أزمات الرأسمالية الست

  • مراجعة لكتاب «الأزمات الست للاقتصاد العالمي» تأليف خوسيه تابيا، الذي يقدّم قراءة أساسية للأدلة التي تدعم وجهة نظر ماركس بأن الأزمات مستوطنة في الرأسمالية ومعمّمة الآن في شتى أنحاء العالم. فالأزمات الاقتصادية الكبرى تحدث مرة واحدة على الأقل كل عقد، والمحاولات الفاشلة لإنشاء مؤسسات «حوكمة عالمية» تُظهر أن قدرة اقتصاد السوق على تنظيم نفسه وتحقيق نتائج اجتماعية فعّالة هي مجرد خرافة.

يصدر خوسيه تابيا كتاباً جديداً عن الاقتصاد العالمي. وتابيا أستاذ في العلوم السياسية في جامعة دريكسيل، فيلادلفيا، حيث يعطي دروساً في الاقتصاد السياسي الدولي، والاقتصاد السياسي لتغيّر المناخ، والتنمية الاجتماعية، والأحزاب السياسية. وبالإضافة إلى حيازته درجات علمية في الاقتصاد والطب والصحّة العامة، عمل سابقاً في نظام الضمان الاجتماعي الإسباني، ومنظمة الصحة العالمية، وجامعة ميشيغن. وقدّم في كتبه وأوراقه البحثية العديدة، باللغتين الإسبانية والإنكليزية، مساهمات مهمة في اقتصاديات الصحة، وفهم تغيّر المناخ، وشرح الأزمات الرأسمالية من وجهة نظر ماركسية.

في كتابه الجديد، الأزمات الست للاقتصاد العالمي، يقدّم للقارئ تحليلاً «للصورة الكبيرة» للاقتصاد الرأسمالي منذ السبعينيات. ويحدّد تابيا ست أزمات في الاقتصادات الرأسمالية منذ السبعينيات. حدثت الأزمة الأولى في منتصف السبعينيات، والسادسة في العام 2020، في زمن تفشّي جائحة كوفيد-19.

إن الاقتصاد العالمي، وليس الاقتصادات الوطنية، هو الوحدة الرئيسية التي يتعيّن تحليلها حين نحاول فهم الواقع الاقتصادي في عصرنا، وبالأخص واقع الأزمات

يبني نهجه النظري على ما سُمِّي بنظرية النُظم العالمية، التي طرحها إيمانويل والرشتاين وآخرون. والرأي هنا أننا لا ينبغي أن نتفكر بطبيعة الأزمات الاقتصادية في الإنتاج والاستثمار الرأسماليين على مستوى الاقتصاد الوطني، إنما انطلاقاً من ديناميات الإنتاج والاستثمار والتجارة العالمية. وعلى حد تعبير تابيا: «فإن الاقتصاد العالمي، وليس الاقتصادات الوطنية، هو الوحدة الرئيسية التي يتعيّن تحليلها حين نحاول فهم الواقع الاقتصادي في عصرنا، وبالأخص واقع الأزمات».

يرى تابيا أن هذا هو الحال في القرن الحادي والعشرين بشكل خاص، حين أصبحت جميع اقتصادات العالم متكاملة للغاية الآن من خلال التجارة وتدفقات رأس المال؛ أيّ لا يوجد اقتصاد يُمكن أن يكون جزيرة معزولة؛ إنما على العكس من ذلك، ترتبط الثروات الاقتصادية للاقتصادات الكبرى، بما فيها الاقتصاد الأميركي الرائد، ببعضها ارتباطاً وثيقاً. ونعود  إلى تابيا الذي يقول: «لدينا اليوم اقتصاداً عالمياً رأسمالياً، اقتصاد يشمل الكرة الأرضية برمّتها، لكن لا يوجد أيّ شيء آخر [...] يبدأ الأمر في نهاية القرن التاسع العشر، لكنها المرّة الأولى في التاريخ البشري التي يوجد فيها نظام تاريخي واحد فقط على الكوكب في وقت معيّن. وهذا يغيّر أشياء كثيرة». فالأزمات أو الانكماشات في الاقتصادات الكبرى تتزامن على نحوٍ متزايد مع تلك التي حدثت في مطلع القرن، في العامين 2008 و2009 وفي العام 2020. والحال أن في العام 2020، عانت 85% أو أكثر من البلدان من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهي أعلى نسبة على الإطلاق. 

يعرّف تابيا الأزمات بأنها «فترات من التباطؤ الكبير في النشاط الاقتصادي العالمي - مقاساً بالاستثمار، والقيمة النقدية للناتج الاقتصادي، والإنتاج الصناعي، والتجارة، والبطالة، وما إلى ذلك - التي تكون فيها عديد من الاقتصادات الوطنية، لكن ليس كلها، في حالة ركود عملياً».

يعتمد تابيا بشكل كبير على أعمال سابقة لاقتصاديين غير ماركسيين هما ويزلي ميتشل وجان تينبرغن اللذين، في رأيه، على الرغم من كونها اقتصاديين من التيار السائد، طوّرا نظرية للأزمات الرأسمالية الداخلية المتكرّرة من دراسات تجريبية. ونُبذت استنتاجاتهما أو رُفضت من قِبَل التيار السائد الذي رفض الاعتراف بأن الاقتصادات الرأسمالية تعاني من تقلّبات دورية أو وجود أزمات مستوطنة في الرأسمالية أقلّه. وكان تفسير ميتشل لهذه الدورات مقارباً جداً لتفسير ماركس. فيقول ميتشل: «حيث يسود اقتصاد نقدي، لا تُطوّر موارد طبيعية، ولا تُوفّر معدات ميكانيكية، ولا تُمارس مهارة صناعية، إلا إن كانت الشروط تعد بربح ماليّ لأولئك الذين يديرون الإنتاج. فصنع السلع أو إشباع الحاجات [...] يُحرّك النشاط الاقتصادي ويُوجّهه على الفور، ليس من خلال البحث عن إشباعات، بل من خلال البحث عن أرباح». وقد توصّل جان تينبرغن إلى خلاصات مماثلة لخلاصات ميتشل.

يرى تابيا أن ميتشل وتينبرغن كانا يتبعان ماركس بالقول والإثبات التجريبي أن الحركة في الاستثمار الإنتاجي قادت الاقتصادات الرأسمالية، وأن الاستثمار يعتمد على الحركة في أرباح التراكم. «منذ الدراسات المبكرة عن دورة الأعمال، من المعروف أن كلاً من الاستهلاك والاستثمار ينموان في فترات الانتعاش وينخفضان في فترات هبوط الدورة الاقتصادية، لكنّ الاستثمار متغيّر على نحوٍ أكثر تقلباً والانخفاض في الاستثمار في خلال الركود أكثر وضوحاً. والحال أن حصة الاستهلاك في الناتج المحلي الإجمالي عادةً ما تنمو في فترات الركود، مع انخفاض الاستثمار على نحوٍ حادّ وركود الناتج المحلي الإجمالي ذاته أو انكماشه». وحين يكون هناك انخفاض كافٍ في متوسط الربحية، فإن ذلك من شأنه أن يقلّل الاستثمار ليؤدّي إلى انهيار في الإنتاج والطلب ممّا يؤدي إلى ركود أو أزمة تالياً.

يُظهِر عمل تابيا أن معدّل الربح على رأس المال في السنوات السابقة مباشرةً للأزمات الست التي حدّدها أدت إلى انخفاض في الأرباح، «الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى انخفاض الاستثمار وتدفّقات الأموال اللاحقة باتجاه أنشطة المضاربة والاكتناز، وقد وُجد على نحوٍ متكرّر أن انخفاض الربحية يتزامن مع كل حالة من الركود على مستوى الاقتصادات الوطنية. على سبيل المثال، بلغت الأرباح ذروتها في العام 2007 وبدأت في الانخفاض مباشرةً قبل الركود الكبير؛ وبعد تعافيها في السنوات الأولى من العقد التالي، وصلت إلى ذروة أخرى في العام 2017 وبدأت منذ ذلك العام في انخفاض كان ينذر بأزمة حين كان الاقتصاد متوقفاً بسبب أوبئة كوفيد-19».

حيث يسود اقتصاد نقدي، لا تُطوّر موارد طبيعية، ولا تُوفّر معدات ميكانيكية، ولا تُمارس مهارة صناعية، إلا إن كانت الشروط تعد بربح ماليّ لأولئك الذين يديرون الإنتاج

 يشير تابيا إلى عديد من الاقتصاديين اليساريين، بما فيهم الماركسيين، رأوا بدلاً من ذلك أن ما سُميّ الركود الكبير في العامين 2008 - 2009 كان إحدى «لحظات مينسكي» التي سُميّت تيمناً بهيمان مينسكي ما بعد الكينزي الذي ادّعى أن الأزمات أو التدهورات كانت النتيجة لمضاربة مالية ودين مفرط، وليست «لحظة ماركسية» بسبب أيّ تغيير في الربحية. وقد عارضتُ في ورقة بحثية نظرياً وتجريبياً على حد سواء تفسير مينسكي لأزمة 2008-2009. ويوافق تابيا، فيقول إن المينسكيين «لم يفكروا في أن الأرباح الاقتصادية الأميركية، قبل الضرائب وبعدها، في الصناعات غير المالية والمالية، بلغت ذروة في الربع الثالث من العام 2006، أيّ قبل اندلاع الأزمة المالية». وإليكم نتائجي حول الاستهلاك والاستثمار في فترات التدهور أدناه.

بالنسبة إلى تابيا، تقود الأرباح الاستثمار، لذلك لم يركّز على أن الأزمات قائمة على «قصور الاستهلاك»، النظرية السائدة عن الأزمات ما بين الماركسيين. وفي رأي تابيا، فإن «نظريات قصور الاستهلاك لديها معيار علمي أدنى كثيراً من نظريات أخرى عن دورة الأعمال. وأشار جوزيف شومبيتر إلى شيء مشابه، مؤكداً أن نظرية قصور الاستهلاك، كما عرفها ماركس، هي قيد المناقشة لأنها تهمل الحقيقة الأولية بأن قصور الدخل الناتج من الأجور عن شراء المنتج بأسعار تغطي التكلفة لن يمنع الإنتاج استجابةً للطلب على السلع الفاخرة من ذوي المداخيل الناجمة من مصادر غير الأجور أو الاستثمار». لم يكن قصور الاستهلاك فحوى نظرية ماركس عن الأزمة: «ما يهم في الإنتاج الرأسمالي ليس قيمة الاستخدام الفوري إنما القيمة التبادلية، وخصوصاً، توسيع فائض القيمة. وهذا هو الدافع المحرّك للإنتاج الرأسمالي».

كما أن تابيا ليس لديه وقت لضرب من قصور الاستهلاك يحظى بشعبية كبيرة بين عديد من الماركسيين بدءاً بالاقتصادي البلشفي ماكساكوفسي، الذي يرى أن الأزمات الرأسمالية هي نتيجة «فرط الإنتاج» (الوجه الآخر لقصور الاستهلاك).

يعتقد تابيا أن تفسيرات الركود ناجمة عن افتقار إلى قوة شرائية بسبب انخفاض حصة العمل في الدخل الوطني - وهو ما طرحه اقتصاديون راديكاليون في السنوات الأخيرة - لا تتطابق مع الأدلة الإحصائية. تزايد الاستهلاك، وكذلك دخل العمل (الأجور والرواتب)، قبل الركود في العامين 2001 و2008 ويتمتع كلا المتغيرين بمعدل نمو ثابت في خلال دورة الأعمال. وقد وجدتُ الشيء نفسه.

أما بالنسبة إلى التفسيرات الكينزية للأزمات القائمة على «الغرائز الحيوانية» للرأسماليين، أيّ «استعدادهم» للاستثمار، يستعين بميتشل مرة أخرى: «إن دورات الأعمال هي بوضوح ظاهرة مالية وليست ظاهرة ذات طابع صناعي. فالانغماس في الاعتبارات التجارية المتعلّقة بالربح والخسارة، والتعامل مع «الدخل النفساني» و«التكلفة النفسانية»، وحتى التعامل مع الإنتاج والاستهلاك الماديّ في غير اتجاهاتهما المالية، هو تشويه للمشكلة. فالعمليات التي تنطوي فعلياً على تحقيق الرخاء والأزمات والكساد هي العمليات التي يقوم بها رجال الأعمال في سعيهم لكسب المال».

ويرفض تابيا وجهة نظر ديفيد هارفي، وغيره، القائلة بعدم وجود سبب مشترك للأزمات في الرأسمالية. "فإذا كان الأمر كذلك، لن تكون هناك حاجة للبحث عن تفسيرات لدورة الأعمال، وهي وجهة نظر رُفضت منذ زمن بعيد ومن أشخاص مختلفين للغاية، مثل النقديين، والمؤسساتيين، والكينزيين». بعبارة أخرى، يعني نهج كهذا أنه لا توجد نظرية للأزمات، ولا يُمكن أن توجد قط. وهذا قصور في المنهج العلميّ. فكما يقول تابيا، «من الصعب دائماً في العلوم الاجتماعية اللجوء إلى بيانات تجريبية وينظّر عديد من المؤلفين - على نحوٍ خاطئ في رأيي - أن الشيء الأهم هو وضع نظرية متسقة منطقياً».

يلجأ تابيا إلى ميتشل وتينبرغن من أجل أدلته التجريبية للتحقّق من النظرية عن الأزمات، أيّ أن دورة الأعمال هي ظاهرة داخلية للرأسمالية والتغيّرات في الربحية هي المحرّك الرئيسي لتلك الدورة. «من تحليله للتراجع، خلص تينبرغن إلى أن الاستثمار هو متغيّر داخلي تحدّده ربحية سابقة. وليس استناداً إلى نتائج الانحدار، بل في تحليل وصفيّ للبيانات، خلص ويزلي ميتشل إلى نتيجة مماثلة قبل ثلاثة عقود. لكنّ الاستنتاج أن الربحية متغيّر رئيسيّ لتفسير تطوّر الاستثمار والاقتصاد عموماً كان يتعارض إلى حد كبير مع الرؤى النظرية لكينز وفريدمان وكوبمانز. هكذا، جرى تجاهله، وحتى اليوم من غير المألوف قراءة أيّ شيء عن الأرباح في تفسيرات الاقتصاديين السائدين عن دورات الأعمال والأزمات».

تابيا نفسه يقدّم بعضاً من أفضل الأدلة التجريبية الداعمة لإظهار أن الأزمات في ظل الرأسمالية تحدث بسبب حركة الاستثمار والأرباح، وليس بسبب تغيرات الاستهلاك أو المضاربات المالية. وعرض أدلته في مواضع عدة، بما فيها كتابنا «العالم في أزمة».

انخفاض الربحية يتزامن مع كل حالة من الركود على مستوى الاقتصادات الوطنية. على سبيل المثال، بلغت الأرباح ذروتها في العام 2007 وبدأت في الانخفاض مباشرةً قبل الركود الكبير

يجد تابيا أن «في تحليل التراجع باستخدام بيانات مماثلة لـ275 ربعاً من الاقتصاد الأميركي، مع معدلات نمو الأرباح والاستثمار والقيمة الحالية لمتغّير واحد، نُمذج كدالة للقيم الحالية والمتأخرة للمتغيّر الآخر، فإن القيم الحالية والمتأخرة لمعدل نمو الأرباح قبل الضرائب يفسر ما يقرب إلى نصف التباين في معدّل الاستثمار، مع كون التأثير إيجابياً وذو دلالة إحصائية في تحليلات البيانات الربعية والسنوية على حد سواء. وفي الاتجاه السببيّ المحتمل الآخر، تفسّر القيم الحالية والسابقة للاستثمار حوالي أقل من ثلث التباين في الأرباح الحالية، مع وجود قيم استثمار متأخرة لها تأثير سلبيّ وهي ذات دلالة إحصائية في التحليل السنوي لكن ليس في التحليل الربعيّ».

لذا فإن الأدلة الإحصائية تدعم نموذجاً تؤدي فيه التغيرات في الربحية إلى تغيّرات في الاستثمارات وتسبّبها؛ وليس العكس كما رأى ما بعد الكينزيين مثل كاليكي وغودوين. «تُظهر الإحصاءات الاقتصادية انخفاضاً في إجمالي الأرباح ومعدل الربح قبل الأزمات مباشرة، مقترناً بانخفاض لاحق في الاستثمار». وقد وجدتُ أنا أيضاً الشيء نفسه في تحليل إحصائي؛ وكذلك الاقتصاديون السائدون الذين كلّفوا أنفسهم عناء أن يروا إلى العلاقة بين الأرباح والاستثمار والأزمات.

بينما يرى تابيا أن الأزمات متسوطنة في الاقتصاد العالمي، وهي سمة متكرّرة للرأسمالية، فهو لا يرى أن أزمات كهذه لها أيّ انتظام معيّن. فلا تستطيع الرأسمالية الهروب من الأزمات المتكررة، لكن لا يوجد نمط من الانتظام. وعلى وجه الخصوص، لا يحب تابيا كلمة "كساد" لوصف الأزمات. فبالنسبة إليه (وبالنسبة إلى ماركس أيضاً حسبما يدّعي)، الأزمات ليست إلّا دورية في طبيعتها ولذلك فإن نظريات الركود التضخمي ليست ماركسية. ويُمكن أن تختلف الدورة في المدة، لكنها تظل دورة، وليست ركوداً تضخمياً أو كساداً طويلاً. ويرى تابيا، على عكس نظرية ريكاردو القائلة أن انخفاضاً طويل الأجل في معدل الربح يؤدي تدريجياً إلى مرحلة أخيرة من الركود التضخميّ، أن «ماركس رأى أن فائض الإنتاج وانخفاض معدل الربح يسبّبان أزمات يؤدّي فيها تدمير رأس المال وزيادة معدّل الاستغلال إلى انتعاش معدّل الربح، ومعه، استئناف لتراكم رأس المال. وبالنسبة إلى ماركس، فإن الأزمات الدائمة «غير موجودة».

وفقاً لتابيا، تغلغلت نظرية الركود التضخميّ أو الكساد في التفسيرات الماركسية بسبب الالتباسات التي خلقها إنغلز، كما في أشياء عديدة، أصبح تفسير إنغلز «الحقيقة الماركسية». فيعتقد تابيا أن قبول تحليل إنغلز يعني التهام أطروحات الركود التضخمي الخاصة بما بعد الكينزيين أمثال كاليكي أو مجلة «مونثلي ريفيو سكول» الخاصة بسويزي وباران. ويقول تابيا إن هذا مضلل. «إن إشارة إنغلز إلى أن الأزمات الحادة المتكرّرة تقريباً على فترات كل عشر سنوات قد حلت محلها دورات طويلة وفترات أطول من الكساد لا تتناسب مع البيانات التجريبية للعقود الأخيرة من القرن التاسع عشر». وبحسب تابيا، لا يوجد دليل يدعم رؤية إنغلز؛ فالإنتاج الرأسمالي شهد فترات ازدهار وهبوط منذ السبعينيات وليس تراجعاً طويل الأمد. فكانت فترة تراكم متواصل لرأس المال تخللته أزمات مؤقتة.

لا أتفق هنا مع تابيا. فمن وجهة نظري، ما سُميّ بتشويهات إنغلز لنظريات ماركس ليس إلا خرافة؛ (أنظَر كتابي، «إنغلز 200»). ولا أعتقد أن إنغلز شوّه نظرية ماركس عن الأزمات بنظرية عن الركود التضخميّ. فإنغلز كتب عن «كساد دائم ومزمن» في العام 1886، في عمق الكساد الطويل الذي حدث في القرن التاسع عشر وطغى على الاقتصادات الكبرى في الفترة الممتدة من 1873 إلى 1895 تقريباً. وبالتأكيد، كان إنغلز محقاً في وصف تلك الفترة بأنها شيء مختلف عن فترة الازدهار الممتدة من العام 1850 إلى 1873، وهي التي كانت لا تزال تعاني من سلسلة متتالية الأزمات؟

ينتقد تابيا الركوديين التضخميين الذي يعتقدون أن بعد السبعينيات، كانت الرأسمالية قد انحدرت للتو ليراكم وجهة نظري (وجهة النظر التي عبرتُ عنها في كتابي «الكساد الطويل») في كلّ ركود تضخمي. واسمحوا لي أن أدافع عن نفسي. فأنا لا أتفق مع أمثال روبرت برينر و«منثلي ريفيو» في أن الرأسمالية دخلت فترة من الركود التضخمي الدائم منذ السبعينيات. وفي كتابي، أجادل أن التراكم الرأسمالي له طابع دوري وعالمي على حد سواء، أي أن معدلات الربحية يُمكن أن ترتفع لفترة من الزمن، لعقود حتى، لكنها بعد ذلك تدخل مرة أخرى في فترة الانخفاض؛ إنما خلال كل فترة من تلك الفترات، لا تزال هناك دورات أقصر من الازدهار والتراجع. وفي فترة «النيوليبرالية» الممتدة من مطلع الثمانينيات إلى نهاية القرن العشرين، انتعشت الربحية والاستثمار ونمو الناتج المحيّ الإجمالي الفعلي، مقارنةً بأزمات الربحية العالمية منذ منتصف الستينيات وحتى نهاية السبعينيات. على الرغم من ذلك، استأنفت الربحية انخفاضها المزمن في نهاية المطاف منذ نهاية القرن العشرين؛ وهي فترة أسميها كساداً طويلاً. 

إن رفض تابيا لما يعتبره نظرية ركود تضخمي يقوده أيضاً إلى رفض فكرة الدورات أو الموجات الطويلة (كما عرضها كوندراتيف في الأصل وروّج لها آخرون مثل إرنست ماندل وأنور شيخ وأنا). بالنسبة إليه، موجات كوندراتيف هي «ضرب من إبريق راسل، كيان لا يُمكن دحض وجوده. واستنتاجي بشأن موجات كوندراتيف هو أن الأدلة التي تؤيد وجودها ليست أكثر إقناعاً من الإحصائيات التي قدّمها ويليام ستانلي جيفونز أو هنري إل مور قبل أكثر من قرن لإثبات أن دورات الأعمال مرتبطة بحوادث فلكية. ومن دون جهود كثيرة وبلا أيّ حاجة إلى اللجوء إلى موجات كوندراتيف، يُمكن تفسير كل هذا على أنه دليل موضوعي على انخفاض طويل الأمد في معدّل تراكم رأس المال، وزيادة طويلة الأمد في ثقل المجال المالي في الاقتصاد العالمي خلال العقود الأخيرة، وتطوّر محتمل للرأسمالية العالمية نحو أزمات أكثر عمومية».

لكن ربما تابيا سرعان ما يتجاهل بعض الأعمال السليمة إحصائياً التي تشير إلى وجود فترات أطول من الانتعاش والانكماش علاوةً على الدورات الأقصر من الازدهار والهبوط. والحال أن هناك عديد من الأعمال التي تدعم مفهوم الدورات الأطول.

الأزمات متسوطنة في الاقتصاد العالمي، وهي سمة متكرّرة للرأسمالية، فهو لا يرى أن أزمات كهذه لها أيّ انتظام معيّن. فلا تستطيع الرأسمالية الهروب من الأزمات المتكررة

ما أهمية هذا؟ حسناً، إذا كان هناك دليل جيد على وجود دورات طويلة تعتمد على حركة الربحية على مدى عقود عدة، أعتقد أن هذا سيساعد في تفسير إلى أين يتجه الاقتصاد العالميّ؛ هل هو في فترة نمو وازدهار (تتخللها فترات من التراجع) أم فترة انكماش لا يتحسن فيها شيء كثيراً (يُنظَر كتابي «الكساد الطويل»، الفصل 12). ومن وجهة نظري، نحن في الأخيرة الآن. لكن هذا لا يبطل حدوث فترة جديدة من الازدهار في المستقبل. فهو ليس ركوداً تضخمياً دائماً.

هناك مساهمتان أخريان يقدّمهما تابيا لفهم الأزمات الحديثة. الأولى هي علاقة النمو الاقتصادي بانبعاثات الكربون. فالنمو الاقتصاديّ يرتبط بشكل مباشر بازدياد الانبعاثات؛ والحال أن أزمات الاقتصاد العالميّ كانت الفترات الوحيدة في نصف القرن الماضي التي تباطأ فيها النمو المضطرد في الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون. على سبيل المثال، عندما انكمش الاقتصاد العالمي بمقدار 0.83 تريليون دولار في العام 2009، تقلّصت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 0.46 غيغا طن. والأكثر دراميةً، أن الاقتصاد العالمي انكمش بمقدار 2.8 تريليون دولار في العام 2020 بينما انخفضت الانبعاثات بمقدار 1.9 غيغا طن.

أما المساهمة الثانية هي أن تابيا يُظهر أنه في كل فترة من توسع الرأسمالية هناك زيادة قوية في الطلب على المواد الخام والطاقة، ما يؤدّي إلى ارتفاع أسعارها. ورأس المال الثابت في النظرية الماركسية يشمل رأس المال المتداول (المواد الخام وغيرها) وليس الأصول الثابتة فحسب. وهناك قانون عام مفاده أن معدّل الربح يختلف عكسياً مع قيمة المواد الخام (مثل النفط). (نتناول رؤية تابيا في كتابنا «الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين»). (ص. 16).

باختصار، يُعدّ كتاب تابيا «الأزمات الست» قراءة أساسية للأدلة التي تدعم وجهة نظر ماركس بأن الأزمات مستوطنة في الرأسمالية ومعممة الآن في شتى أنحاء العالم. فالأزمات الاقتصادية الكبرى تحدث مرة واحدة على الأقل كل عقد و«المحاولة الفاشلة غالباً لإنشاء مؤسسات «حوكمة عالمية» تُظهر على نحوٍ واضح تماماً أن قدرة اقتصاد السوق على تنظيم نفسه وتحقيق نتائج اجتماعية فعّالة هي مجرد خرافة».

يقول تابيا: «سوف تستمر الديناميكيات الداخلية للرأسمالية في توليد الأزمات الاقتصادية والدمار البيئي، وإذكاء الفقر الجماعيّ، والاضطرابات الاجتماعية، والهجرات الجماعية. ويبدو من الواضح تماماً أن كل هذه العمليات في غياب حكومة عالمية تزيد بشكل كبير من خطر نشوب حرب عالمية. وهكذا فإن الاختيار ليس بين هذا النظام وتعديل له أكثر استقراراً وكفاءة، إنما بين هذا النظام ونظام آخر يجب أن يكون بالضرورة مختلفاً للغاية من أجل السماح على الأقل لجزء كبير من سكان كوكبنا البالغ عددهم 8 مليارات نسمة أن يعيشوا في سلام مع أنفسهم والطبيعة».

نشر هذا المقال على مدونة مايكل روبرتس في 28 شباط/فبراير 2024.