الذاتية الثورية في فلسفة نيغري

  • مراجعة لكتاب «أنطونيو نيغري: فلسفة التقويض» لروبرتو نيغرو، الذي يلخّص أبرز الموضوعات التي تناولتها أعمال هذا الفيلسوف، واضعاً إيّاها في إطار يُظهر بُعدها التقويضي في النظرية والسياسة. وهذه الصفة تكتسب زخماً اليوم في ظل ما نشهده من سيناريوهات حرب وانكفاء الديمقراطيات الغربية.

 

من بين كلّ المصطلحات التي أفرزها الفكر الماركسي في القرن العشرين، ما زال المصطلح الإيطالي operaismo (المدرسة العمّالية) يلقى صدى واسعاً بفضل قراءته النظرية والعملية لعلاقات الإنتاج والمقاومة الذاتية بأشكالهما المتغيّرة. وفي صفوف هذا التيّار الفكري العدائي، يلمع اسم أنطونيو نيغري. هذا الفيلسوف المولود في مدينة بادوفا الإيطالية تشرّب من الأدبيات الماركسية ووضعها أمام اختبار التحوّلات التاريخية عن طريق النظرية والانخراط المباشر في التنظيم الذاتي لنضالات الطبقة العاملة وتجاربها. 

تتمحور فلسفة نيغري حول جوهر الذاتية الثورية (Revolutionary Subjectivity)، مُقدِّمة لنا طروحات متجدِّدة وإبداعية تُزاوج بين مقاربة نظرية لأهم مفاهيم الحداثة وتأثيراتها في المجتمع، وشقّ عملي يبحث عن الظروف الملائمة للتحوّل الثوري بما يواكب تطوّر علاقات الإنتاج والبُنى المؤسّساتية. ويُبيّن لنا نيغري في أبحاثه، التي هي وليدة النصف الثاني من القرن العشرين، حجم التقاطع بين نضالات العمال في المصانع والسياسات الكينزية-الفوردية، مستشرفةً الصعود العالمي للنيوليبرالية بما حملته من نقدية (Monetarism) وأمولة، مع تظهير الأثر الذي طال النسيج الاجتماعي بأكمله بفعل التحوّل الذي طرأ على سلّم التراتبية في علاقات الإنتاج، وتفسير العولمة بأنّها آلية عابرة للحدود لمراكمة رأس المال. وفي ظلّ هذه التحولات البنيوية، يصرّ نيغري على قوّة العمال ونقاط الصراع وأشكال التنظيم التي تولّدها الذاتية. نرى في جوهر أعمال نيغري جدلية مستمرة وثابتة بين نزعة الذاتية في الفكر الشيوعي وأشكال السلطة الوضعية.

يُبيّن لنا نيغري في أبحاثه، التي هي وليدة النصف الثاني من القرن العشرين، حجم التقاطع بين نضالات العمال في المصانع والسياسات الكينزية-الفوردية، مستشرفةً الصعود العالمي للنيوليبرالية بما حملته من نقدية وأمولة

في كتابه «أنطونيو نيغري: فلسفة التقويض» (Antonio Negri: Une philosophie de la subversion)، يلخّص لنا روبرتو نيغرو أبرز الموضوعات التي تناولتها أعمال هذا الفيلسوف، واضعاً إيّاها في إطار يُظهر بُعدها التقويضي في النظرية والسياسة. هذه الصفة تكتسب زخماً اليوم في ظل ما نشهده من سيناريوهات حرب وانكفاء الديمقراطيات الغربية. فبين ماركس وسبينوزا وغرامشي، لا تزال أعمال نيغري تولّد «تفاؤل عقل» مُثمراً للغاية يساعد في إدراك أوجه الترابط بين مختلف أشكال الصراع الطبقي الحالية.

تتبع فصول الكتاب الثلاثة المسارات المختلفة لفلسفة نيغري، مرتكزة على الظروف التاريخية لنشأة نظريّاته، إذ يضعها نيغرو على تماس مع كوكبة المفكّرين الذين خالفهم نيغري وأولئك الذين شاطروه توجّهاته. وقبل استعراض الفصول الثلاثة بإيجاز، ترسم لنا مقدّمة الكتاب الإطار العام لاستكشاف الفضاء النظري لهذا الفيلسوف الإيطالي: الأحداث المفصلية في العام 1968، ومحاولة الانقلاب على الرأسمالية الحديثة التي ترافقت مع مكاسب حقّقتها النضالات المناهضة للاستعمار، إضافة إلى نشوء تركيبة اجتماعية جديدة. والأخيرة كانت نتاجاً لانتشار التعليم والتكنولوجيا على أوسع نطاق، فضلاً عن التحوّلات في شروط العمل وأوقاته وطرائق استخراج فائض القيمة. وفي أوساط المدرسة العمّالية، كان مُمكناً قراءة هذا التحوّل من خلال اكتشاف مفهوم «المعرفة العامة» (General Intellect) الذي أورده ماركس في مخطوطته «الغرندريسه» (أسس نقد الاقتصاد السياسي)، التي أصبحت مرجعاً أساسياً لكلّ العمّاليين. وهذا المفهوم يعني عملية التذويت (Subjectification) على أساس العلاقة بين التطوّر التكنولوجي القادر على تلبية احتياجات المجتمع والفرد الاجتماعي، نقطة الصفر للذاتية الشيوعية في الفترات اللاحقة. وهذا المفهوم هو الخيط المشترك الذي يربط مختلف مراحل عمل نيغري، بدءاً من تجربته في مجلة «كوادرني روسّي» (Quaderni Rossi) مع بانزييري، إلى مرحلة ما يُسمى بالـ«العمّالية السياسية» ضمن مجلة «كلاسي أوبيرايا» (Classe Operaia) رفقة ترونتي وأسور روسا وألكواتي، ومروراً بانخراطه في مجموعة «بوتيري أوبيرايو» (Potere Operaio) وحركة «أوتونوميا أوبيرايا» (Autonomia Operaia) وسنوات القمع والمنفى والثورة النيوليبرالية المضادة. وجاءت سنة 1968 كحدث فاصل بين مرحلتين تاريخيتين من الصراع الطبقي، الأولى ارتبطت بصورة العامل المحترف مع هياكلها التنظيمية المرجعية الخاصة (الهيكل الجامد للحزب مثلاً)، أمّا الثانية فارتبطت بالعامل الجماهيري (Mass Worker) الذي أنتجته الفوردية، مع ما صاحب هذه المرحلة من تركيبة فنية-علمية تضم قوى عاملة بمؤهلات علمية عالية.

ما يطرحه نيغري بوصفه تحوّلاً حقيقياً للصراع الطبقي (ومنه أتى عنوان الفصل الأول من الكتاب) هو في الوقت عينه تحوّل ذاتي للطبقة نفسها. وتستمد العمّالية طابعها التقويضي، ضمن إطار الماركسية، من تركيزها على البُعد الجماهيري لقوّة العمل كونها شرسة لا تقبل الانصياع، فضلاً عن أنّها المُحرّك الدافع لتطوّر الرأسمالية، إذ يؤكد ترونتي في مؤلفه الشهير «العمّال ورأس المال» أنّ الصراعات الطبقية سبقت التطوّر الرأسمالي ورسمت آلياته. وتأتي فلسفة نيغري المُطعّمة بالجدلية الهيغلية وبقراءتها المعمّقة لأساس نشأة الدولة البرجوازية لتضيف بعداً جديداً على هذا التضافر الفكري وتُضاعف تأثيراته: بالنسبة لنيغري، تكمن القوة الطبقية في نشر مبدأ الرفض المطلق للعمل وفق الهياكل الرأسمالية وللحلول المقدّمة من الديمقراطية الاجتماعية، وهو ما يتجلى بالتالي في القوة الطبقية المستقلة. وعند هذه النقطة المفصلية، انشق نيغري عن صفوف المناضلين والمثقفين الذين بعد أن شهدوا استنزاف قوة عمّال المصانع، رجعوا إلى كنف الحزب الشيوعي الإيطالي لتجربة حلول تنظيمية ومؤسّساتية جديدة مستندين إلى قوة الرفض لبناء مشروع ذاتية ثورية جديد.

ترسم لنا مقدّمة الكتاب الإطار العام لاستكشاف الفضاء النظري للفيلسوف الإيطالي: الأحداث المفصلية في العام 1968، ومحاولة الانقلاب على الرأسمالية الحديثة التي ترافقت مع مكاسب حقّقتها النضالات المناهضة للاستعمار، إضافة إلى نشوء تركيبة اجتماعية جديدة

هذا التحوّل في الذاتية الطبقية اتخذ اسم العامل الاجتماعي، ما يدلّ على اتساع رقعة القوى العاملة لتشمل شرائح أخرى منتشرة في المدن الكبرى. وأصبح ذلك المحرّك لنزاعات مستقلّة في مختلف أرجاء إيطاليا (وأوروبا إلى حد ما) طوال سبعينيات القرن الماضي، وهذه النزاعات جرّبت شكلاً جديداً من أشكال الانتقال إلى الشيوعية تفاوت بين حركات تمرّد واسعة ومقاومة ثقافية خفية ونزاعات مسلّحة، وقد قابلها قمع مأساوي في ظل صدام عنيف بين أجهزة الدولة (بما في ذلك الحزب الشيوعي الإيطالي) وأوساط التقويضيين الاجتماعيين.

أمّا المرحلة الثانية من إنتاج نيغري النظري، وقد جاءت في ظل موجات القمع، فتناولت هذه الموضوعات بعمق. والكتاب الذي استهل به هذه المرحلة التي أطلق عليها هو وغواتاري اسم «سنوات الشتاء» (وهو عنوان الفصل الثاني من كتاب نيغرو) فيمكن وصفه بمؤلف كلاسيكي في الماركسية المعاصرة، «ماركس ما بعد ماركس» (Marx Beyond Marx)، وفيه استعرض نيغري أبرز المفاهيم الواردة في «الغرندريسه» مركّزاً على التحوّل من الخضوع الشكلي للعمل إلى رأس المال في الحقبة الفوردية إلى الخضوع الفعلي، أي وضع القيمة كاملةً في قوة العمل ضمن بيئة الإنتاج داخل مكان العمل وضمن بيئة إعادة الإنتاج خارجه، وهذا ما يعبّر عن تجاوز قانون القيمة بمعناه الكلاسيكي.

هذا التحوّل التاريخي، الذي سيمهِّد الطريق لاحقاً أمام تأملات عن حقبة ما بعد الفوردية في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، هو منبت هذا الشكل المحدّد من العدائية الذاتية المذكورة آنفاً، أي عدائية العامل الاجتماعي، وهو ما سمح لنيغري بتركيز تحليله للذاتية على مجال الأنطولوجيا. الكتاب اللاحق، «الاستثناء الجامح» (L'Anomalia Selvaggia)، المخصّص لسبينوزا والمكتوب في خلال الفترة التي قضاها في السجون الإيطالية، يربط هذا التحوّل الفكري بالتطوّر المتزامن للمادية الفلسفية والنزعة الجمهورية الراديكالية، ومركزه يقع على وجه التحديد في ديناميات التذويت القائمة على قوّة التفرّد في السيرورة التاريخية. تتحوّل الكوناتوس السبينوزية، بين يدي نيغري، إلى قوة مكوّنة للذاتية السياسية وعنصر يمكن الاستثمار فيه سياسياً في ظل الاضطراب الذي حدث ببطء في نهاية الدورة القمعية. بهذا المعنى، منفتحاً على مواجهة الثقافة الفلسفية في الثمانينيات المشبعة بالهايدغرية التي أعلنت انتهاء مرحلة التفكير في الثورة الاجتماعية، يستخدم نيغري سبينوزا ليقبض على مجموعة أدوات الفينومينولوجيا الوجودية الهايدغرية، المكرّسة للأنطولوجيا، ويقوِّض أوجه وجودها. في اتصال مع الفكر ما بعد البنيوي الفرنسي (فوكو، دولوز، غواتاري نفسه)، يشدِّد نيغري على إنتاجية البعد الأنطولوجي لأخلاق الرغبة وعمليات التذويت، رابطاً إياها بتحليل متجدّد للتحوّلات الإنتاجية في البنية الاجتماعية: تتكثَّف مجموعة الأفكار هذه لتأتي بمفهوم «العمل الفكري»، وهو مفهوم يجمع الذكاء التقني العلمي والمعرفة العامة، ومفهوم «الإنتاج غير المادي»، أو البعد الاقتصادي المباشر للعمل في سلاسل القيمة الثقافية والاجتماعية والحضرية. أصبحت «البروليتاريا الذهنية» في فكر نيغري، والموجة الجديدة من الأفكار المستقاة من المدرسة العمّالية، منبت العِداء الجديد في نهاية الثمانينيات. وما يشدّد عليه نيغرو هو المركزية التي يكتسيها البعد التاريخي لأنطولوجيا الذاتية الثورية في هذه المرحلة من تفكير الفيلسوف، موضوع الفصل الثالث من الكتاب.

بالنسبة لنيغري، تكمن القوة الطبقية في نشر مبدأ الرفض المطلق للعمل وفق الهياكل الرأسمالية وللحلول المقدّمة من الديمقراطية الاجتماعية، وهو ما يتجلى بالتالي في القوة الطبقية المستقلة

الفصل الثالث الذي يبدأ بالكتاب الرائد «السلطة التأسيسية» (Il Potere Costituente)، يحلّل البعد المتنامي للصراع الطبقي، ويردّه إلى البدائل المؤسسية التي أنتجتها الذاتيات التابعة في التاريخ وإلى خط فلسفي «مغضوب عليه» قادر على تثمين قوة النضالات واستقلالية الذاتية. مكيافيلي وسبينوزا وماركس ولينين هم الذين مكّنوا الفيلسوف من تسمية الشكل الجديد للذاتية، وأعني المتعدّد، وهو مفهوم يجمع كلاً من القوة الأنطولوجية للرغبة الثورية والبعد الجزيئي والمتفشّي للتركيبة الطبقية لقوة العمل الفكرية الجديدة. إن التفكير المتجدّد في العداء المتأصل في الديناميات التاريخية يسمح لنيغري بالتركيز على التحوّلات البنيوية للفاعليات الحكومية مع تحوّلات أنماط الإنتاج الرأسمالية. إن التحوّل محل التركيز، في هذا السياق، هو التحول من «رأس المال العالمي المتكامل» إلى «الإمبراطورية»، إلى عكس العولمة السياسية والاقتصادية ذات الخصائص فوق الوطنية. ولكنه أيضاً تحوّل في التناحر الكائن داخل رأس المال المعرفي بين الإنتاج الاجتماعي للمشاعات والاستيلاء عليها. إن المسار من الإمبراطورية إلى التجميع يستبق، ويتبع، التعبئة ضد العولمة النيوليبرالية والعمليات الحربية، ومنها التعبئة ضد الأزمة المالية 2007-2008 التي أسفرت عن حركة ساحات العمّال والطلاب الإيطاليين غير المستقرين، وحركة احتلوا وول ستريت وحركة الغاضبين، وصولاً إلى حركة السترات الصفراء، ويوضح العلاقة الوثيقة بين تفكير نيغري وجولات الصراع الطبقي، وبين وضوح تفكير الفيلسوف وقدرته على قراءة اتجاه الحركات والتغيرات في الهياكل الحكومية.

في الختام، يقع فكر نيغري في الأصل ضمن تحوّرات التركيبة الاجتماعية للطبقة العاملة والبروليتاريا، وهو فكرٌ حاول أن يعيد للباحثين والمناضلين القوة الأنطولوجية والجوهرية للتقويض المناهض للرأسمالية. لقد قدم نيغرو، بتأريخه الأنطولوجيا الثورية للمفكّر الماركسي، صورة له، بنفس القدر من القوة والألمعية، تدعو إلى التفكير في الوضع الحالي للصراع الطبقي، وفي واقع المشروع الثوري وقوة الوجود المشترك، وفي الأخلاق الشيوعية الجديدة للصراع الطبقي داخل الثورة المضادة للفرد المملوك وأشكالها الحالية وضدها.

 

نشر هذا المقال في Marx & Philosophy في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2023. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.