نقد نظرية القيمة

  • مراجعة لكتاب فريد موسلي «نظرية ماركس عن القيمة في الفصل الأول من كتاب رأس المال» الذي ينقد فيه تأويلات هاينريش الخاصة عن نظرية القيمة التي وضعها ماركس، وما أثارته من نقاش عن جوهر القيمة ومكان تحقّقها، أكان في أثناء عملية الإنتاج أو من خلال عملية تبادل منتوجات العمل.

«نظرية ماركس عن القيمة في الفصل الأول من كتاب رأس المال» هو كُتيب قصير نسبياً، صدر كجزء من سلسلة «ماركس، إنغلز، والماركسية»، يقع في حوالى 60 ألف كلمة كحدّ أقصى. ضمن هذه الحدود، طرح فريد موسلي تفسيراً لنظرية القيمة لدى ماركس على نحو ما وردت في الفصل الافتتاحي من كتاب رأس المال، ينتقد فيه كتاب مايكل هاينريش الذائع «كيف تقرأ كتاب رأس المال لماركس؟» المنشور باللغة الإنكليزية في العام 2021.

يتألّف عمل موسلي من قسمين اثنين يتّسمان بالاستفاضة والتكثيف. يحتوي القسم الأول على مُلخّصٍ أنجزه المؤلّف للفصل الأول في المجلّد الأول من كتاب رأس المال، مُشدِّداً على أن موضوع التحليل إنّما ينحصر في السلعة بوصفها «الشكل الخلوي» للإنتاج الرأسمالي، وفي الخصائص العامة التي تشترك فيها السلع كافة. أما القسم الثاني فيُقدّم نقداً تفصيلياً للتحليلِ الذي أجراه هاينريش للفصل نفسه، تتخلّله إشارات عرضيّة إلى أعمال هاينريش الأخرى، ولا سيما كتابه «مقدّمة لمجلّدات رأس المال الثلاثة لكارل ماركس». والمؤسف أن كتاب «علم القيمة» لم يُترجَم بعد إلى اللغة الإنكليزية، ولم يخضع للمناقشة المباشرة، ربما بسبب أثره الضمني في كتاب «كيف تقرأ رأس المال لماركس»، الذي لا يظهر بجلاء إلا عند الإشارة إلى «الغموض» المزعوم الذي ينسبه إلى ماركس (راجع هاينريش 2021: 91).

تتلخّص الحجة القاطعة التي يتقدّم بها موسلي في عدم اتّساق تفسير هاينريش للنظرية العلائقية المعنية بالقيمة مع فهم ماركس الذي نظر إلى العمل المجرّد باعتباره «جوهر القيمة»

وثمّ فصل ثالث قصير لكتاب موسلي يعالج فيه المسودة التي تحمل عنوان «إضافات وتعديلات» التي صاغها ماركس في سياق تحضيره للطبعة الألمانية الثانية الخاصة بالمجلّد الأول، والمتوفرة بالكامل في المجلد السادس من «أعمال ماركس وانغلِز المجمعة». وفي الملحق الرابع لكتاب «كيف تقرأ رأس المال لماركس»، تُرجمت بضع صفحات من تلك المسودات والملاحظات التي لم تكن متاحة في السابق مشفوعة بتعليق هاينريش. ويتخذ منها هاينريش دليلاً يعزّز تفسيره القائل بأن ماركس كان يسعى إلى توضيح نظرية القيمة «الاجتماعية المجرّدة» التي بموجبها «لا يشكل نتاج العمل بحدّ ذاته قيمة أو سلعة؛ إذ لا تتحقق قيمته الموضوعية إلا من خلال علاقته بغيره من منتوجات العمل» (هاينريش 2021: 378). بيد أن هذه النظرية العلائقية المعنية بالقيمة تقود هاينريش إلى استنتاج مفاده أن «العمل المجرّد» بوصفه علاقة «لا سبيل إلى إنفاقه على الإطلاق» (هاينريش 2012: 50).

وتتلخّص الحجة القاطعة التي يتقدّم بها موسلي في عدم اتّساق تفسير هاينريش للنظرية العلائقية المعنية بالقيمة مع فهم ماركس الذي نظر إلى العمل المجرّد باعتباره «جوهر القيمة». يشير ماركس في أحد المقتطفات المترجمة إلى أن العمل البشري المجرّد هو «العنصر المشترك بين سلعة وأخرى»، فضلاً عن كونه «إنفاقاً لقوة العمل الإنساني» (هاينريش 2021: 377). وبينما يركّز هاينريش على الجانب المتعلّق «بالعنصر المشترك» الذي يُفسّره كدالة لعلاقة التبادل بين السلع، يغض النظر عن الإشارة إلى جانب «البَذْل». واستشهاداً بالقسم الثاني من الفصل الأول في كتاب ماركس «رأس المال»، يحاجج موسلي بأن هذا العنصر المشترك إنما يشير إلى المضمون الذي تتقاسمه سائر أنواع العمل المختلفة ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل: «إن كُلاً من الحياكة والنسيج يشكلان نشاطاً مُنتِجاً يبذله عقل الإنسان وعضلاته وأعصابه ويديه…إلخ. وبهذا المعنى، فكلاهما لا يزيد عن عملٍ بشري» (ماركس 1976: 134). يبدو هذا في نظر هاينريش كتعريفٍ غير تاريخي للعمل المجرّد، ومن ثمّ، فهو يمثّل عنصراً ريكاردياً عند ماركس لا ينسجم مع نظرية القيمة الاجتماعية الخالصة، وهي أطروحة شُرحت بمزيدٍ من التفصيل في كتاب «علم القيمة». ويردّ موسلي بأن هذا التعريف ليس مُفارقاً للتاريخ، لأن العمل البشري المجرّد يُعرّف كذلك في علاقته بإنتاج السلع، ومن ثم بالقيمة.

ولعله بات واضحاً الآن السبب في ضرورة قراءة عمل موسلي بالتوازي مع الفصل الأول من كتاب «رأس المال» لماركس وكتاب هاينريش «كيف تقرأ رأس المال لماركس». يستأنف موسلي عرضه الخاص عبر الأقسام الأربعة التي يتألّف منها الفصل الأول لماركس في طبعته الثانية، ملقياً الضوء على ثلاثة مفاهيم أساسية في نظرية القيمة لماركس: جوهر القيمة (العمل البشري المجرّد)، مقدار القيمة (كمية هذا العمل المجرّد قياساً إلى وقت العمل اللازم اجتماعياً)، والشكل الذي تظهر من خلاله القيمة كقيمةٍ تبادلية أو كسِعرٍ يُقدّر بالنقود. إن «الخلاف الأساسي» بينه وبين هاينريش يتركّز في مسألة تحديد مقدار القيمة (ص.7) ومع ذلك، فثمَّة خلافات بينهما تتصل بتحليل المفاهيم الثلاثة. 

لم يفطن كلا المؤلفين لأهمّية الدور الذي يلعبه المفهوم الأرسطي لمقولة الجوهر عند ماركس كوحدةٍ تجمع بين المادة والصورة، علماً بأن العمل المجرّد لا يخرج عن وحدة العمل الملموس والعلاقات الاجتماعية

وعلاوة على ذلك، يبرز خلاف في ما إذا كان ماركس قد طبَّق «منطق الجوهر» الهيغلي على الفصول الافتتاحية من المجلّد الأول، كما يجادل موسلي ويتساءل هاينريش. لم يفطن كلا المؤلفين لأهمّية الدور الذي يلعبه المفهوم الأرسطي لمقولة الجوهر، كوحدةٍ تجمع بين المادة والصورة، عند ماركس. علماً بأن العمل المجرّد لا يخرج عن وحدة العمل الملموس والعلاقات الاجتماعية.

يبدأ الفصل الثاني على النحو التالي:

«يذهب هاينريش عن غير حق إلى أن الموضوع الذي يتصدّى ماركس لتحليله في الفصل الأول ليس السلعة، وإنّما هو «العلاقة التبادلية» بين سلعتين، والتي يعدّها بمثابة النتيجة النهائية المجرّدة للمبادلة التي تجري بين كلتا السلعتين والنقود في السوق. وعلى النقيض من ذلك، أدّعي أنه لم تجرِ معالجة ممارسات التبادل التي تجري في السوق على الإطلاق حتى الفصل الثاني («عملية التبادل»). (ص.51).

الجملة الثانية لموسلي هي صحيحة بلا مراء، ولكن من المستبعد أن يوافق هاينريش على هذا التلخيص لمنهجه. يشير هاينريش بوضوح إلى أن الفصل الأول «يبدأ بعلاقة التبادل بين سلعتين لكي ينتقل إلى عملية تجريِدهما من قيمتهمَا الاستعمالية في أثناء التبادل» (هاينريش 2021: 66). ويتابع هاينريش في الصفحة التالية قائلاً: يتجادل الماركسيون في ما إذا كان المنتجون «يخلقون» قيمةً في أثناء عملية الإنتاج بمعزلٍ عن التبادل، أو ما إذا كانت القيمة لا تتحقّق إلاَّ مع التحويل الذي يجري في خلال عملية تبادل منتوجات العمل، أي نتيجة للإنتاج والتبادل. وتتفق الحُجج التي سقناها حتى الآن مع التفسير الثاني (هاينريش 2021: 67).

إن المعنى الضِمني، وهو أن القيمة كإحدى خصائص السلع لا يمكن أن توجد قبل أن تتمّ مبادلة السلع مقابل النقود، قد حدا بعددٍ من نُقاد هاينريش الذين انخرطوا في النقاشات الألمانية، مثل روبرت كورتس، إلى اتهامه باختزال القيمة إلى مجرد قيمةٍ تبادلية. لا يتسم نقد موسلي بهذه الفجاجة، ولكنه يُقدّم في سياق التحليل ثلاث مقولات دقيقة عمّا كتبه ماركس في الواقع.

لا يُقسّم ماركس العمل إلى نوعين، بل هو يشير إلى ما تشترك فيه كل أشكال العمل الملموس المتنوعة: ألا وهو بذل النشاط في خلال الوقت

تتصل المقولة الأولى بالعمل المجرّد باعتباره جوهر القيمة مقابل العمل الملموس باعتباره مُنتِجاً للقيم الاستعمالية. لا يُقسّم ماركس العمل إلى نوعين، بل هو يشير إلى ما تشترك فيه كل أشكال العمل الملموس المتنوعة: ألا وهو بذل النشاط في خلال الوقت. يستشهد موسلي بروبين لكي يُبيّن أن هذه «المساواة الفيزيولوجية» تمثل فرضية سابقة على التحليل الذي أجراه ماركس للعمل المجرّد. وفي مساهمة متميزة وسط النقاشات التي يسودها الغموض في الغالب، يلفت الأنظار إلى أن ماركس يشير من خلال العمل المجرّد إلى حالتين متميزتين: الحالة السائلة التي يُبذل فيها هذا العمل بالفعل، و«الحالة المتخثرة» التي تتجسّد فيها القيمة بوصفها إحدى خصائص السلع الملموسة (13 و137). وبنظري، تشير الاستعارات العديدة التي يستخدمها ماركس، من قبيل التخثّر والتبلّر والتجسيد، إلى القيمة في شكليها الأساسيين: السلع والنقود. بيد أن هاينريش يُهوِّن من أهمية الاستعارات، وفي حين يؤكّد على «الشكل النقدي» كتعبيرٍ عن القيمة، ينكر أن القيمة كعلاقة اجتماعية يمكن أن تكون خصيصة للسلع الملموسة. يتعيّن علينا أن نعتبر القيمة «خصيصة علائقية» تتقاسمها جميع السلع التي ينتجها العمل البشري، وذلك على الرغم من وجود سلع كالأرض لم يخلقها الإنتاج ولا تنطوي على قيمة جوهرية.

ثانياً، فيما يتعلّق بمقدار القيمة، يشير التعريف المبدئي الذي يعطيه ماركس لوقت العمل الضروري اجتماعياً إلى «ظروف الإنتاج الطبيعية لمجتمع معيّن، ومتوسط درجة المهارة وكثافة العمل السائدة في ذلك المجتمع» (ماركس  1976: 129). في هذه المرحلة من التحليل لا يُشار إلى التبادل. وتمثل العلاقة العكسية بين زيادة الإنتاجية وقيمة وحدة السلع الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه تحليله الكمّي اللاحق لإنتاج فائض القيمة النسبي وديناميات رأس المال.

يدمج هاينريش بين تعريف ماركس الأولي المتعلّق بوقت العمل الضروري اجتماعياً وبين المعنى الثاني المقصود من «الضروري اجتماعياً»، والذي يشير إلى ما إذا كان من الممكن القيام بمبادلة تبادل السلع استجابةً للطلب الفعّال أم لا. بيد أن طريقة ماركس تُخضع تقلّبات العرض والطلب للتجريد، وتفترض «الأسعار العادية» وصولاً إلى المجلّد الثالث. ينبري موسلي لمناقشة فقرة تضمّنها الفصل الثالث من المجلّد الأول، أشار فيها ماركس إلى  هذه التقلبات مؤكداً أنه «يتعيّن علينا هنا أن نفحص الظاهرة في شكلها النقي، وهو ما يحتم علينا افتراض أنها تسير على نحوٍ طبيعي» (ماركس 1976: 203، يعالجها موسلي في الصفحات المحصورة بين 74-76).

ثالثاً، يتوقّف موسلي عند تأكيد هاينريش على وصف ماركس للقيمة بأنها «اجتماعية خالصة»، والتي يعدّها الأخير إشارة إلى «العلاقة الاجتماعية بين سلعة وأخرى» عبر عملية التبادل. وهم يتفقان على أن القيمة «تظهر» فحسب ضمن تلك العلاقة التي تقوم بين السلع. لكن كما ذكرنا أعلاه، يصرّ موسلي على أن العمل المجرد، باعتباره جوهر القيمة، يحمل طابعاً اجتماعياً، بمعنى أنه يشير إلى ما هو مشترك بين كل أنواع العمل المندرجة ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل.

يتوقّف موسلي عند تأكيد هاينريش على وصف ماركس للقيمة بأنها «اجتماعية خالصة»، والتي يعدّها الأخير إشارة إلى «العلاقة الاجتماعية بين سلعة وأخرى» عبر عملية التبادل

ومن المآخذ المعقولة على موسلي تقديره غير الكافي لضرورة التبادل بالقياس إلى المنتجين داخل مثل هذا المجتمع. إن أطروحة هاينريش القائلة بأن الإنتاج والتبادل «يشتركان» معاً في خلق القيمة، تعدّ صورة أخرى لما أطلق عليه المنظّر الهيغلي باتريك موراي وصف «نظرية التكوين المشترك» (موراي، 2016). غير أن هذا لا يؤدّي سوى إلى التملّص من تحدّي البنية المفاهيمية المعقّدة لماركس. يُعدّ التمييز بين إنتاج القيمة و«تحقّقها» في عملية التبادل أمراً ضرورياً في هذا الصدد. وهو ما يتحفّظ عليه هاينريش كونه يفترض القدرة على قياس القيمة بمعزلٍ عن عملية التبادل (راجع هاينريش، 2021: 240). كتب روبن، الذي يستشهد به كل من هاينريش وموسلي كمرجع، ردّاً على النقاد الذين اتهموه بالمغالاة في التركيز على «المبادلة»، ما يلي:

«تكمن المشكلة في أننا لا نتوخى التمييز الكافي بين مفهوميْ التبادل عند التطرّق لمسألة العلاقة بين التبادل والإنتاج. ذلك أنه يتعيّن علينا التمييز بين التبادل بوصفه شكلاً اجتماعياً لعمليةِ إعادة الإنتاج، وبين التبادل بوصفه مرحلة معينة في عملية إعادة الإنتاج هذه، تتناوب مع مرحلة الإنتاج المباشر». (روبن 1972: 149). 

يشير موسلي إلى هذا المقطع في الحاشية رقم 116 بالتزامن مع ردّه على هاينريش بسبب استناده إلى إحدى الفقرات الواردة في القسم الرابع من الفصل الأول لكتاب رأس المال، يؤكد فيها ماركس أنه «عن طريق عملية التبادل فحسب، تكتسب منتوجات العمل وجوداً موضوعياً متجانساً من الناحية الاجتماعية باعتبارها قِيماً» (ماركس 1976: 166). لم يفطن هاينريش إلى أن ماركس يشير في الفقرة نفسها إلى النشوء التاريخي لإنتاج السلع (هاينريش 2021: 154-155). فيما يتعلق بهذا المسألة، فإن موسلي، وليس هاينريش، هو الذي يتبع هدى روبن.

ولعل هاينريش يردّ على قراءة موسلي مُحيلاً إياه إلى الأطروحة التي تقدّم بها في كتابه «علم القيمة» تحت تأثير ألتوسير، والتي تذهب إلى وجود خطابين متنافسين داخل كتاب ماركس رأس المال: ينحدر أحدهما عن ريكاردو، الذي احتفظ بعناصر من «المذهب الطبيعي»؛ والآخر خطاب «اجتماعي» يمثل تقدُّماً علمياً يرتبط بنظريةٍ جديدة في القيمة قطعت تماماً مع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. 

في استطاعتنا الاتفاق على أن ماركس لم يتوقف قَطّ عن مراجعة نظريته، ما ترك لنا مُدوّنة غير مكتملة مفتوحة على تفسيراتٍ متباينة. ولكن الموقف الذي تبنّاه هاينريش في كتابه «علم القيمة» ينطوي على عواقب بعيدة المدى نظراً لأنه ينبذ البُعد الكمّي في تحليل ماركس، فَيرفض على سبيل المثال، مسألة التحوّل باعتبارها مشكلة ريكاردية ما كانت بماركس حاجة إلى معالجتها.

في إطار القيود المفروضة على كتاب «نظرية ماركس عن القيمة في الفصل الأول من رأس المال»، لا يتمكّن موسلي من مواصلة هذا الخط التحليلي والنقدي. ومع ذلك، يشكّل كتابه الجديد مداخلة مقبولة للغاية في النقاش المُجدَّد فيما يتعلّق بنظرية القيمة عند ماركس، الذي تكفل هاينريش على الأقل بإثارته.

نشر هذا المقال في Marx and Philosophy في آب/أغسطس 2023.