Preview undemocratic

الواقع غير الديمقراطي للرأسمالية

يروق لأنصار الرأسمالية القول إنها ديمقراطية أو تُناصِر الديمقراطية. وبالغ البعض في استخدام اللغة إلى حدّ مساواة الرأسمالية بالديمقراطية مستخدمين المصطلحين كمرادفين للمعنى نفسه. وبمعزل عن عدد المرّات التي تكرّر فيها الأمر فهو غير صحيح ببساطة ولم يكن صحيحاً يوماً. والواقع، القول إن الرأسمالية والديمقراطية متعارضان هو أكثر دقّة بكثير. ولكي نفهم السبب ما علينا إلّا أن ننظر إلى الرأسمالية باعتبارها نظامَ إنتاج، يدخل فيها الموظّفون في علاقة مع أصحاب العمل، يكون فيها عدد قليل من الناس رؤساء، فيما تؤدّي الغالبية ما تؤمر بالقيام به. وهذه العلاقة ليست ديمقراطية بل أوتُوقرَاطية.

فور عبورك عتبة باب مكان العمل، مثل المصنع أو المكتب أو المتجر، فإنك تترك أي شكل من الديمقراطية موجود في الخارج، وتدخل إلي مكان عمل خالٍ من أي ديمقراطية. هل تتّخذ الغالبية - وهنا نعني الموظّفين - القرارات التي تؤثّر على حياتها؟ الإجابة هي لا من دون أي لَبس. مَن يدير المؤسّسة في النظام الرأسمالي، أي المالكون أو مجلس الإدارة، يتَّخذ كل القرارات الرئيسة: ما تُنتجه المؤسّسة، والتكنولوجيا التي تستخدمها، ومكان الإنتاج، وكيف تُستخدَم أرباح المؤسّسة. يُستبعد الموظّفون من اتخاذ هذه القرارات ولكنهم مضطرون إلى التعايش مع العواقب التي تؤثّر عليهم بشدة. ويتعيّن على الموظّفين إما قبول آثار قرارات أصحاب العمل أو ترك وظائفهم للعمل في مكان آخر، والذي سيكون على الأرجح منظّماً بالطريقة غير الديمقراطية نفسها.

الرأسمالية باعتبارها نظامَ إنتاج، يدخل فيها الموظّفون في علاقة مع أصحاب العمل يكون فيها عدد قليل من الناس رؤساء فيما تؤدّي الغالبية ما تؤمَر بالقيام به. وهذه العلاقة ليست ديمقراطية بل أوتُوقرَاطية

صاحب العمل أوتوقراطِي داخل المؤسّسة الرأسمالية، مثله مثل ملك على رأس نظام ملكي. على مدى القرون القليلة الماضية، «أُطيح» بالملكيات واستبدلتها «ديمقراطيات» تمثيلية انتخابية. ولكن الملوك ظلوا موجودين. غيَّروا موقعهم وألقابهم فقط. وانتقلوا من المناصب السياسية في الحكومات إلى المناصب الاقتصادية داخل المؤسّسات الرأسمالية. وبدلاً من لقب ملوك، بات يُطلق عليهم أصحاب عمل أو مُلَّاك أو رؤساء تنفيذيين. وهناك، يجلسون على رأس المؤسّسة الرأسمالية، ويمارسون الكثير من السلطات الشبيهة بسلطات الملوك، غير مسؤولين أمام الذين يحكمونهم.

ظلت الديمقراطية بعيدة من المشاريع الرأسمالية لقرون من الزمان. والكثير من المؤسّسات الأخرى الموجودة في المجتمعات التي تسود فيها المشاريع الرأسمالية - الأجهزة الحكومية، والجامعات والكلّيات، والأديان، والجمعيات الخيرية - تتَّسم بالقدر نفسه من الأوتوقراطية. وكثيراً ما تنسخ علاقاتها الداخلية أو تعكس العلاقة بين صاحب العمل والموظّف داخل المشاريع الرأسمالية. وبذلك، تحاول هذه المؤسّسات «العمل بطريقة عملية تُشبه الشركات».

تُبلِّغ الشركات الرأسمالية المعادية للديمقراطية الموظّفين بأن مُدخلاتهم لا تلقى ترحيباً حقيقياً ولا يسعى إليها رؤساؤهم. وبالتالي يستسلم الموظّفون في الغالب لموقفهم العاجز في مكان عملهم مقارنة بالرئيس التنفيذي. كما يتوقّعون الأمر نفسه في علاقاتهم بالزعماء السياسيين، الذين هم نُظرَاء الرؤساء التنفيذيين في الحكومات. إن عدم القدرة على المشاركة في إدارة أماكن عملهم، تُدرِّب المواطنين على افتراض الأمر نفسه فيما يتّصل بإدارة مجتمعاتهم السكنية والقبول به. يصبح أصحاب العمل مسؤولين سياسيين كباراً، والعكس صحيح، لأنهم اعتادوا على «تولي المسؤولية». وتعكس الأحزاب السياسية والبيروقراطيات الحكومية المؤسّسات الرأسمالية من خلال إدارتها بشكل أوتوقراطي في حين تصف نفسها باستمرار بأنها ديمقراطية.

يعمل غالبية البالغين 8 ساعات على الأقل لمدة 5 أيام أو أكثر في الأسبوع في أماكن العمل الرأسمالية، تحت سلطة صاحب العمل وإدارته. والواقع غير الديمقراطي لمكان العمل الرأسمالي يترك آثاره المعقَّدة ومتعدّدة الطبقات على كل المتعاونين سواء بدوام جزئي أو بدوام كامل. إن مشكلة الرأسمالية مع الديمقراطية - يتناقض الإثنان بشكل أساسي مع بعضهما البعض - تُشكِّل حياة الكثير من الناس. يُقرِّر إيلون ماسك وجيف بيزوس وعائلة والتون (أحفاد مؤسِّس «وول مارت»)، إلى جانب حفنة من كبار المساهمين الآخرين، كيفية إنفاق مئات المليارات. تجلب قرارات بضع مئات من المليارديرات التنمية الاقتصادية والصناعة والمؤسّسات إلى بعض المناطق وتؤدّي إلى التدهور الاقتصادي في مناطق أخرى. ويُستبعد مليارات الأشخاص المتأثرين بقرارات الإنفاق هذه من المشاركة في اتخاذها. ويفتقر هؤلاء الأشخاص الذين لا حصر لهم إلى القوّة الاقتصادية والاجتماعية التي تمارسها أقلية صغيرة غير مُنتخبة وثريّة بشكل فاحش من الناس. هذا هو نقيض الديمقراطية.

إن عدم قدرة الموظّفين على المشاركة في إدارة أماكن عملهم، تجعل  أصحاب العمل مسؤولين  كباراً، والعكس صحيح، لأنهم اعتادوا على «تولي المسؤولية»

إن أصحاب العمل كطبقة، يقودها في كثير من الأحيان كبار المساهمين والرؤساء التنفيذيين الذين يُثرونهم، يستخدمون ثرواتهم أيضاً لشراء الأحزاب السياسية والمرشحين والحملات الانتخابية - يفضّلون أن يقولوا «التبرّع». أدرك الأثرياء دوماً أن حق التصويت الشامل أو حتى واسع النطاق يخاطر بتصويت الغالبية من غير الأثرياء لإلغاء تفاوت الثروة في المجتمع. وعليه، فإن الأثرياء يسعون إلى السيطرة على أشكال الديمقراطية القائمة للتأكّد من أنها لن تتحوّل إلى ديمقراطية حقيقية، بما يمكّن غالبية الموظّفين من التفوّق على أقلية أصحاب العمل من خلال التصويت.

إن الفوائض الضخمة التي يستولي عليها أصحاب الأعمال الكبار - الشركات عادة - تسمح لهم بمكافأة كبار المسؤولين التنفيذيين بسخاء. ويستخدم الرؤساء التنفيذيون، الذين يُعَدون تقنياً «موظفين» أيضاً، ثروات الشركات وسلطتها للتأثير على السياسة. وتتلخّص أهدافهم في إعادة إنتاج النظام الرأسمالي وبالتالي الخدمات والمكافآت التي يمنحهم إياها هذا النظام. يجعل الرأسماليون وكبار موظّفيهم النظام السياسي يعتمد على أموالهم أكثر من اعتماده على أصوات الناس.

لكن كيف تجعل الرأسمالية الأحزاب السياسية الكبرى والمرشّحين يعتمدون على تبرّعات أصحاب العمل والأثرياء؟ يحتاج السياسيون إلى مبالغ ضخمة من المال للفوز من خلال الهيمنة على وسائل الإعلام كجزء من حملات مُكلِفة. وهم يجدون المانحين المستعدّين من خلال دعم السياسات التي تفيد الرأسمالية ككلّ، أو صناعات ومناطق ومؤسّسات بعينها. وفي بعض الأحيان، يذهب المانحون إلى السياسيين. ويوظّف أصحاب العمل جماعات الضغط - الأشخاص الذين يعملون بدوام كامل، طوال العام، للتأثير على المرشّحين الذين يتم انتخابهم. ويموِّل أصحاب العمل «مراكز البحوث» لإنتاج تقارير عن كل قضية اجتماعية حالية ونشرها. والغرض من هذه التقارير هو بناء الدعم العام لما يريده المموِّلون. وبهذه الطرق وغيرها، يعمل أصحاب العمل وأولئك الذين يُثرونهم على تشكيل النظام السياسي بطريقة تعمل لصالحهم.

لا تملك غالبية الموظّفين ثروة أو سلطة مماثلة. تتطلّب ممارسة القوة السياسية الحقيقية تنظيماً هائلاً لتنشيط الموظّفين وتوحيدهم وتعبئتهم حتى يصبح عددهم قادراً على التراكم ليشكِّل قوة حقيقية. وهذا يحدث نادراً وبصعوبة بالغة. فضلاً عن ذلك، فقد شُكِّل النظام السياسي في الولايات المتّحدة على مدى عقود من الزمان بحيث لم يتبقَ سوى حزبين رئيسين. وكلاهما يؤيد الرأسمالية ويدعمها علناً وبفخر. ويتعاونان معاً لعرقلة اكتساب أي حزب آخر موطئ قدم، أو بزوغ أي حزب سياسي مناهض للرأسمالية. تُكرِّر الولايات المتّحدة بلا نهاية التزامها بأقصى قدر من حرّية الاختيار لمواطنيها، ولكنها تستبعد الأحزاب السياسية من هذا الالتزام.

يستخدم الرؤساء التنفيذيون، وهم تقنياً «موظّفون» أيضاً، ثروات الشركات وسلطتها للتأثير على السياسة. وتتلخّص أهدافهم في إعادة إنتاج النظام الرأسمالي وبالتالي الخدمات والمكافآت التي يمنحهم إياها هذا النظام

تدور الديمقراطية حول «شخص واحد، صوت واحد» - وهي الفكرة التي تقول إننا جميعاً لدينا رأياً متساوياً في القرارات التي تؤثِّر علينا. لكن هذا ليس ما لدينا الآن. إن الذهاب إلى صناديق الاقتراع مرّة أو مرّتين في السنة واختيار مرشح يمثَّل مستوى مختلفاً من النفوذ عن مستوى عائلة روكفلر أو جورج سوروس. فهم، عندما يريدون التأثير على الناس، يستخدمون أموالهم. وليست هذه هي الديمقراطية.

الديمقراطية غير مقبولة في ظل الرأسمالية، لأنها بأصوات الغالبية تهدّد الثروة غير الموزّعة بالتساوي لصالح الأقلية. ومع أو من دون مؤسّسات ديمقراطية رسمية، مثل الانتخابات بالاقتراع العام، تعمل الرأسمالية على تقويض الديمقراطية الحقيقية لأن أصحاب العمل يسيطرون على الإنتاج، وفائض القيمة وكيفية توزيعه. وبالنسبة إلى زعماء الرأسمالية، فإن الديمقراطية هي ما يقولونه وليس ما يفعلونه. 

أنتِج هذا النص المُستخرج من كتاب ريتشارد وولف «فهم الرأسمالية» (الديمقراطية في العمل، 2024) من قبل Economy for All، ونشر في 4 آب/أغسطس 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي، ومن ثمّ تُرجم إلى العربية وأعيد نشره في موقع «صفر».

ريتشارد وولف

اقتصادي أميركي تركّز أعماله على الاقتصاد الماركسي والمنهجية الاقتصادية والتحليل الطبقي، هو أستاذ الاقتصاد الفخري في جامعة ماساتشوستس - أميرست، وحالياً أستاذ زائر في برنامج الدراسات العليا في العلاقات الدولية في جامعة نيوسكول في نيويورك. مُعدّ ومقدّم برنامج إذاعي أسبوعي بعنوان «Economic Update»، ومؤِّلف كتب عدّة منها «فهم الماركسية»، «الديمقراطية في العمل»، «المرض هو النظام: عندما تفشل الرأسمالية في إنقاذنا من الأوبئة أو من نفسها»، «فضيحة الرأسمالية: الانهيار الاقتصادي العالمي وماذا نفعل حيال ذلك»، «النظريات الاقتصادية المتنافسة: الكلاسيكية الحديثة، الكينزية والماركسية».