رأسمالية المنصّات

  • مراجعة لكتاب «رأسمالية المنصات» تأليف نِك سرنيسِك، الذي يستعرض صعود الأعمال القائمة على المنصّات من سبعينيات القرن وحتى اليوم، ودورها في تغيير أسلوب عمل الرأسمالية المعاصرة. في حين لا يتطرّق الكتاب بشكل معمّق إلى نقاط النزاع المستقبلية المحتملة، يؤطّر مفهوم تطوّر رأسمالية المنصّات بشكل عقلاني.

كيف نفهم صعود الأعمال القائمة على المنصّات واحتكارها المتزايد الاقتصاد العالمي؟ كيف نمت وازدهرت بسرعة؟ وما تَبِعَات هذا الاتجاه من الأعمال؟ وما الإمكانات البديلة عند تأمل مستقبل ما بعد رأسمالي؟ 

يجيب كتاب رأسمالية المنصات عن هذه الأسئلة من خلال سرده الواقعي لنمو الأعمال القائمة على المنصّات في إطار التاريخ الأعم لتطوّر الرأسمالية - أو ما يطلق عليه مارك كاريغان «القراءة التاريخية لرأسمالية المنصّات» في مراجعته لهذا الكتاب. وكما يجادل نِك سرنيسِك: «قد تبدو ظاهرة ما جديدة وجذرية ولكنها، في السياق التاريخي، مجرّد استمرار للماضي». من هذا المنظور التاريخي العام، ينطلق الكتاب في رحلة تثقيفية تسعى إلى فهم المسارات الماضية والحاضرة والمستقبلية للرأسمالية والتكنولوجيا الرقمية.

إنّ الكتاب بتصنيفه الشركات التكنولوجية الكبرى على أنّها «جهات فاعلة اقتصادية ضمن نظام إنتاج رأسمالي» يعين القارئ على استيعاب أنّ أفعال هذه الشركات ليست إلا استجابات لاحتياجات العمل

كقارئة لديها اهتمامات عامة في الأمولة والبيانات الكبيرة، وجدت أسلوب الكتاب في السرد الواقعي مُفيداً لسببين. أولهما أنّه يربط بين أحداث تبدو منفصلة في الواقع، ما يساعد القراء على إدراك أنّ الوضع الحالي للاقتصاد العالمي جزء لا يتجزأ من السيرورات الرأسمالية. بعبارة أوضح، إنّ الكتاب بتصنيفه الشركات التكنولوجية الكبرى على أنّها «جهات فاعلة اقتصادية ضمن نظام إنتاج رأسمالي» –بدلاً من جهات فاعلة ثقافية أو سياسية مدفوعة بقيم ثقافية أو سعي نحو السلطة–،  يعين القارئ على استيعاب، وبوضوح اقتصادي، أنّ أفعال هذه الشركات ليست إلا استجابات لاحتياجات العمل. وثانيهما أنَّه يتيح للقارئ، بإزالة العواطف من أسلوب السرد، التفكير منطقياً (وبالتالي بذاتيةٍ أقل) بحلول ممكنة من أجل المستقبل.

فيما يخص تقسيم الكتاب، أتى هذا الكتاب الصغير والدقيق في ثلاثة فصول. يقدّم فصله الأول تاريخاً اقتصادياً للاقتصاد العالمي. يركّز تحديداً على ثلاثة أحداث هامّة في القرنين العشرين والحادي والعشرين: «ردّ الفعل على كساد السبعينيات، والازدهار والإفلاس في التسعينيات، ورد الفعل على أزمة العام 2008». يفسِّر الفصل الثاني صعود نماذج الأعمال التي تستثمر البيانات الكبيرة، ونمو منصّاتها الاحتكارية، يجعل البيانات تضاهي البترول؛ أي أنّها تصبح مصدر «يُستخرج ويُكرر ويُستخدم بأشكال مختلفة». ويحلّل الفصل الثالث الوضع الحالي لهذه المنصّات - تحديداً مسارات تطوّرها حيث تخوض منافسة رأسمالية، والتحدّيات التي تواجهها في البيئة الاقتصادية العالمية الحالية، بما فيها من ركود في الأجور وانخفاض في الإنتاجية وارتفاع في اللامساواة - لينتهي ببعض الأفكار الاستنتاجية عن المستقبل.

وفقاً لسِرنيسِك، للمنصّات أربع سمات. أولها أنّها بُنَية تحتية تقنية وسيطة تتيح التفاعل بين مجموعات مختلفة من المستخدمين؛ «عملاء ومعلنين ومقدّمي خدمات ومنتجين وموردين وحتى الأشياء المادية». تذهب بعض المنصّات إلى أبعد من هذا وتدعم المستخدمين «بمجموعة من الأدوات تمكِّنهم من بناء منتجاتهم أو خدماتهم أو أسواق الخاصة». وثانيها أنّها تعتمد على الأثر الشبكي وتنمو بواسطته. كلما زاد عدد مستخدمي هذه المنصّات، زادت إمكانية استخراج القيمة وتوليدها من مستخدميها وأنشطتهم على المنصّة. وهذا يفسّر لماذا تحظى منصّات الأعمال بنمو سريع ومطرد وتراكم غير مسبوق لرأس المال في خلال فترة قصيرة نسبياً من الوقت.

صعود نماذج الأعمال التي تستثمر البيانات الكبيرة، ونمو منصّاتها الاحتكارية، يجعل البيانات تضاهي البترول؛ أي أنّها تصبح مصدر «يُستخرج ويُكرر ويُستخدم بأشكال مختلفة»

وثالثها أنّها تستخدم التمويل التناقلي. فالمنصّة تستطيع، عن طريق تقديم منتجات وخدمات مجّانية، جذب المزيد من المستخدمين، وبالتالي، المزيد من الأنشطة على شبكتها. لذا، تتساوى خسائر شركة المنصّة مع أرباحها لكونها تستند إلى أنشطتها التجارية الأخرى. وأخيراً أنّها تستخدم استراتيجية التفاعل المستمر مع المستخدم عبر عروضها التقديمية الأخاذة وعروضها. وغرضها من ذلك استخراج المزيد من البيانات من مستخدميها. 

من شأن المنصّات، عبر تفاعل هذه السمات الأربعة، الحصول على عوائد هائلة وشبه مستمرة على استثماراتها الأولية في البنية التحتية. والسبب أنّ المنصة بمجرّد بنائها وتأسيسها، تستطيع أن تحظى بالقدرة الاحتكارية على الاستغلال والانتفاع باستمرار من مستخدميها وأنشطتهم، مع القليل من المدخلات الإنتاجية من جانبها. بعبارة أخرى، وبكلمات جون هيرمان: «إذا نجحت منصة ما، فإنّها تأتي بسوقها الخاص؛ ولو نجحت نجاحاً ساحقاً، قد ينتهي الأمر بتحكّمها في سوق يضاهي اقتصاداً كاملاً».

يكمل سِرنيسِك ليُعرّف خمسة أنواع من المنصّات قد توجد في تركيبات مختلفة (أو توجد جميعها) داخل شركة المنصّة. منصات الدعاية (غوغل وفايسبوك مثلاً)، وهذه تستخرج بيانات المستخدمين وتنتفع من المساحة الدعائية؛ المنصات السحابية (سيلز فورس Salesforce مثلاً)، وهذه تمتلك وتؤجر الحواسيب والبرمجيات المنصات الصناعية (جِنِرال إلكتريك وسيمنز مثلاً)، وهذه تصنع البُنية التحتية اللازمة لـ«تحويل التصنيع التقليدي إلى عمليات مرتبطة بالإنترنت»؛ ومنها منصّات المنتجات (رولز رويس وسبوتيفاي مثلاً)، وهذه تستغل المنصات الأخرى لـ«تحويل سلعة تقليدية إلى خدمة»؛ المنصات المرنة (أوبر وإير بي إن بي مثلاً)، وهذه تعمل وفق النموذج المرن الخاص بالحد الأدنى من ملكية الأصول.

إن الضرورة التنافسية من أجل الهيمنة على مجال معيّن تصبح شديدة الصعوبة نتيجة تلاقي الأسواق ومجموعات المستخدمين، ما يدفع هذه المنصّات صوب البُنى المشاعية أو المشتركة

على الرغم من النجاح الاقتصادي لبعض منصات الأعمال، فإنّ القطاع ككلّ يواجه أربع اتجاهات مترابطة، تتمثّل في «توسّع الاستخراج، التحوّل إلى سادن، تلاقي الأسواق المختلفة، تقييد الوصول إلى النظم». من ناحية، يتناقض الدافع الجوهري تجاه تطوير نطاق استخراج البيانات وتقنياته مع منطق إبقاء هذه الأعمال مرنة. ومن ناحية أخرى، فإن الضرورة التنافسية من أجل الهيمنة على مجال معيّن تصبح شديدة الصعوبة نتيجة تلاقي الأسواق ومجموعات المستخدمين، ما يدفع هذه المنصّات صوب البُنى المشاعية أو المشتركة. واحدة من ردود أفعال منصّات الأعمال أن تُقيّد الوصول إلى نظمها الخاصة، كأن تطوّر تطبيقات مغلقة بحقوق حصرية أو بنية إنترنت خاصة، للحفاظ على الميزة التنافسية أمام منافسيها. بيد أنّ هذا قد يتسبّب بتشظّي الويب، ما يناقض منطق الاقتصاد الرقمي.

يتوقع سِرنيسِك، عند النظر إلى الوضع الحالي والقريب لرأسمالية المنصات، أنّ منصّات الأعمال «ستضطر إلى تطوير أساليب جديدة لاستخراج فائض من الكعكة الاقتصادية، أو إيقاف احتكاراتها المُكلفة القائمة على التمويل التناقلي، والتوجه صوب نموذج أعمال تقليدي». بكلمات أخرى، على منصّات الأعمال إعادة اختراع نموذج عملها بالكامل لتضمن استمراريتها أو مواجهة انهيار محتمل.

على الرغم من الثناء على هذا الكتاب لوصفه العقلاني والمفهوم لتطوّر رأسمالية المنصّات، فقد أُصبت نوعاً ما بالإحباط عند الاطلاع على قسمه الختامي عن «المستقبل». فسِرنيسِك يعرض حلاً ممكناً لمجابهة توسّع منصّات الأعمال، وهو إنشاء منصّات عامة «تمتلكها وتديرها الجماهير»، لكنّ هذا القسم متواضع من حيث عمق التحليل والتفاصيل عند مقارنته مع باقي أجزاء الكتاب. ربما الزمن وحده كفيل بإخبارنا ما إذا كانت، وكيف، ستتكشف قصة رأسمالية المنصّات ونضالنا الجماعي ضدها في التاريخ الاقتصادي للرأسمالية.

نشرت هذه المراجعة على موقع جامعة لندن للاقتصاد في 5 حزيران/يونيو 2017. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.