق NBIM النروجي الذي يتحكّم بنحو 1.5% من جميع أسهم الشركات المُدرجة في البورصة في العالم في العام 2021، وفقاً لـشركة Kearny.
غالباً ما توكل الإدارة الفنية لصناديق الثروة السيادية إلى خبراء ماليين، وهي تقدّم كأصل وضمانة ضدّ تبديد الأموال العامة، الذي يميّز البلدان الغنية بالموارد الطبيعية والمعادن والنفط. مع ذلك، تبرز العديد من الأمثلة المناقضة لمنافع هذه الصناديق المنصوص عليها نظرياً، كما أن حالات استغلال هذه الأموال من خارج الموازنة ضمن أطر من المحسوبية أو الاستيلاء على الموارد العامّة لصالح النخب السياسية منتشرة على نطاق واسع، ممّا يدحض صفة الملائكية عن الذين يدعون أنهم يمتلكون المفتاح السحري لـ«الحوكمة الرشيدة».
شروط السحب من الصندوق
ينصّ مشروع القانون على تقسيم الصندوق إلى محفظتين منفصلتين؛ صندوق للادخار وصندوق للتنمية. تهدف محفظة الادخار والاستثمار، التي تتكوّن من «جميع واردات الدولة من الأنشطة البترولية باستثناء العائدات الضريبية» (المادة 12)، إلى «زيادة واردات الصندوق من الأنشطة البترولية من خلال القيام باستثمارات مالية طويلة المدى ذات المخاطر المعتدلة مع الحفاظ على تنمية رأس مال الصندوق لصالح الأجيال القادمة» (المادة 6).
تخضع عمليات السحب للشروط التالية (المادة 13):
لا يجوز سحب أي مبلغ إلّا من أجل استثماره وفقاً للشروط المحدّدة في تفويض الاستثمار، وتبقى أموال المحفظة مجمّدة بهدف تكوين رأس مال احتياطي.
أمّا اذا تجاوزت عائدات الاستثمار قيمة الدين العام بالعملة الأجنبية فيحوّل الفائض حكماً إلى محفظة التنمية.
يجب ألّا تقلّ نسبة الاستثمار خارج لبنان من محفظة الادخار والاستثمار عن 75% من مجموع أصولها وعائداتها.
تهدف محفظة التنمية التي تودع فيها الإيرادات الضريبية من الأنشطة البترولية (المادة 12) إلى «الاستفادة من جزء من واردات الدولة الضريبية من الأنشطة البترولية للتنمية، ليصبح مساراً مستداماً من خلال استثمارات مالية ذات سيولة مرتفعة وذات مخاطر معتدلة تؤدّي إلى خفض مستوى الدين العام» (المادة 6).
تخضع عمليات السحب للشروط التالية (المادة 13):
لا يجوز السحب من عائدات محفظة التنمية خلال سنة مالية معينة إلا في حال إقرار موازنة الدولة حسب الأصول، بحيث تلحظ فيها المبالغ المقرر سحبها وإنفاقها، بشرط ألا تتجاوز قيمة هذه المبالغ ثلث إجمالي أصول المحفظة.
لا يجوز إجراء أي سحب من محفظة التنمية خلال السنوات الثلاث الأولى من تاريخ أول إيداع العائدات فيها، وتجمد هذه العائدات بهدف تكوين رأس مال احتياطي.
يحظر استعمال أموال الصندوق لتسديد ديون الدولة، إلّا إذا أظهر قطع حساب الموازنة فائضاً أولياً في وارداتها على نفقاتها فيمكن استخدام عائدات محفظة التنمية لهذا الغرض.
تصبح جزءاً من رأسمال كل محفظة عائدات استثمار أرباح بيع الأصول، والأرباح الموزَعة، وعائدات الاستثمار على أصول الصندوق (المادة 12).
يستند هذا المقال الى ورقّة أُعدّتها منظّمة «كلّنا إرادة».