
السودان: الديون وسوء التنمية وتحدي الاستقرار
يتوقّف فهم الشؤون الحالية في السودان على الوعي بتاريخه ما بعد الاستعماري. ويشمل هذا التاريخ صعود وسقوط الدكتاتوريات والثورات الشعبية التي سعت إلى إزاحتها. وهو ليس مفيداً فحسب، بل ضرورياً لوضع استراتيجية تنموية ناجحة. أتعمّق في الحالة السودانية من خلال ثلاث عدسات: استكشاف كيف أضعف «سوء التنمية» الناجم عن البنك وصندوق النقد الدوليين أحلام دول «الجنوب العالمي» في فترة ما بعد الاستعمار، وإلقاء نظرة عامة على سياسات السودان في فترة ما بعد الاستعمار، وتقديم موجز عن الوضع المحدّد للسودان. ثم أختتم بطريقة تنطوي على إمكانية لتصوّر مستقبل مختلف للسودان، في محاولة لخلق الأمل على الرغم من تحدّيات اللحظة والتأكيد على الحاجة الملحة إلى نموذج جديد للتنمية.
«البنك وصندوق النقد الدوليين وفرض سوء التنمية على بلدان «الجنوب العالمي»
لم تكن بعض التحديات الأساسية التي واجهت الدولة السودانية في فترة ما بعد الاستقلال فريدة من نوعها، بل شاعت في جميع أنحاء «الجنوب العالمي». وشملت هذه التحديات بناء دولة جديدة قائمة على التنوع والديمقراطية والاقتصاد المعتمد على الذات، بما في ذلك التعليم الوطني القوي، والقطاعات الزراعية والتصنيعية. لكن في السودان، وفي خلال النضال من أجل الاستقلال، رأى زعماء إنهاء الاستعمار أن هذه التحدّيات تتطلب خططاً وطنية محدّدة تتناسب مع خصوصية السودان وتستند إلى السيادة. ومع ذلك، اختارت النخبة السياسية المستعمَرة طريقاً مختلفاً لبناء الأمة: مسار ربط الأمة الجديدة بالقوة الاستعمارية السابقة والحواضر الكبرى الجديدة، بما في ذلك المؤسسات المالية العالمية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، إلخ… فرضت هذه المؤسّسات تجارب سياساتيّة (أو تدابير اشتراطية) مأساوية بحجة التنمية والتحديث، ما أدّى إلى تزايد الدّين الوطني من دون نتائج إيجابية. وكان للتدابير الاشتراطية، المعروفة أيضاً ببرامج التكيّف الهيكلي - والتي تضمّنت سحب التمويل من الخطط الوطنية المتعلقة برفاهة السكان، وسياسات التقشّف الطويلة الأمد - آثار وخيمة على اقتصاد البلاد وتنمية قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والزراعة والتصنيع.
غالباً ما يُستخدم «كرم» البلدان المانحة كأداة سياسية للتلاعب بخطط «التنمية» في البلدان المتلقية لصالح البلدان المانحة
يمكن اعتبار السياسات التي نفّذتها مؤسسات مثل البنك وصندوق النقد الدوليين في اقتصاد السودان «إنجازاً مأساوياً» للنظام المالي العالمي. وعلى الرغم من ادعاءاتها بتعزيز «التنمية» و«التحديث»، فإن تدابيرها الاشتراطية أدّت إلى إنشاء هياكل معوقة وديون وطنية متزايدة باستمرار. وقد أعاقت هذه النتيجة أي إمكانية لدعم رفاهة السكان عبر الكثير من القطاعات الحيوية، ما سلط الضوء على الطبيعة المتناقضة لتدخلات هذه المؤسسات.
ساهمت المشروطية والممارسات العالمية التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية، بدعم من دول «الشمال» القوية، في اختلالات هيكلية مبالغ فيها في التجارة العالمية، ما أدّى إلى نشوء أزمات متعدّدة. ومن ناحية أخرى، عملت «برامج التكيّف الهيكلي» في الثمانينيات من القرن العشرين على تقييد معظم البلدان في «الجنوب العالمي» عن الاستثمار في القطاع الزراعي - وفرض البنك وصندوق النقد الدوليين شروطاً متعلّقة بالقروض استبعدت سيطرة الدولة على قطاعات حيوية مثل الزراعة والتعليم والصحة وقطاعات التصنيع، ما أضرّ برفاهية السكان وخلق اعتماداً على الجهات الفاعلة الأجنبية (الحكومية وغير الحكومية). وفي الوقت نفسه، كانت دول الشمال تفعل العكس تماماً.
لم تتمكن بلدان «الجنوب العالمي» من الاستثمار في السلع الزراعية وتطويرها بسبب القيود المفروضة على القروض، والفوائد المرتفعة غير المبرّرة، ونظام التجارة العالمي غير المتكافئ. وقد زادت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من إنتاجهما الزراعي من خلال الاستفادة من سياسات غير متسقة من الدعم، والتعريفات الجمركية، واتفاقيات «التجارة الحرة»، وأنظمة الحصص غير المتكافئة. وقد هيمن الإفراط في إنتاج السلع الزراعية بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الأسواق العالمية. وأصبحت بلدان «الجنوب العالمي» أماكن لإلقاء محاصيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الفائضة، والتي غالباً ما تباع بأسعار أقل من المحاصيل المحلية، ما دفع المزارعين المحليين إلى الخروج من السوق. ومن ناحية أخرى، مُنعت بلدان «الجنوب العالمي» من متابعة سياسات مماثلة لدعم قطاعاتها الزراعية وأُجبرت على قبول اتفاقيات «التجارة الحرة» غير العادلة التي جعلت منتجاتها الزراعية باهظة التكلفة. ونتيجة لذلك، فقدت بلدان «الجنوب العالمي» فرصة تلو الأخرى للنهوض بقطاعاتها الزراعية المحلية، وهو ظلم صارخ في نظام التجارة العالمي من شأنه أن يثير شعوراً بالسخط لدينا جميعاً.
أجبرت هذه السياسات المنهجية للتأخّر بلدان «الجنوب العالمي» على استيراد السلع الزراعية والغذائية الأساسية من الدول الأكثر ثراءً. وعزّز نظام التجارة العالمي هذه القطاعات الزراعية في «الشمال العالمي» في حين أدى إلى تدمير الرعاية الاجتماعية في «الجنوب العالمي». ونتيجة لذلك، أصبحت بلدان «الجنوب العالمي» شديدة الضعف وغير قادرة على إطعام مواطنيها. وبمرور الوقت، أصبحت الصراعات العنيفة والهجرة الداخلية والخارجية والأمراض ونقص الغذاء والمجاعات متأصلة في بلدان «الجنوب العالمي». وكانت ظاهرة المساعدات الغذائية استجابة للدمار الذي أحدثته مثل هذه السياسات الهيكلية، حيث أُجبر «الجنوب العالمي» على السعي إلى الولاء السياسي في مقابل المساعدات الغذائية من الدول الغنية. وغالباً ما يُستخدم «كرم» البلدان المانحة كأداة سياسية للتلاعب بخطط «التنمية» في البلدان المتلقية لصالح البلدان المانحة.1
فضلاً عن ذلك، يبتعد خطاب التجارة الحرة بشكل راديكالي عن ممارساته. تعني فكرة التجارة الحرّة تبادلاً متساوياً قائماً على قوى السوق المحايدة التي تُحدِّد قِيَم السلع والخدمات. ومع ذلك، فإن الواقع هو أن التجارة غير متساوية ومُركَّزة للغاية. ويعود أحد أسباب اختلال التوازن التجاري إلى «برامج التكيّف الهيكلي» في ثمانينيات القرن العشرين، وهي مجموعة من السياسات الاقتصادية التي تقوم على الخصخصة الصارمة للقطاع العام، والاقتصادات الوطنية المفتوحة للشركات متعدّدة الجنسيات، وتدابير التقشّف التي ينفّذها صندوق النقد والبنك الدوليين لتحفيز النمو الاقتصادي في البلدان المتضرّرة. وقد عملت «برامج التكيّف الهيكلي» على تقييد معظم البلدان في «الجنوب العالمي» عن الاستثمار في المنتجات الزراعية ذات القيمة المضافة، في حين كان «الشمال العالمي» يفعل العكس تماماً. وقد أضعفت هذه السياسات معظم الاقتصادات الوطنية في «الجنوب العالمي» وجعلتها عُرضَة بشكل كبير لتأثير النظام المالي العالمي.
وضعت النخبة السياسية المستعمَرة سياسات عامة تُعزِّز منطق «السوق الحرة» وخيارات التقشف النيوليبرالية. عملت هذه الأيديولوجيات والسياسات على إحباط الشعب السوداني ومنعه من الانخراط في العمل الاجتماعي اللازم لتخيل عمليات غير استعمارية لبناء الدولة
يعدّ نظام التجارة العالمي الحالي نظاماً مختلاً من الناحية الوظيفية ويعزّز اختلال التوازن في التجارة. على سبيل المثال، اختطفت حقوق الملكية الفكرية والصناعية، التي تتحكّم بها جهات فاعلة دولية قوية مثل الشركات متعدّدة الجنسيات، ودول «الشمال» القوية، و«منظمة التجارة العالمية»، حق «الجنوب العالمي» في «التنمية»، وتشكّل التحرير غير المقيد للتجارة الخارجية من خلال مصالح أقوى البلدان في «الشمال العالمي». حرمت مثل هذه الممارسات دول «الجنوب العالمي» من حقوقها في متابعة المسار المناسب للتنمية الملائمة والمستدامة، وفرض الحماية التي تريدها على بيئتها، وتطبيق الممارسات المحلية على القطاعات الزراعية وأنظمة الغذاء المحلية.2
السياسة في السودان في فترة بعد الاستعمار
من ناحية أخرى، منذ استقلال السودان في العام 1956، استثمرت النخبة السياسية المستعمَرة في العسكرة والجهات الفاعلة غير الحكومية بدلاً من بناء مؤسّسات الدولة. أدّى هذا الاستثمار إلى إخضاع السكان السودانيين المتنوعين لهيكل شبه استعماري لدولة مُعرقَنَة تعامل المواطنين كرعايا رهائن في دولة مؤمنَنَة بشدّة وخاضعة للسيطرة الاجتماعية وتحكمها أيديولوجيات وسياسات قسرية معينة. وفي الوقت نفسه، وعلى مدار تاريخها الذي اعترضَته الثورات الشعبية لفترة وجيزة، وضعت النخبة السياسية المستعمَرة سياسات عامة تُعزِّز منطق «السوق الحرة» وخيارات التقشف النيوليبرالية. عملت هذه الأيديولوجيات والسياسات على إحباط الشعب السوداني (من خلال الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية) ومنعه من الانخراط في العمل الاجتماعي اللازم لتخيل عمليات غير استعمارية لبناء الدولة والسيادة. 3
من ناحية أخرى، أظهرت الحركات الاجتماعية السودانية قدرة ملحوظة على الصمود، وأنتجت نماذج مبتكرة للمقاومة لتوجيه تحركاتها من أجل بدائل مدنية وديمقراطية للأنظمة التوتاليتارية. وقد أدى تنظيمها المتعمّد والصبور وتعبئتها الجماهيرية إلى الإطاحة بثلاثة أنظمة دكتاتورية، وإنهاء حربين أهليتين، وتجارب محدودة نحو التحوّل الديمقراطي. وكانت هذه القدرة على الصمود واضحة في الانتفاضات الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985 والانتفاضة الأخيرة في العام 2018.
تأسَّست هذه العلاقات التجارية مع «الشمال العالمي» خلال العصر الاستعماري وتعزّزت في الثمانينيات من القرن العشرين من خلال اتفاقيات التجارة الحرة التي زادت من تورُّط السودان في نظام تجاري عالمي غير عادل
على سبيل المثال، في كانون الأول/ديسمبر 2018، نجحت الحركات الاجتماعية السودانية، تحت مظلة «تجمع المهنيين السودانيين» و«قوى إعلان الحرية والتغيير» لاحقاً، في ترويج شعار «حرية وسلام وعدالة. الثورة خيار الشعب»، للفت الانتباه إلى السياسات العبثية لـ«حزب المؤتمر الوطني» الإسلاموي، والتنديد بإخفاقاته على مستويات الحكم والتنمية وسيادة القانون. ومن الجدير بالذكر أن «تجمع المهنيين السودانيين» و«قوى إعلان الحرية والتغيير» انخرطا بشكل عاجل في تجسيد شعار الشعب واتخذا خطوات عدّة لتجسيده وتشكيل تحالف واسع لتحقيق أهدافه. فقد دعيا أولاً جميع الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني للمشاركة في تحالف جديد واسع النطاق، ألا وهو «إعلان الحرية والتغيير»، الذي تم توقيعه في الأول من كانون الثاني/يناير 2019. وضم التحالف الذي تم تشكيله حديثاً أحزاباً سياسية ومنظمات مجتمع مدني معارضة للنظام الدكتاتوري، ووافق على برنامج محدّد للتعافي الانتقالي بقيادة حكومة مدنية بعد الإطاحة بالدكتاتورية. ظهرت الحركة الاجتماعية الجديدة خلال ثورة كانون الأول/ديسمبر، بقيادة «تجمع المهنيين السودانيين».4 وكانت بعيدة النظر لأنها فهمت حتمية التغيير الاجتماعي وركّزت على المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملحة. وقد جنّدت الحركة في صفوفها ضحايا النظام، بما في ذلك الشباب والنساء وسكان الريف والمثقفين الحَضَريين. وبهذه الطريقة، خلقت كتلة حرجة شعبية منظمة جيداً وسرية ومصممة بعناية وشاملة وخاضعة للمساءلة. وانخرط «تجمع المهنيين السودانيين»، الذي ضم الكثير من الجمعيات المهنية التي حظرها النظام، بما في ذلك جمعيات الأطباء الشباب والمزارعين والمحامين والمعلمين والعمال وغيرهم من موظفي الخدمة المدنية، في أساليب جديدة من الاحتجاج. فقد استخدموا أماكن العبادة والتعلم والأحياء والمراكز المجتمعية الريفية، ووظّفوا أدوات وتقنيات مختلفة للاحتجاج، بما في ذلك الأشكال الثقافية والفنية منه، للوصول إلى الكثير من شرائح المجتمع، داخل السودان وخارجه. وعلى هذا النحو، تمكّنوا من نشر رسالتهم، وكشف جرائم النظام ونقاط ضعفه. وعلى سبيل المثال، مكَّنهم التركيز على الفساد داخل الحزب الحاكم من انتقاد العلاقة بين الدولة والدين من ناحية، وسياسات التقشف النيوليبرالية من ناحية أخرى.
الوضع الخاص بالسودان
إن الأنماط التاريخية لدمج السودان في النظام الاقتصادي العالمي موثقة جيداً وتتشكَّل من خلال الروابط الهيكلية لاقتصاد البلاد مع اقتصادات أوروبا وأميركا الشمالية («الشمال العالمي»). وفي حقبة ما بعد الاستقلال، ظلت الأنشطة الاقتصادية المختلفة وسلاسل التوريد في البلاد مرتبطة بشكل متواصل بالمستعمرِين السابقين. آنذاك والآن، كان تدفق المنتجات والمعرفة والمعلومات بين المنتجين والمستهلكين يتم تداوله بسهولة أكبر عبر البحار مقارنة بالدول الإقليمية والمجاورة. واليوم، لا يزال السودان يتمتع بعلاقات تجارية راسخة مع «الشمال العالمي» أكثر من علاقته بالدول المجاورة أو الإقليمية أو دول «الجنوب العالمي». وتأسَّست هذه العلاقات التجارية مع «الشمال العالمي» خلال العصر الاستعماري وتعزّزت في الثمانينيات من القرن العشرين من خلال اتفاقيات التجارة الحرة التي زادت من تورُّط السودان في نظام تجاري عالمي غير عادل. ويقتصر دور البلاد على توفير المواد الخام فقط في هذا النظام التجاري. وقد كلَّف هذا الموقف السودان الكثير لأن إنتاج السلع النهائية يُعدّ وسيلة أكثر ربحية في هذا النظام. كما منع هذا الموقف السودان من تأسيس البنى التحتية اللازمة لاتخاذ القرارات السيادية في القطاعات الأكثر أهمية التي تدعم السكان وتوفر مسارات مستدامة تناسب احتياجات البلاد وسياقها.
لن يتسنى تحقيق هذه الأهداف إلا بإلغاء الدين الخارجي الوطني للسودان، وتطوير خطط سيادية وشفافة للتنمية العادلة
وعلاوة على ذلك، فإن البنية العالمية التي تفرض العلاقات القانونية والمالية والاقتصادية والسياسية الحالية تشبه، في الواقع، التبعية، حيث يتم تعزيز الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفاضحة للهياكل الاستعمارية والمُعرقَنَة الراسخة. وهذا يترك لبلدان «الجنوب العالمي» خيارات قليلة للبقاء، مثل فتح أسواقها للسلع الأساسية منخفضة التكلفة الآتية من الأسواق العالمية. وعلى هذا النحو، فإن الدعوة إلى تحقيق «أهداف التنمية المستدامة» بحلول العام 2030 - وإن كانت أهدافاً رائعة وإنسانية - بعيدة كل البعد من أن تكون ممكنة في ظل البنية المالية العالمية الحالية. وعلى هذا النحو، هناك حاجة ملحة إلى استخدام جهد منهجي وجماعي لتجسيد السيادة كحق أساسي للدول لإزالة الاختلالات الهيكلية التي شلت «الجنوب العالمي» ومنعته من المساواة والإنصاف في المقام الأول.
تصوّر مسار مختلف للسودان
لا ينبغي للحركات الاجتماعية السودانية أن تتخلّى عن الحاجة إلى تحالف ديمقراطي واسع النطاق للتعامل مع المشاكل المزمنة في السودان ومنع السودان من الاختفاء كدولة ذات سيادة وموحدة. بدلاً من ذلك، تحتاج القوى المؤيدة للديمقراطية إلى تشكيل تحالف واسع النطاق لتحقيق أحلام المشاريع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المناهضة للاستعمار، والتي تمثل بدائل للمشاريع المدمرة التي تمثلها النيوليبرالية. ويجب أن يحترم مثل هذا البديل التطلعات التي حفزت ثورات الشعب السوداني. وسوف يتطلب ذلك من أي حكومة انتقالية أن تعمل على تحقيق أهداف واضحة جلبتها الثورات الشعبية مراراً وتكراراً. وتتمثل هذه الأهداف في (1) تنفيذ خطة انتعاش اقتصادي وطني فوري تتجاوز تدابير التقشف؛ (2) إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وإحياء المجتمع المدني على أساس سيادة القانون؛ (3) تضمين مطالب الانتقال العادل في جميع خطط التنمية؛ (4) تعزيز ثقافة السلام داخل النسيج الاجتماعي؛ (5) تجاوز الدولة نفسها، لتحقيق الأهداف والغايات المنصوص عليها في المبادئ التوجيهية لـ«إعلان الحرية والتغيير».
أثبتت الوصفات التنموية الخاصة بالبنك وصندوق النقد الدوليين أنها فاشلة تماماً، على نحو أدى إلى تدمير لا يمكن تصوره. ويوجد بديل لمثل هذا النموذج في رؤية حكومة ذات سيادة تتبنى التعددية في الحكم وتقبل ثروة الهويات والثقافات واللغات المتنوعة في السودان
بالإضافة إلى ذلك، فإن شق مثل هذا المسار الجديد يتطلب شيئاً آخر غير توجيه الأهداف المستقبلية. سوف يتطلب الأمر حساب إرث الفظائع الماضية وتخيل العدالة بما يتجاوز الأساليب العقابية. وتتطلَّب مثل هذه العدالة التخطيط المتعمّد وتلبية مطالب الشعب السوداني في الأمن الإنساني والعدالة والكرامة لجميع أبناء الشعب السوداني. ولن يتسنى تحقيق هذه الأهداف إلا بإلغاء الدين الخارجي الوطني للسودان، وتطوير خطط سيادية وشفافة للتنمية العادلة، وإنشاء نظام تنظيمي يحكم الاستثمار الأجنبي المباشر للتعامل مع التدفق غير المشروع لرأس المال من البلاد، وتطوير مؤسسات الدولة لتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، وأخيراً، تركيز جميع خطط التنمية في سياق السيادة والاعتماد على الذات.
على مدى الأعوام الـ68 الماضية، أثبتت الوصفات التنموية الخاصة بالبنك وصندوق النقد الدوليين أنها فاشلة تماماً، على نحو أدى إلى تدمير لا يمكن تصوره. ويوجد بديل لمثل هذا النموذج في رؤية حكومة ذات سيادة تتبنى التعددية في الحكم وتقبل ثروة الهويات والثقافات واللغات المتنوعة في السودان. وفقط من خلال تحقيق هذه الرؤية يمكن مساعدة الشعب السوداني على التغلب على آلام الماضي. إن هذه الإجراءات السياسية هي ما يحتاجه شعب السودان أكثر من أي شيء آخر حتى يتمكن من تجنُّب النخبة السياسية المستعمَرة المستمرة ويحرر نفسه من بقايا الاستعمار.
نُشِر هذا المقال في CADTM في 20 كانون الثاني/يناير 2025 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.
- 1
Samir Amin (2011). Maldevelopment. Anatomy of a Global Failure. Pambazuka Press; 2nd edition.
- 2
Vijay Prashad (2012). The Poorer Nations: A Possible History of the Global South. Verso.
- 3
Elsadig Elsheikh (2008). Darfur: Domesticating Coloniality—The Failure of the Nation-State Model in Post-colonial Sudan. Saarbrücken: VDM.
- 4
Elsadig Elsheikh (2019). Sudan after Revolt: Reimagining Society, Surviving Vengeance. Critical Times (2019) 2 (3): 466–478.