السودان يموت جوعاً
تحصد السودان 95% من إجمالي إنتاجها من الحبوب خلال شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر. هذا الوقت يُفترض أن يكون وقت وفرة. وفي ولاية النيل الأزرق جنوب غرب البلاد، يصنع المزارعون آلة الوَزّة من القرع المخروطي، وهي بوق له صوت واضح صدّاح، يعزفون به احتفالا بموسم الحصاد. لكن في العام الماضي لم يرتفع لهم صوت.
في نيسان/ أبريل 2023 اندلعت حرب بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، الفصيلين الأساسيين في المجلس العسكري الذي يحكم السودان. وخلق الصراع كارثة إنسانية. نشرت الأمم المتحدة في كانون الثاني/ يناير تقريراً يقول إن الأشهر الثمانية الأولى من الحرب شهدت مقتل 10 الاف إلى 15 ألف إنسان في مدينة الجنينة وحدها، عاصمة ولاية غرب دارفور، ولا يعرف أحد إجمالي الوفيات. فرّ أكثر من مليون شخص خارج البلاد. ونزح 10 ملايين داخلها، وهو أكثر مما شهده أي بلد آخر.
استهدف المحاربون المباني السكنية والموارد الإنسانية والبنوك والوزارات الحكومية. كما عطّلوا الزراعة. فنهب الجانبان المزارع ودمّروا البنية التحتية الضرورية، بما في ذلك 75% من القدرة الإنتاجية على طحن الدقيق.
الآن تعاني أنحاء البلاد من المجاعة. كان هناك بالفعل أكثر من 15 مليون سوداني يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي قبل بداية الحرب. وقد ازداد الجوع بصورة عنيفة من بعدها، جزئيا بسبب تدهور إنتاج الحبوب، الذي كان خلال موسم حصاد 2023–2024 أقلّ بمقدار 46% من العام السابق، وهو النقص الذي يُقدر بـ3.7 مليون طن.
بداية من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أفاد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهو وكالة رصد عالمية، أن حوالي 18 مليون شخص، أي 40% من السكان تقريبا، قد عانوا من الجوع الشديد. وهذه الأرقام محسوبة قبل معرفة حجم الخسارة في المحصول الأخير. وأصدر معهد كلنغندال، مؤسسة الفكر الهولندية، تقريرا يقدّر أن 2.5 مليونا سيموتون بحلول نهاية أيلول/سبتمبر لأسباب مرتبطة بالمجاعة. إن السودان تعاني من أكبر مجاعة شهدها العالم منذ أربعين سنة على الأقل.
الصورة أشدّ قتامة
إن وضع حد لمجاعة بهذه الضخامة سيتطلب حملة حشد مساعدات إنسانية هائلة، المساعدات التي لم تكن تمثّل قبل الحرب إلا جزءاً ضئيلاً من النظام الغذائي للسودان. خلال 2022 كان برنامج الأغذية العالمي (WFP)، وكالة الغذاء التابعة للأمم المتحدة، يوفّر من الحبوب ما يحتاج إليه 4% من السكان. وزيادة المساعدة الغذائية على هذا النطاق ليس مستحيلاً: هذا ما فعله برنامج الأغذية العالمي في 2021 بعد سقوط كابول. لكن النداء الإنساني في أفغانستان كان يموّله بالكامل مانحون دوليون. والصورة في السودان أشد قتامة.
أربعة أطفال يموتون كل يوم بسبب سوء التغذية وما يرتبط بها من أمراض يسببها ضعف جهاز المناعة
يعيش في القرن الأفريقي أكثر من 50 مليون شخص يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي، لكن المنطقة تتلقى حصة ضئيلة من التمويل الذي تطالب به الأمم المتحدة، على النقيض من أوكرانيا، التي تُلبى مطالباتها على الدوام وبزيادة. في منتصف نيسان/أبريل، خلال أحد مؤتمرات المانحين بباريس، تعهدت الحكومات الغربية بتقديم مليارَي دولار لأعمال الإغاثة في السودان. يبدو ذلك مؤثرا، لكنه لا يلبي إلا نصف ما طالبت به الأمم المتحدة، كما أنهم لم يوفروا من ذلك حتى الآن سوى 468 مليون دولار فقط.
وهناك تحديات أخرى. فالأمم المتحدة تعتبر القوات المسلحة السودانية هي الحكومة الشرعية للسودان، وتطلب موافقتها على توصيل كافة المساعدات، وإلا فهي تخشى الطرد من البلاد. وقد استغلت القوات المسلحة هذا الوضع لتمرير المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها، والتي تقع بالأساس في الشمال والشرق، بينما منعت إلى حد كبير توصيلها إلى المناطق الواقعة في قبضة قوات الدعم السريع، والتي تتضمن تقريبا إقليم دارفور كله في الغرب، ومساحة واسعة تمتد من غرب كردفان حتى ولاية الجزيرة في الوسط. (يسيطر على المنطقة أيضاً خليط من مجموعات مسلحة أخرى). إن هذا الحصار على الأخص مدمر، لأن قوات الدعم السريع تسيطر على بعض أهم المناطق التي تعاني بشدة من انعدام الأمن الغذائي، والتي تشمل جزءا كبيرا من دارفور.
بدأت الحرب في العاصمة الخرطوم، ولا يزال القتال مستمراً حتى كتابة هذه السطور. نقلت القوات المسلحة السودانية عاصمتها الإدارية إلى بورتسودان في الشمال الشرقي، حيث توجد وكالات الأمم المتحدة الآن. وعلى ساحل البحر الأحمر، تقف قوافلها لأسابيع في انتظار تصاريح السفر من مفوضية العون الإنساني (HAC)، التي أنشأتها الحكومة في الثمانينيات للتحكم في توصيل المساعدات. تطلب المفوضية أحياناً 5 طوابع مختلفة من قافلة مساعدات حتى تخرج من بورتسودان، ولا تُقابل الطلبات غالباً بالرفض لكنها تضيع في ثقب أسود من دون رد.
في أول 10 شهور من الحرب تمكنت بعض المنظمات غير الحكومية من نقل المساعدات عبر الحدود الغربية مع تشاد، التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بشكل كامل تقريباً. لكن القوات المسلحة أعلنت في آذار/مارس الماضي أنها لن تسمح بدخول المساعدات إلا من خلال معابرها الحدودية، لمنع الحركة عبر الحدود مع تشاد تماما. امتثلت الأمم المتحدة، وجاءت النتائج كارثية على دارفور. أدى الصراع والنهب إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل بنسبة تصل إلى 80% مقارنة بالعام السابق. وأظهر تنبيه التصنيف المرحلي المتكامل وجود مناطق بلغ انعدام الأمن الغذائي فيها مستويات خطيرة في جميع أنحاء ولايات دارفور الأربع. أخبرنا متحدث باسم برنامج الأغذية العالمي أن البلاد لم تصل حتى الآن إلى المجاعة، لكنه أشار إلى أن هناك 2.6 مليون شخص في خطر عظيم في ظل مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، و«ربما نرى ظروفا أقرب ما تكون للمجاعة في جميع أنحاء البلاد». ولكن بحسب مسؤول آخر لدى برنامج الأغذية العالمي، طلب عدم الإفصاح عن هويته، فإن وكالة الأمم المتحدة قد قدّرت داخليا وجود مجاعة بالفعل في أجزاء من دارفور. ففي كلمة، وهو معسكر للنازحين داخليا بجنوب دارفور، أفاد فريق المساعدات الإنسانية ألايت (Alight) أن أربعة أطفال يموتون كل يوم بسبب سوء التغذية وما يرتبط بها من الأمراض التي يسببها ضعف جهاز المناعة. وأخبرنا العاملون في المجال الإنساني بتشاد أن اللاجئين السودانيين يفرون لكن ليس من القتال، بل من الجوع.
ولدى قوات الدعم السريع جهاز نهبها الخاص للتحكم بالمساعدات. ففي آب/أغسطس الماضي، شكّل قائدها محمد حمدان دقلو (الشهير بلقب «حميدتي») الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية (SARHO)، وهي نسخة من مفوضية العون الإنساني. وقد استفادت قوات الدعم السريع فائدة عظيمة من توصيل المساعدات: فهي تفرض على عمال الإغاثة في غرب دارفور رسوما باهظة عند نقاط التفتيش، وتجبرهم على استخدام شركات النقل بالشاحنات التابعة لهم. ومثلها مثل القوات المسلحة السودانية، تمنع توصيل المساعدات إلى الأراضي التي يسطر عليها العدو. استولت قوات الدعم السريع في آذار/ مارس على بضائع إحدى قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة إلى الفاشر، وهي إحدى مدن دارفور التي لم تسيطر عليها حتى الآن. وصادرت في الشهر نفسه المساعدات الغذائية القادمة من برنامج الأغذية العالمي إلى معسكر النازحين داخليا رونقا تاس في وسط دارفور، ووزعت الغنائم على جنودها وعلى اللاجئين في معسكر النازحين داخليا القريب الذي تديره قوات الدعم السريع.
هكذا استوثق المحاربون من حرمان معظم الشعب السوداني من المساعدات الضرورية للحفاظ على حياته. صرّحت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، أن المنظمة لا تستطيع توصيل الغذاء إلا إلى 10% فقط من السكان الذين يواجهون مستويات خطيرة من انعدام الأمن الغذائي. وقال منسق الإغاثة بالأمم المتحدة، مارتن غريفيث، في مذكرة داخلية لمجلس الأمن أن 90% الآخرين لا يمكن الوصول إليهم.
لا الحرب ولا الجوع جديدان على السودان. فقد شهد منذ الاستقلال عام 1956 ثلاثة حروب أهلية، وخمس مجاعات على الأقل، وهذا العدد مُتنازع عليه. في 1988–89، خلال الحرب الأهلية الثانية (1983–2005)، اجتاحت الميليشيات المتحالفة مع الحكومة ولاية بحر الغزال الجنوبية، فسمّمت الآبار وقتلت المزارعين وجرّفت الحقول في المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة التمرد، الحركة الشعبية لتحرير السودان/ جيش التحرير الشعبي السوداني (SPLM/A). ويُعتقد أن نصف مليون شخص قد لقوا حتفهم. في 2003–2005، خلال الصراع في دارفور، قامت الميليشيات العربية التي تدعمها الدولة والمعروفة باسم الجنجويد (أسلاف قوات الدعم السريع) باستهداف المجتمعات غير العربية، فقتلت ما يزيد عن 30 ألفا، وهجّرت ملايين الناس، وعطّلت الدورات الزراعية، فكانت النتيجة موت 200 ألف آخرين من الجوع والمرض والتعرض للمخاطر.
إن هذه المجاعات، مثل الحروب التي أنتجتها، كانت محدودة النطاق. أما اليوم، فالجوع والاقتتال قد عمّا تقريبا أنحاء البلاد كافة. وفي مواجهة مأساة بمثل هذه الأبعاد، من المفهوم التركيز على التحديات الملحة مثل توصيل مزيد من المساعدات والتوسط لوقف إطلاق النار. لكن لا توجد كمية من المساعدات تكفي لإصلاح المشاكل البنيوية وراء انعدام الأمن الغذائي المزمن في السودان، ومن المستبعد، في غياب تغيير ترتيبات سياسية أساسية، أن يحقق وقف إطلاق النار سلاما دائما. إن فهم أصول الأزمة الحالية في السودان يتطلب العودة إلى تاريخها بعد الاستعمار.
الخدعة السحرية التي يُستغل بها الريف
لا ينتشر الجوع في أنحاء السودان على نحو متساو، بل يشق طريقه عبر مشهد يتسم بالاستغلال وانعدام المساواة. منذ الاستقلال، سيطرت حفنة صغيرة من النخب العربية المتمركزة في وادي النيل على الدولة. وبدلا من تنفيذ سياسات تهدف إلى تنمية البلاد بشكل منصف، استولت على المؤسسات الحكومية واستغلّتها لإثراء المراكز الحضرية على ضفاف السودان (مثل الخرطوم والمدن الشقيقة أم درمان وبحري) وذلك على حساب الأطراف (مثل النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور).
ويظهر هذا الانقسام في نظام السودان الغذائي. فكما بيّن الباحثان مجدي الجزولي وإدوارد توماس، تنقسم البلاد بين آكلي القمح في المراكز الحضرية وبين آكلي الذرة والدخن في الأطراف. يُستورد القمح غالبا، وقد يرتفع سعره مع ارتفاع أسعار الغذاء العالمية. أما الذرة والدخن فيُزرعان محليا، وتوفّرهما مُهدد بالصدمات المناخية والصراع. وفي سبيل استرضاء المراكز الحضرية، استوردت الأنظمة المتعاقبة القمح والخبز ودعمتهما، وهو دعم لا يصل إلى المناطق الريفية. وقد جمعوا العملة الأجنبية اللازمة لذلك عن طريق تصدير الموارد الأولية من الأطراف، مثل الحبوب والماشية والصمغ العربي والنفط والذهب. هذا التحويل هو الذي يجعل من الذرة قمحا، إنها خدعة سحرية يُستغل بها ريف السودان.
وتعود أصول النظام الغذائي المزدوج إلى السياسة الزراعية بعد الاستعمار. في عشية الاستقلال، انخرط معظم الشعب في زراعة الكفاف، وكان عدد كبير منهم رعاة. وفي الستينيات، حصلت الحكومة على قروض من دول الخليج والبنك الدولي لإنشاء مشاريع زراعية مميكنة في جنوب شرق السودان، بين إثيوبيا ونهر النيل. فأنتجت هذه المشاريع الذرة للاستهلاك الداخلي والسمسم للتصدير.
وفي عام 1969، استولى جعفر النميري على السلطة في انقلاب، فعلّق الدستور وحظر جماعة الإخوان المسلمين، التي اعتبرها تهديدا لسلطته. وفرض خطة لتحويل السودان إلى «سلة خبز» إقليمية. وفي عام 1977، أطلق خطة مدتها ست سنوات لزراعة أكثر من ستة ملايين فدان (6.2 مليون فدان). وكان لهذا المشروع هدفان: ضمان الأمن الغذائي للسودان، وإنتاج المنتجات الحيوانية والحبوب لتصديرها إلى العالم العربي.
صادرت الحكومة قطع الأراضي من مزارعي الكفاف والرعاة، ووزّعت مساحات شاسعة (1.8 مليون فدان بحلول عام 1968، وأربعة ملايين بحلول عام 1977) من الأراضي على التجار الحضريين الذين شاركوا فيما يمكن وصفه بالتعدين السطحي الزراعي. لقد انتهجوا الزراعة الأحادية بشكل مكثف، فانتزعوا أرباحا سريعة لبضع سنوات، وتسببوا في زيادة التصحر والتدهور السريع في جودة التربة. وسرعان ما أدى الاستغلال المفرط والأمطار غير المنتظمة إلى ضعف المحاصيل، فاتجه التجار بعد ذلك إلى تأجير الحقول مرة أخرى لمن لا يملكون أرضا لمُزارعتها. وفي هذه الأثناء، تزايد طرد الفلاحين والرعاة من أراضيهم، فاضطروا إلى البحث عن عمل موسمي مقابل أجر سيئ. وبحلول منتصف السبعينيات، كان هناك ما بين 1.5 و2 مليون شخص يهاجرون سنويا للعمل في المزارع المميكنة التي كانت محاصيلها تنهار. ولا يزال بعضها يعمل حتى اليوم، لكنها لا تلبّي احتياجات السودان الغذائية بأي درجة. وعلى مدى العقود الستة الماضية، انخفض إنتاج الذرة بمقدار النصف.
فشلت استراتيجية سلة الخبز في تحقيق أهدافها الكبرى، لكنها رغم ذلك أفادت النظام. فقد وزّع النميري عقود إيجار الأراضي على النخب المختارة، كجزء من تأسيسه لسوق سياسية تقوم على صفقات خلف الكواليس. واستشرى الفساد عام 1977، عندما عاد أعداؤه السابقون، جماعة الإخوان المسلمين، إلى البلاد كجزء من عملية «مصالحة وطنية». فأحضروا معهم البنوك الإسلامية التي كانت تمنح القروض بشروط ملائمة لكوادر الإخوان ونظام النميري. وفي عام 1982، تم إنشاء مجلس اقتصادي عسكري، فأتاح للجيش توسيع نفوذه ليشمل القطاع التجاري، بما في ذلك الزراعة، واستطاع النميري بذلك شراء ذمم المعارضين المحتملين داخل القوات المسلحة.
انكشف ضعف النظام الغذائي في السودان بقسوة عام 1983، عندما ساهم الجفاف في انخفاض إنتاج الغذاء بنسبة 75% في ولايات شمال كردفان وشمال دارفور وتلال البحر الأحمر. وبعد سنوات من نقص المحاصيل، لم يعد لدى الأسر الريفية ما يمكنها الاعتماد عليه إلا القليل، فلم تستطع التعامل مع الأزمة. وأدت الندرة إلى ارتفاع الأسعار، فتضاعفت تكلفة الذرة في كردفان في الفترة من 1983 إلى 1985.
فشلت استراتيجية سلة الخبز في تحقيق أهدافها الكبرى، لكنها أفادت النظام. فقد وزّع النميري عقود إيجار الأراضي على النخب المختارة
زاد في مفاقمة الأزمة ارتفاع مستويات الديون في السودان. فقد كان النميري يقترض باستهتار من صندوق النقد الدولي ونادي باريس، وهو عبارة عن مجموعة من كبار الدائنين الغربيين. اختفى جزء كبير من الأموال في جيوب المقربين منه. وفي أوائل الثمانينيات، عندما كانت السودان على حافة التخلف عن السداد، وافق على سلسلة من إجراءات التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي كشرط للحصول على مزيد من القروض. هذه الأموال -إلى جانب الاستثمار الخليجي المستمر في مشاريع "سلة الخبز"- أنقذت نظامه من الغرق، لكن مستويات المعيشة كانت تتدهور يوما بعد يوم. تم رفع الدعم عن الغذاء والوقود، وارتفعت تكلفة السلع الأساسية بشكل كبير. وبنهاية عام 1983، كان حوالي 300 ألف شخص قد فروا من شمال دارفور بحثا عن الطعام.
حاول النميري إخفاء المجاعة الوشيكة، التي كانت ستعلن فشل استراتيجية سلة الخبز، فتهدد استثمارات الخليج وتثير الشكوك بين دائنيه، ولا سيما الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت ترسل للسودان مساعدات تنمية أكثر من أي مكان آخر في أفريقيا جنوب الصحراء. وكان يأمل أن تغيثه السماء بأمطار وفيرة في العام التالي. لكن الجفاف استمر حتى عام 1984، مع انخفاض إنتاج الحبوب في كردفان إلى 18% من الإنتاج الطبيعي. ورغم ذلك لم يعلن النميري المجاعة، وأعاق توزيع المساعدات الغذائية. وفي بداية عام 1984، قدّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن دارفور بحاجة إلى 39 ألف طن من الغذاء. لكن الحكومة، المصرّة على التقليل من أهمية الأزمة، أجرت تقييمها الخاص وزعمت أن دارفور لا تحتاج إلا إلى سبعة آلاف طن. ولم تطلب الحكومة المساعدة الدولية، ولم ترسل إلا 5400 طن، تم توصيلها في موعد متأخر. كان النميري واثقا من أن الموت جوعا في المناطق الريفية لن يزعج النخبة الحضرية في السودان.
ثم وصلت المجاعة إلى المدينة. بحلول آب/ أغسطس 1984، فرّ حوالي 45 ألف مزارع من قراهم في كردفان بحثا عن الطعام حتى وصلوا إلى منطقة الخرطوم الكبرى. زجّ النميري بعضهم في شاحنات وأعادهم إلى ديارهم، لكنه لم يتمكن من تجنب عواقب المجاعة إلى الأبد. وبحلول العام 1985، أصبح أكثر من خمسة ملايين شخص فقراء فقرا مدقعا، وفرّ مليون ونصف من ديارهم، ومات 105 ألف شخص في دارفور وحدها.
كانت مقاومة نظام النميري منتشرة على نطاق واسع بالفعل. وكان قد حظر النقابات العمالية وجميع الأحزاب السياسية باستثناء حزبه الصُّوري، الاتحاد الاشتراكي السوداني، لكن الجمعيات المهنية والطلاب قادوا الاحتجاجات ضد ارتفاع الأسعار. وطالبوا بإنهاء استبداده وإنشاء ديمقراطية برلمانية. لقد عمّق إنكاره للمجاعة غضبهم. وفي 25 آذار/ مارس، قبل أيام قليلة من سفره إلى واشنطن للحصول على مزيد من المال، تساءل في خطاب ألقاه عما يجعل الشعب السوداني بحاجة إلى أكل ثلاث وجبات في اليوم؟ أُذيعت تصريحاته وسمعها ملايين الجائعين. واحتجّ الطلاب في مظاهرات بالخرطوم هاتفين: الشعب جوعان! يسقط صندوق النقد الدولي! لن يحكمنا البنك الدولي!
ورغم ذلك سافر النميري إلى واشنطن واثقا من إمكانية قمع أعمال الشغب. لكنه أساء التقدير. انضم الطلاب إلى الجمعيات المهنية وأعضاء الحزب الشيوعي السري الذي دعا إلى إضراب عام في 6 نيسان/أبريل. واستعدت أحزاب محظورة أخرى للتحرك أيضاً. وبعد أن صافح النميري بمودة رونالد ريغان، الذي وعده بمزيد من المساعدات، أطاح به كبار ضباط الجيش، واستولى المجلس العسكري الانتقالي على السلطة.
في عشية الإطاحة بالنميري، كانت مجموعات المجتمع المدني والنقابات العمالية والجمعيات المهنية وأحزاب سياسية أخرى قد شكّلت تحالف الإنقاذ الوطني، الذي وضع أجندة مشتركة: العمل الفوري ضد المجاعة، وإنشاء ديمقراطية برلمانية، والتراجع عن العبء الثقيل لبعض جوانب الشريعة الإسلامية التي طبقها النميري بالشراكة مع جماعة الإخوان المسلمين. وسرعان ما انهار هذا التحالف. وبينما كانت الأحزاب الطائفية تتنازع فيما بينها، استغل المجلس العسكري الانتقالي الخلافات بين المجموعات المهنية والنقابات العمالية، فهمّش العديد من مخاوفهم، بما في ذلك مطالبهم بشأن الإغاثة من المجاعة. وبعد حصاد جيد عام 1985، أعلن المجلس العسكري الانتقالي أن المجاعة قد انتهت وأنهى مناقشة إصلاح النظام الغذائي. ومع التركيز على الانتخابات والسلطة في العاصمة، تخلّت الأحزاب السياسية عن هذه القضية. وواصل التضامن الريفي متابعة مسألة المجاعة في الأطراف لفترة، وكان ائتلافا شكّله الطلاب والنقابيون الناشطون في الانتفاضة، لكنه تفكك بسبب الانقسامات الداخلية ومضايقات الدولة.
أما مساعدات الإغاثة من المجاعة فقد سلمها المجلس العسكري الانتقالي إلى منظمات المساعدات الإنسانية الدولية، التي كانت تتوسع عندئذ في جميع أنحاء أفريقيا، التي تغرق دولها الواحدة بعد الأخرى في الديون. تدخّلت هذه المجموعات المُمولة من الجهات المانحة الغربية لإنجاز مهام مثل الإغاثة من المجاعة، مهام لم تعد الحكومات قادرة أو راغبة في القيام بها. وفي عام 1985، بالشراكة مع مكتب حالات الطوارئ التابع للأمم المتحدة في السودان، أنشأ المجلس العسكري الانتقالي لجنة لتنسيق أنشطة الإغاثة. وبعدما تم تكليف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بمسؤولية توزيع مساعدات المجاعة، عيّنت منظمات دولية غير حكومية مختلفة في مناطق مختلفة من السودان. (حصلت منظمة أنقذوا الأطفال على دارفور، أما كردفان فكانت من نصيب هيئة الإغاثة كير). ومن ثَم أصبحت المنظمات الدولية هي المسؤولة، ولم يعد هناك لوم على الدولة السودانية. لقد تم عزل المجاعة عن السياسة.
أدّت الحرب الأهلية الثانية (1983-2005) إلى سلسلة من المجاعات. ولعل أسوأها كان بين عامي 1985 و1988 في منطقة بحر الغزال الكبرى
من النميري الى البشير وصولاً إلى الحرب الحالية
عشية استقلال السودان اندلعت حرب أهلية بين الحكومة في الخرطوم والمتمردين الجنوبيين. ولقي مئات الآلاف حتفهم حتى انتهاء الحرب عام 1972، وعقد اتفاق السلام الذي وعد الجنوب بالحكم الذاتي الإقليمي ومشاريع التنمية. لكن الأزمات الاقتصادية تفاقمت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فتراجع النميري عن هذه الالتزامات، وترك مشهدا تبعثرت فيه مدارس لم يكتمل تشييدها وأنابيب مياه لا تصل إلى مكان. في 1983، تأسس جيش التحرير الشعبي السوداني في الجنوب، بهدف الإطاحة بالنميري وإنهاء العلاقات القمعية بين المركز والأطراف. واستمر في محاربة الأنظمة المتعاقبة في الشمال لما يزيد عن عقدَين من الزمان.
أدّت الحرب الأهلية الثانية (1983-2005) مباشرة إلى سلسلة من المجاعات. ولعل أسوأها كان بين عامي 1985 و1988 في منطقة بحر الغزال الكبرى، وهي معقل الحركة الشعبية لتحرير السودان/ جيش التحرير، حيث كانت ميليشيات المرحلين المتحالفة مع الدولة -والقادمة من مجتمعات البقّارة في كردفان ودارفور- تستهدف مصادر المتمردين من المياه والغذاء. ولم تكن الحكومة تسمح بدخول المساعدات الغذائية إلا إلى البلدات التي تسيطر عليها، وهي سياسة تكررها القوات المسلحة السودانية في الصراع الحالي. أجبر هذا مَن يعيشون في المناطق الريفية على الهجرة إلى المناطق الحضرية، وحرَم المتمردين من المجندين. وردا على ذلك، فرضت الحركة الشعبية لتحرير السودان/ جيش التحرير حصارا على البلدات. فأدت تكتيكات الجانبين إلى إفقار مساحات شاسعة من بحر الغزال.
في عام 1985، أنشأت الخرطوم مفوضية العون الإنساني، التي كانت مُكلفة بتنسيق توصيل المساعدات الدولية. فقامت المفوضية بتحويل المساعدات إلى السكان الموالين في الشمال، ثم كررت الحيلة في الجنوب. وفي عام 1986، كان 62% من إجمالي المساعدات المرسلة إلى جنوب السودان قد ذهب إلى المقاطعات الاستوائية، التي كانت تشكل 26% فقط من سكان المنطقة، بغرض زراعتها حتى توازن بحر الغزال. الموت جوعا هناك أجبر الرعاة على بيع قطعانهم إلى التجار الشماليين بأسعار أقل من أسعار السوق بكثير، حتى يشتروا الطعام من هؤلاء التجار أنفسهم الذين باعوه بأسعار باهظة. فرّ كثير من الجنوبيين إلى الشمال، حيث تعرضوا للسرقة من قبل ميليشيات المرحلين، الذين حشدوهم بعد ذلك في مخيمات ضمن الأراضي التي يسيطر عليها معذِّبوهم، أو أجبروهم على العمل في مشاريع زراعية تجارية في كردفان.
في عام 1989، وصل إلى السلطة العقيد عمر البشير والجبهة الإسلامية القومية، في انقلاب آخر بعد الإطاحة برئيس الوزراء الصادق المهدي. وواجه البشير وضعا سياسيا مضطربا: فقد اندلعت الحرب الأهلية في الجنوب، وكان الاقتصاد يرزح تحت وطأة الديون الخارجية. وخلال 1989، كان في غرب السودان جفاف تفاقم بسبب تقاعس الحكومة، فأدى إلى مجاعة انتشرت في العام التالي، وقُدر نقص الحصاد في ذلك الوقت في دارفور بنسبة 80%. تأثر بذلك جزء كبير من السودان: وعندئذ كان الانهيار الاقتصادي خلال العقد السابق قد ضاعف عدد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء البلاد.
ومثل النميري من قبله، لم يعلن البشير عن وجود مجاعة، الأمر الذي كان سيسمح بتدفق الإمدادات الدولية إلى المحتاجين. بدلا من ذلك، شدّد سيطرة الدولة على المساعدات الإنسانية، ووضع مفوضية العون الإنساني مباشرة تحت إمرة جهاز المخابرات الوطنية، وشن حملة قمعية على المعارضة. تم انتقاء الدوائر الانتخابية ذات الأهمية السياسية للحصول على إمدادات الحبوب المحدودة، وظلّت الأولوية للخرطوم. ولضمان منع الاضطرابات في المناطق الحضرية، قام مجلس الأمن الغذائي، المُشكّل حديثا، بقطع إمدادات المياه عن مدن الصفيح في ضواحي العاصمة وهدم أكواخ النازحين وطردهم بالقوة من المدينة. حوّل الجيش مسار المساعدات الإنسانية من المناطق الريفية إلى المدن، تحت تهديد السلاح في بعض الأحيان. وكانت الإطاحة بالنميري، بسبب الاحتجاجات في الخرطوم، قد علّمت البشير درسا: يمكن الصمود في ظل المجاعات الهائلة إذا استمر إطعام المدن.
عندما صوّت جنوب السودان لصالح الانفصال، لم يعد بإمكانه الوصول إلى 75% من موارده النفطية، التي تشكّل غالبية صادراته بالدولار
أثبت نجاح البشير في نهاية المطاف فشله. أصبحت أقاليم المدن في السودان أفقر من أي وقت مضى، فاضطر الآلاف إلى الهجرة للمدن، فزادت بالتالي تكلفة دعم القمح. وكان سداد هذه التكاليف يتم بواسطة شكل جديد من إيرادات الدولة: صادرات النفط. لقد تم اكتشاف النفط في جنوب السودان في وقت مبكر خلال السبعينيات، لكن الحرب الأهلية أدّت إلى توقف عمليات التنقيب بشكل مفاجئ. ولم تُستأنف بشكل جاد إلا في التسعينيات، بعدما قامت الميليشيات المدعومة من الخرطوم بتهجير سكان الجنوب الذين يعيشون في مناطق غنية بالنفط. وفي 2005، بعد ضغوط أمريكية، انتهت الحرب الأهلية باتفاقية سلام، أعقبها في 2011 استفتاء على استقلال الجنوب. وعندما صوّت جنوب السودان لصالح الانفصال، لم يعد بإمكان السودان الوصول إلى 75% من موارده النفطية، التي تشكّل غالبية صادراته بالدولار.
حاول البشير باضطراب إعادة توجيه الاقتصاد، فأقرض الأراضي الزراعية للمستثمرين الخليجيين، لكن ذلك لم يكن كافيا. وكانت القشة الأخيرة هي القمح. ففي عام 2018، رفع نظامه دعم الغذاء والوقود بإيعاز من صندوق النقد الدولي، فزاد أسعار المواد الغذائية ثلاثة أضعافها، وأثار الاحتجاجات في أنحاء البلاد. ولم يعد بإمكان أطفال المدارس في ولاية النيل الأزرق شراء الخبز، فخرجوا إلى الشوارع يهتفون ضد النظام. وسرعان ما اتّسعت الانتفاضة: فسار في الخرطوم مهاجرو الأطراف إلى جانب أطفال النخبة، وقد سئموا ثلاثين عاما من الاستبداد. طالب المتظاهرون بنظام غذائي جديد يضمن الأمن الغذائي لجميع المواطنين. وفي نيسان/ أبريل 2019، بينما لا تزال هذه المناقشة في مهدها، أُطيح بالبشير في انقلاب آخر، قاده تحالف هش بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
تشكّلت حكومة مدنية عسكرية انتقالية، ترأسها عبد الله حمدوك، الخبير الاقتصادي والبيروقراطي السابق في الأمم المتحدة. وبدلا من احترام مطالب المحتجين بنظام غذائي جديد، توجّهت حكومته إلى صندوق النقد وإلى البنك الدولي، اللذين طالبا بتقليص دعم الغذاء والوقود كشرط لتخفيف الدين ولمزيد من القروض، وهو ما كانت الدولة في أمسّ الحاجة إليه لتثبيت التضخم المستشري. فشلت الخطة. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2020، بلغ معدل التضخم 269%، وارتفع بعد عام واحد إلى 318%. ولم ينجح على الإطلاق برنامج دعم الأسرة الذي يدعمه البنك الدولي، والذي كان يهدف إلى تقديم الأموال النقدية للأسر الفقيرة. زادت أسعار القمح ثلاثة أضعافها. وفي آب/ أغسطس 2021 وحده، ارتفعت أسعار الذرة بنسبة 977%. وقد شعرت الخرطوم بهذه الأزمة، بقدر ما شعرت بها ولاية النيل الأزرق.
خشيت قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من تدخل حكومة مدنية بالكامل لكبح جماح أعمالهم التجارية العديدة. (فخلال حكم البشير، شيّد كل جهاز أمني إمبراطوريته الاقتصادية الخاصة، بمصالح في الذهب والعقارات والخدمات المصرفية والزراعة وكثير غير ذلك). اغتنم الجيش المبادرة، فحرّض على مظاهرات مُدبرة في الخرطوم ضد حكومة حمدوك، وعلى احتجاجات في شرق البلاد. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2021، تولّى السلطة في انقلاب ذاتي كلٌّ من عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، وحميدتي، قائد قوات الدعم السريع. كان الجيش حتى ذلك الحين يمنع إمدادات دقيق القمح، أما الآن فقد ظهرت الإمدادات بشكل غامض على رفوف متاجر الخرطوم لبضعة أسابيع، في تكرار لقواعد اللعب التي اتبعها البشير.
لم يبذل المجلس العسكري الجديد سوى قليل من الجهد لحل أزمة الجوع في السودان، التي تفاقمت بعد توقف المساعدات الدولية في أعقاب الانقلاب. وضاعف غزو روسيا لأوكرانيا أسعار القمح العالمية تقريبا في غضون شهر واحد. وبحلول نهاية 2022، وتزايد الخلاف بين حميدتي والبرهان، قدّر برنامج الأغذية العالمي أن حوالي 15 مليون شخص في أنحاء البلاد يعانون من انعدام الأمن الغذائي. في ذلك العام، أجرت لجنة المعلمين السودانيين دراسة استقصائية عن أجور موظفي الخدمة المدنية، ووجدت أن متوسط دخل المعلمين يغطي 13% فقط من نفقاتهم. إن ارتفاع معدلات التضخم، وتضاؤل القوة الشرائية، وتجدد الصراع في دارفور، وانخفاض المخزون الغذائي، وعدم انتظام الأمطار، قد أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقص الحبوب بمقدار 2.75 مليون طن.
تم إجلاء جميع عمال الإغاثة الدوليين تقريباً من البلاد، تاركين الشعب السوداني يدبر أمره بنفسه
مرحلة جديدة من الحرب
إن الصراع الذي اندلع في نيسان/ أبريل 2023 هو أول حرب أهلية تدور في العاصمة السودانية. فرّ سكان الخرطوم بشكل جماعي، تشير التقديرات إلى أن عدد سكانها قد انخفض من 6 ملايين إلى مليون واحد. سافر إلى خارج البلاد أولئك الذين يستطيعون تحمل التكاليف، أما البقية فهربوا إلى الجنوب والشرق والشمال. في بداية الحرب، دخل مقاتلو قوات الدعم السريع دارا دارا لنهب ممتلكات المدنيين فيها. واستولى الجانبان على المخزون الغذائي الإنساني. وتم إجلاء جميع عمال الإغاثة الدوليين تقريبا من البلاد، تاركين الشعب السوداني يدبر أمره بنفسه.
وقد دبر الشعب أمره بشكل مثير للإعجاب. فقامت غرف الطوارئ (ERRs) والمنظمات الشعبية بإنشاء مطابخ للطعام، وإصلاح موارد المياه، والمساعدة المتبادلة. وهي خدمات يقدمونها في ظروف خطيرة. فالخرطوم مُقسمة إلى مناطق سيطرة، وبالتالي حركة المدنيين فيها مُقيدة والوصول إلى الأسواق صعب. ولا يملك المنظمون خيارا سوى عقد صفقات مع السلطات المحتلة. وكما كانت الحال في الحروب الأهلية السابقة، استفادت القوات العسكرية ونخب رجال الأعمال من الجوع. وفي أجزاء كثيرة من الخرطوم، تربعت قوات الدعم السريع على قمة اقتصاد السماسرة والمهربين والتجار غير الشرعيين، الذين يبيعون السلع الأساسية بثلاثة أضعاف سعرها قبل الحرب.
انتشر الصراع بسرعة من الخرطوم نحو الغرب. وبحلول نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، كانت جميع المدن الرئيسية في دارفور، باستثناء الفاشر، قد سقطت في أيدي ميليشيا حميدتي، حيث اجتاحت قوات الدعم السريع مواقع الجيش وقطعت خطوط إمداده. فالقوات البرية التابعة للقوات المسلحة السودانية، والمؤلفة من السكان المحليين الجياع، لم يكن لديها حافز كبير للقتال في سبيل مجموعة ضباط متصلبة في الخرطوم. وقد دمّرت قوات الدعم السريع مؤسسات الدولة في كل مدينة خلال نهبها السلع المدنية والموارد الإنسانية.
تتكوّن قوات الدعم السريع في دارفور إلى حد كبير من الميليشيات العربية، التي استغلت الحرب الحالية لمواصلة حملة تطهير عرقي ضد السكان المحليين غير العرب. وكما فعل الجنجويد قبل عشرين عاما، أحرقت قوات الدعم السريع القرى، ودمرت الأراضي الزراعية، وسمّمت آبار المياه، وهجّرت خلال ذلك قبائل المساليت والفور والزغاوة أو قتلتهم. وقد توصّل مركز راؤول فالنبرغ لحقوق الإنسان إلى أن هذه الاعتداءات تشكّل أعمال إبادة جماعية.
وفي منتصف كانون الأول/ ديسمبر، انتقلت الحرب شرقا إلى ولاية الجزيرة «سلة الخبز»، التي تقع إلى الجنوب الشرقي من الخرطوم، وهي منطقة أساسية في الإنتاج الزراعي السوداني. سيطرت قوات الدعم السريع على قرى في شمال الولاية سريعا، فنهبت الأسواق والمنازل على طول الطريق، قبل أن تستولي على العاصمة ود مدني، دون مقاومة تذكر من القوات المسلحة السودانية. وانخرطت منذ ذلك الحين في عمليات نهب على نطاق ضخم. فسرقت البنك الزراعي، وكذلك مجمّع برنامج الأغذية العالمي الذي كان يحتوي، وفق الأمم المتحدة، على ما يكفي شهرا من الغذاء اللازم لإطعام 1.5 مليون شخص يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي. واستباحت قوات الدعم السريع كذلك منازل المدنيين وأجبرت المزارعين على تحميل محاصيلهم في مركبات منتظِرة. ففرّ كثير من المزارعين. وساهمت هذه الاضطرابات في حصاد كارثي.
تدخل الحرب الآن مرحلة جديدة. فمنذ سقوط ود مدني، والقوات المسلحة السودانية تقاتل في الجزيرة ومنطقة الخرطوم الكبرى، بمساعدة طائرات درون إيرانية وميليشيات دفاع محلية. وهناك جزء آخر من استراتيجية القوات المسلحة السودانية يتمثل في نشر الصراع، لاستنزاف قوات الدعم السريع وسحب قواتها بعيدا عن الخرطوم والجزيرة. وتتمثل إحدى الجبهات في الفاشر، التي تسيطر عليها جماعات متمردة غير عربية ظلت في البداية محايدة بشكل غامض وحققت وفاقا غير مستقر مع قوات الدعم السريع. لكن التحالف انقسم في مارس، عندما انضمت عدة فصائل متمردة سابقا إلى القوات المسلحة السودانية لمهاجمة قوات الدعم السريع في وسط السودان. وردا على ذلك، هاجمت قوات الدعم السريع قرى غير عربية حول الفاشر وأحرقتها، وتدور هناك الآن اشتباكات داخل المدينة نفسها.
احتلت قوات الدعم السريع بلدة مليط القريبة، وقطعت طرق الإمداد إلى الفاشر. وفي الشهر الماضي، دمّرت هجمات الميليشيات أجزاء من مخيم أبو شوك للنازحين داخليا، في الشمال الغربي، والذي يأوي حوالي 100 ألف شخص، وأفاد مختبر ييل للأبحاث الإنسانية أن قوات الدعم السريع قامت بضرب المدنيين هناك وتعذيبهم وقتلهم. لقد تم بالفعل إغلاق مركزَين صحيَين، وشاحنات المساعدات الواردة لا تلبّي إلا 2% فقط من احتياجات المدينة الغذائية. إن الفاشر تتعرض للقتل بالتجويع.
في أجزاء كثيرة من الخرطوم، تربعت قوات الدعم السريع على قمة اقتصاد السماسرة والمهرّبين والتجار غير الشرعيين
ما الذي يفسر إذن امتثال الأمم المتحدة؟
إن الطرفان المتحاربان يتحملان المسؤولية عن الكارثة الحالية في المقام الأول بطبيعة الحال. لكن قرارات الأمم المتحدة لم تؤد إلا إلى تفاقم الأمور، لا سيما اختيارها الامتثال للقوات المسلحة السودانية من أجل تفويض الصلاحيات. فمن الناحية القانونية، تلتزم وكالات الأمم المتحدة باحترام الدول القومية التي تعمل فيها. لكن السودان لا توجد فيها دولة ذات سيادة: لقد فقدت القوات المسلحة السودانية كل سلطتها الدستورية عند انقلابها في العام 2021، الذي تم بعده تعليق عضوية البلاد في الاتحاد الأفريقي. وعلى أي حال، فإن الجيش بالكاد يسيطر على نصف السودان.
ما الذي يفسر إذن امتثال الأمم المتحدة؟ من المرجح أن يكون سبب ذلك هو قرار البرهان المفاجئ في كانون الأول/ديسمبر الماضي إنهاء بعثتها السياسية، بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، التي ادّعى أنها تتدخّل في الشؤون السيادية للبلاد. وهناك مسؤولون أخبرونا بشكل خاص أنهم يخشون أن تواجه وكالات الأمم المتحدة المصير نفسه إذا عصت القوات المسلحة السودانية.
ومنذ حزيران/يونيو، سمحت القوات المسلحة لقافلتَين فقط من قوافل المساعدات عبر الحدود، التابعة لبرنامج الأغذية العالمي، أن تدخلا من الطينة، وهي بلدة في أقصى شرق تشاد، وبها المعبر الوحيد الذي تسيطر عليه. إن القوات المسلحة لا تزال تمنع وصول المساعدات من خلال المناطق الحدودية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، ولا تزال وكالات الأمم المتحدة ممتثلة لقراراتها.
ومع ذلك فإن الأمم المتحدة تتمتع بنفوذ أكبر مما تريد الاعتراف به. ففي الاجتماعات التي عقدناها مع العاملين في المجال الإنساني في العواصم الإقليمية، كان الشعور السائد هو أن برنامج الأغذية العالمي أكبر من أن يتم طرده، فالقوات المسلحة السودانية تعتمد عليه لتزويد المناطق التي تسيطر عليها بالغذاء، ولولا ذلك لأصبحت تلك المناطق بائسة وتأييدها للجيش مهددا. وقد زادت بعض الجهات المانحة الدولية والمنظمات غير الحكومية من ضغوطها على الأمم المتحدة حتى تواجه تهديد القوات المسلحة السودانية المخادع. لقد نفذت العديد من المنظمات غير الحكومية عمليات عبر الحدود منذ بدء الحرب في الواقع، وهو ما يشير إلى أن الأمم المتحدة تستطيع فعل ذلك أيضاً.
كما أن وكالات الأمم المتحدة، ومقرها بورتسودان، تدفع رسوما إدارية وإيجارات كبيرة للقوات المسلحة السودانية. فالتعتيم البيروقراطي صناعة مربحة. والقوات المسلحة تكسب الأموال من تصاريحها التي لا تنتهي، وتمتلك غالباً المساكن التي يقيم فيها العاملون في المجال الإنساني وشركات النقل بالشاحنات التي يستخدمونها للقوافل. والعديد من الموظفين المحليين في الوكالات يعملون أيضا مع القوات المسلحة، كما أخبرنا موظفون دوليون بشكل خاص.
إن أفضل خطة إنسانية ممكنة هي أن تقوم الأمم المتحدة بنقل مركز عملياتها من بورتسودان إلى عاصمة إقليمية مثل نيروبي، خارج سيطرة القوات المسلحة السودانية. وأن تقوم بعد ذلك بإنشاء مراكز عبر الحدود في تشاد وجنوب السودان، حيث يتفاوض كل منها بشكل مباشر مع القوات المحلية، بما في ذلك قوات الدعم السريع. ويمكن إنشاء مركز توزيع إداري بحت آخر في بورتسودان، لتوصيل المساعدات إلى الأراضي التي تسيطر عليها القوات المسلحة. قد يتم طرد الأمم المتحدة للقيام بعمليات عبر الحدود. لكن هذا لا يزال مستبعدا، نظرا لاحتياجات الموجودين في مناطق القوات المسلحة والوضع الاقتصادي المتردي في البلاد بشكل عام.
إن هذا حد أدنى لما هو مطلوب، وليس حلا سحريا. والعمل مع قوات الدعم السريع سيكون عسيرا مثل العمل مع القوات المسلحة السودانية. فكلا الطرفين المتحاربين يريد تحويل المساعدات إلى الناخبين الموالين، ومنعها من الوصول إلى خصومهم، بينما يفرضون على الوكالات الإنسانية دفع الأموال. ومن المرجح أن يجدوا بعض النجاح في هذه المساعي. لكن العمل الإنساني من جهة أخرى هو عمل معقد من الناحية الأخلاقية على الدوام.
في 11 حزيران/ يونيو، صرّح المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، توم بيرييلو، لرويترز قائلاً «نعلم أننا في مجاعة«. ومع ذلك، لم تعلن الأمم المتحدة شيئا كهذا حتى الآن. أخبرنا كثير من العاملين في المجال الإنساني أن المنظمة «تنتظر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي»، الذي يجري حاليا تقييماً، هو الأول منذ تشرين الأول/أكتوبر، بالتعاون مع القوات المسلحة السودانية، التي لديها دوافع واضحة لتأخير مثل هذا الإعلان. ومع ذلك، لا يوجد سبب رسمي يمنع برنامج الأغذية العالمي من إعلان المجاعة من جانب واحد، فمن المرجح أن يؤدي هذا إلى مزيد من التمويل الإنساني وزيادة الضغط على القوات المسلحة حتى تسمح للعاملين في المجال الإنساني بالوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
في غياب أي تغيير مفاجئ في السياسة، قد يصبح السودان ثاني فشل مدمر للأمم المتحدة في أفريقيا خلال هذا العقد. ففي حزيران/ يونيو، كان هناك تقييم شامل مشترك بين الوكالات للاستجابة الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة في شمال إثيوبيا، التي كانت مسرحا لحرب أهلية من 2020 إلى 2023. وبعد سنوات من التوتر بين إقليم تيغراي والنظام الإثيوبي بقيادة آبي أحمد، دارت الحرب بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والقوات الحكومية التي تتعاون مع الجيش الإريتري. وارتكب الجانبان مجازر، وفرضت الحكومة حصارا على تيغراي. فمات أكثر من 500 ألف شخص، والسبب الأساسي في ذلك هو الجوع والأمراض المرتبطة بسوء التغذية. ويصف التقييم المشترك بين الوكالات كيف أذعنت الأمم المتحدة للقيود المفروضة على وصول المساعدات من قبل حكومة آبي، وفشلت في تنسيق عملياتها بشكل متماسك. كان هناك حوالي 7700 طن من المساعدات الغذائية قد تم تحويلها إلى الدولة الإثيوبية وإلى الأسواق، ما دفع الولايات المتحدة، الجهة المانحة الرئيسية لبرنامج الأغذية العالمي، إلى إيقاف جميع المساعدات المالية لمدة خمسة أشهر. وانتهى التقييم إلى أن الاستجابة الإنسانية كانت بمثابة فشل منهجي. إن وكالات الأمم المتحدة الممتثلة للقوات المسلحة في السودان تخاطر بالوقوع في الفخ نفسه.
أخبرنا أحد كبار المسؤولين الأميركيين إن ضمان وقف إطلاق النار في السودان هو أقل أهمية من الحفاظ على دولة الإمارات في جانب أميركا: ضد إيران ومع إسرائيل
تورط الامارات: مع اسرائيل ضد ايران
بعد عام من الحرب، تزايدت عسكرة السودان. وفي مواجهة النقص الحاد في المشاة، قامت القوات المسلحة السودانية بتسليح المجتمعات المحلية. ومن جانبها، توسعت قوات الدعم السريع بشكل كبير، وباتت تصارع للسيطرة على القوات التي أطلقت لها العنان. وفي جميع أنحاء البلاد، أدّت الحرب إلى زيادة الانقسامات العرقية على الأرض والسلطة. ففي جنوب كردفان وغربها، أصبح الصراع بين الجماعات العربية وغير العربية منفصلا بشكل متزايد عن المعركة على الخرطوم. وهناك قوى أجنبية متورطة أيضا. فالقوات المسلحة السودانية متحالفة مع مصر وإيران وروسيا، بينما قوات الدعم السريع متحالفة مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
إن حسابات بايدن في السودان حتى الآن مستخفة. أخبرنا أحد كبار المسؤولين الأميركيين في نيسان/ إبريل أن ما يتعين عليكم فهمه هو أن السودان، من منظور سياسي، يقع ضمن الخليج، وليس أفريقيا". وبعبارة أخرى، فإن ضمان وقف إطلاق النار في السودان أقل أهمية من الحفاظ على دولة الإمارات في جانب أميركا: ضد إيران ومع إسرائيل. ورغم ما وصلت إليه الأوضاع حتى الآن، لم تمارس الولايات المتحدة أي ضغوط مجدية على دولة الإمارات لتقليص دعمها لقوات الدعم السريع. ولكنها دعمت عملية سلام في جدة، لم يُظهر أي من الطرفين المتحاربين اهتماما بها، وكانت عمليا من باب تهدئة النظام السعودي.
إن هذه الحرب قد تستمر لعقود، ومن غير المُرجح أن يُجمع شتات البلاد لاحقا. فلم تعد هناك دولة يمكن الحديث عنها. إنما يتحدث الأصدقاء السودانيون عن أمة مُشرذمة، تديرها مجموعات مسلحة مختلفة. ولكن الجهود الدبلوماسية الدولية لم تقبل حتى الآن هذا الواقع. وبدلا من ذلك، يحلمون بالعودة إلى حكومة 2021 الانتقالية، قبل الانقلاب، بإدارة يقودها مدنيون، وتكون خاضعة لإملاءات صندوق النقد الدولي. لهذا يُزفّ حمدوك، الذي لا يتمتع بأي شرعية في السودان، بالأموال والدعم من النرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. «انسوا الخرطوم» يقول لنا أحد الأصدقاء المنفيين، «إن حمدوك لا يستطيع حتى أن يسير في شوارع القاهرة دون التعرض لانتقاد لاذع».
من السهل نسيان أن للجوع في السودان تاريخ سياسي طويل. فربما أدى الجفاف إلى انعدام الأمن الغذائي، لكن الحكومات هي التي تسبب المجاعات. وعلى مدار ستة عقود مؤلمة، قام حُكّام البلاد بعد الاستعمار بتسليح الجوع، فاختاروا الحياة لمجموعة قليلة، وتركوا الباقين للموت. إن عمل غرف الطوارئ وغيرها من المنظمات الشعبية يطرح رؤية سياسية أخرى للنظام الغذائي: رؤية تعالج الاحتياجات قبل الديون، وتضع الناس فوق أسواق التصدير، ومبدأها السيادي ألا يعاني أحد من الجوع. لكن تحقيق مثل هذا النظام على المستوى الوطني، بالحجم الذي تتطلبه المجاعة، أمر لا يمكن تصوره اليوم.
نُشر هذا المقال في New York Review of Books في 22 حزيران/يونيو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. أضاف محرّرو موقع «صفر» العناوين الفرعية.