الديمقراطية في مواجهة الخصخصة

  • مراجعة لكتاب «الدولة المُخصّصة» لكيارا كورديللي، الذي يحاجج بأن مناهضة الخصخصة النيوليبرالية للمؤسسات العامة على مبدأ أنّها تضرّ بمصالح العمّال والمواطنين، لا يكفي لإثبات جدوى الإدارة العامّة، فهي تحتاج أكثر من ذلك، والمقصود هنا شرعية الحكم الديمقراطي. 

في كتابها «الدولة المُخصخصة»، تكشف لنا كيارا كورديللي المشكلة في إسناد وظائف الإدارة العامة إلى الكيانات الخاصة. فاليسار السياسي يخشى الخصخصة لارتباطها الوثيق بالنيوليبرالية ولكونها تطال السلع والخدمات الأساسية. لكن كورديللي ترى أن الحجج المُضادّة للخصخصة ليست بهذه البساطة، حيث أنّ مناهضيها نادراً ما يشتركون في آرائهم، فيما لا يقدِّم دُعاة الإدارة العامة حججاً مُقنعة كما يعتقد البعض. ولا تسلم السلطة المركزية والفيدرالية بشتّى أشكالها من انتقادات اليمين ولا اليسار السياسي. وفي حين يؤيِّد الليبرتاريون والمحافظون الجُدد خصخصة السلع والخدمات ويعترضون على تقديمها من جانب الدولة، يخشى اليساريون بمختلف أطيافهم، من اللاسلطويين إلى التروتسكيين، الآليات التي تعتمدها دول الرعاية والبيروقراطيات الحكومية في مأسسة قواعد وإجراءات صارمة تضرّ بمصلحة المواطن.

تسعى كورديللي في كتابها إلى تحرّي القواسم المشتركة بين مختلف أشكال الخصخصة، إذ ترى أنّ الحجج المؤيدة للإدارة العامة يجب أن تراعي هذه القواسم المشتركة بين الكيانات الخاصة على أنواعها، من تلك التي تقوم بتسليع عملية تقديم الخدمات بالكامل إلى التي يعتريها شيء من الغموض مثل المنظّمات غير الحكومية والمؤسّسات الخيرية والجمعيات التعاونية. والأهم من ذلك هو أن كورديللي تحلّل كذلك أوجه القصور التي تشوب المؤسّسات العامة القائمة. ولا يمكن اعتبار هذا الكتاب رفضاً قاطعاً للخطاب المُناهض للدولانية (أي سيطرة الدولة). بل على العكس، تحرص كورديللي على تبنّي العديد من الانتقادات الموجّهة للأنظمة البيروقراطية على امتداد الطيف السياسي، منها انعدام الكفاءة واستنسابية البيروقراطيين ونزعتهم لفرض الامتثال. غير أنّها تخلص إلى أنّ الإدارة العامة قادرة على تصحيح مشكلاتها، في حين لا ينطبق ذلك على البدائل التي تطرحها الخصخصة.

تحرص كورديللي على تبنّي العديد من الانتقادات الموجّهة للأنظمة البيروقراطية على امتداد الطيف السياسي، غير أنّها تخلص إلى أنّ الإدارة العامة قادرة على تصحيح مشكلاتها، في حين لا ينطبق ذلك على البدائل التي تطرحها الخصخصة.

يُقدّم الكتاب طروحات مهمّة لليسار لسببين وجيهين، أوّلهما أنّه يشجّع التقييم الواقعي للظروف الاجتماعية الراهنة التي تدور في فلكها النقاشات اليسارية بشأن الدولة. ويمكننا هنا إجراء تقييم نقدي للإرث المعرفي الذي نشأ عن النظريات الاشتراكية بشأن مفهوم الدولة. ففي ظلّ الخصخصة المتزايدة لمهام الدول في البلدان الرأسمالية، من الضروري إعادة النظر في الانتقادات التقليدية للدولة لإيجاد استراتيجيات بديلة تنهض بالمساعي الإصلاحية. ثانياً، تُثير كورديللي تساؤلات صريحة بشأن علاقة اليسار ببعض المنظّمات، كالمنظّمات غير الحكومية، وهي تساؤلات قلّما طُرِحَت في السابق. وعلى الرغم من أننا شهدنا في الآونة الأخيرة مساعي لتحليل ظروف عمل المنظّمات غير الحكومية وهياكل حوافزها، أصبح من الضروري الآن إجراء تحليل قِيَمي لآليات عمل هذه المنظّمات والطرق التي تقيّد بها اليسار من الناحية الاستراتيجية. وإذ يبدو أن اليساريين لا يتفقون في ما بينهم على ما إذا كانت هذه المنظّمات حليفاً أو خصماً لهم، لا بدّ لنا من وضع مبادئ نشرّح من خلالها العلاقات التي تربط اليسار بتلك المنظّمات، خصوصاً وأنّ المشهد السياسي الحالي لا يسمح لنا بالتغاضي عن هذه العلاقات بعد الآن.

تستهلّ كورديللي كتابها بتعريف الوظائف العامة، متسائلةً عن الغاية وراء المؤسّسات السياسية. وإذا كانت هذه المؤسّسات وحدها مخوّلة تأدية هذه الوظائف بموجب القانون، فكيف لنا أن نعرّفها؟ تعتقد شريحة واسعة من الليبراليين أنّ لا فرق بين المؤسّسات السياسية ونماذج العمل الخاصة من حيث كونها وسائل لتحقيق العدالة. وإن كان تعريف العدالة بمعزلٍ عن نوع المؤسسة التي تصونها (أي الحكومات أو الشركات أو المنظّمات غير الحكومية)، فما يهمّ هو النتائج. ما هي إذن الأسس التي يستند إليها مؤيدو الخدمات العامة للقول إن استراتيجيتهم أفضل من غيرها؟ بالنسبة لليسار السياسي، يكمن الاختلاف في كيفية تأثير كلّ استراتيجية على العلاقة بين العمّال وأصحاب عملهم. على سبيل المثال، تقدّم المجتمعات الرأسمالية الرعاية الصحّية للمواطنين بواحدة من هاتين الطريقتين: فإمّا يوفّرها أصحاب العمل لموظّفيهم أو تؤمّن الدولة هذه الخدمة بوصفها خدمة عامّة. بالطبع، هناك من لا يقدّم هذه الخدمة بأي شكل من الأشكال. ولكن بهدف توضيح سؤال كورديللي، لنفترض وجود آلية لإعادة توزيع للدخل تُموّل عبرها الرعاية الصحية، وأنّ التمويل كافٍ وجودة الخدمة متساوية. من منظور متلقّي الرعاية، لا يهمّ ما إذا كان مصدر التمويل صاحب العمل أو الدولة، فتجربة تلقّي الخدمة لا تختلف في الحالتين. ولكن، إذا كان أصحاب العمل هم من يدفعون تكاليف الرعاية الصحية، يُصبح العمّال أكثر اعتماداً عليهم. أمّا في حال كانت الدولة من يقدّم هذه الخدمة، يقلّ اعتماد العامل على صاحب العمل. وبذلك ينعم العمّال باستقلالية أكبر، ويصبحون مهيئين أكثر للاعتراض على القرارات الإدارية التي تضرّ بمصالحهم، ويتمتعون بقدر أكبر من الحرية للانخراط في أي نشاط سياسي دونما خوف من رقابة مديريهم. هذه المسألة هي التي دفعت اليسار على مرّ التاريخ إلى دعم مبدأ الرعاية الصحية العامة.

تكشف كورديللي الاختلاف الجوهري بين الحالين المذكورتين مستندةً إلى المنطق الكانطي القائل بأنّ المؤسسات السياسية ليست مجرّد أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل هي من يؤسّس لها، قتقول إنّه «من خلال هذه المؤسّسات وحدها تُصاغ أطر العدالة وتُطبّق على نحوٍ يحترم المكانة الأساسية للأفراد بوصفهم هيئات قِيَمية متساوية من جهة، واستقلاليتهم، لا سيّما استقلاليتهم الفكرية، من جهة أخرى» (على اعتبار وجود ارتباط وثيق بين استقلالية الفرد في الاستجابة للأسباب واستقلاليته في التصرف). في الواقع، يتمثّل البديل عن ذلك في الرجوع إلى حالة الطبيعة التي يعتبرها كانط مرحلة ما قبل المدنية حيث تكون قواعد العدالة ظرفية وغير مُلزمة. والمطلوب في الحالة المدنية هو الشرعية، الأمر الذي تفتقده نماذج الحوكمة وتوزيع الموارد المُخصخصة بحكم طبيعتها. وبالفعل، ترى كورديللي أنّ الشرعية تقع في صميم الاختلاف بين السلطتين الخاصّة والعامّة. فلا تعزيز الكفاءة ولا العدالة التوزيعية ولا المساواة في إطار الخصخصة قادرة على تعويض غياب الشرعية.

بعبارة أخرى، تولّد الرعاية الصحّية العامة علاقة أخلاقية تبادلية بين المواطنين، أما الرعاية الصحية الخاصة فتخلق واقعاً على النقيض من ذلك. في هذه الحالة، لا يقع على صاحب العمل أي التزام بتوفير التغطية الصحية إلّا إذا نصّت شروط التوظيف عليها، كما لا يحقّ للموظّف المطالبة بها. وبحسب المقاربة الكانطية التي تتبنّاها كورديللي، يشكّل ذلك مثالاً على السلطة السياسية المُخصخصة، وبالتالي غير الشرعية. تتطلّب الممارسة الشرعية للسلطة السياسية مؤسّسة ديمقراطية تُقرّ الحقوق والواجبات وتفصل فيها وتسهر على إنفاذها على نحوٍ ينسجم مع قاعدة الاحترام المتبادل بين جميع الهيئات القِيَمية المتساوية، والاستقلالية الفكرية للفرد. فإذا كان صاحب عملك يمتلك سلطةً قِيَمية يحرمك بموجبها من استحقاقاتك ويجعلك أكثر اعتماداً عليه بهذه الطريقة، فأنت تعيش، إلى حدٍ ما، في حالة الطبيعة التي لا يكون فيها «للحق» (أو Recht «ريخت» بالألمانية، وهو مصطلح يجمع ما بين العدالة والحرية في مفهوم واحد) أي سيادة. فهذه الخدمة الاجتماعية المُخصخصة تعكس سلطة سياسية مُخصخصة لا تُنشئ أي التزام باحترام الآخرين بوصفهم سواسية من ناحية القيمة الأخلاقية. 

في حال كانت الدولة من يقدّم الخدمة، يقلّ اعتماد العامل على صاحب العمل. وبذلك ينعم العمّال باستقلالية أكبر، ويصبحون مهيئين أكثر للاعتراض على القرارات الإدارية التي تضرّ بمصالحهم

يعتبر كانط أنّ الشرعية السياسية تشترط بألّا يكون الأفراد خاضعين لإرادة غيرهم الشخصية، في حين أنّهم يتعاملون مع الآليات الديمقراطية على أنّها شكل من أشكال السلطة. بمعنى آخر، لا يمكن لأحدهم أن يملي عليّ ما أفعل تبعاً لأهوائه، ولديّ أسباب وجيهة للامتثال لحكم القانون الذي أرسته الآليات الديمقراطية. وحتى إذا كنت أنتمي لأقلية سياسية، فسوف أتقيّد بنتائج العملية السياسية كونها لا تمنح غيري الصلاحية للتدخّل في حياتي بصورة تعسّفية. وحدها المؤسسة السياسية قادرة على خلق هذا الواقع نظراً لما تتسم به من عدالة وسلطة لا تجتمعان في أي نوع آخر من المؤسّسات. وإذا كانت إحدى المنظّمات غير الحكومية تقدّم خدمات اجتماعية، فهي ستضع شروط التعامل مع المستفيدين من تلك الخدمات، إلّا إذا عمدت الحكومة إلى تنظيمها، أو تتحوّل إلى ديمقراطية مصغّرة تضم مقدّمي الخدمات والمستفيدين منها. وبما أنّ العملية السياسية المشتركة وحدها تتمتع بالسلطة (لكونها مشتركة)، فإنّ الديمقراطية المصغّرة تصبح هنا السبيل الوحيد لكسب الشرعية. 

مع ذلك، تشكّك كورديللي في مدى كفاءة وواقعية هذه البدائل شبه الخاصة. ولعلّ الحلّ الأكثر واقعية يتمثل في التصدّي لمشكلات البيروقراطية بشكل مباشر. فإن لم تنجح نماذج الخصخصة من الناحية التجربيبة أو القيَمية، فهذا لا يعني رفض فكرة الإدارة العامة تماماً، إنّما إعادة النظر فيها لتحسين أدائها. فعلى سبيل المثال، يمارس المسؤولون العموميون الاستنسابية مختبئين خلف ستار القواعد الموحّدة لإبعاد شبهة الاستنسابية عنهم، ما يجعل من الصعب جدّاً على المواطنين المطالبة بمساءلتهم عن قراراتهم. فقد تحدث مثلاً حالات تمييز، لكنّها تُبرَّر بحجّة الالتزام بتطبيق القواعد على الجميع، وهذا ما يثير حفيظة الكثير من اليساريين تجاه الدولانية. ومن منّا لم يسمع عن موظّف عمومي لم يصغِ إلى شكوى أحدهم ويعالجها؟ لا شك في أنّ هذه التجربة تولّد نفوراً، بل وتنتقص من شرعية الإدارة العامة حسب معايير كورديللي.

ما السبيل إذن إلى تعزيز شرعية المؤسّسات العامة؟ تقترح كورديللي ترتيبات مؤسّساتية، منها إشراك الموظّفين في القرارات والشؤون الإدارية، وتمكين المواطنين من التصويت على إقالة مسؤوليهم المنتخبين في حال تقصيرهم، وتشكيل لجان عشوائية من المحلّفين المدنيين لتحديد معايير استحقاق تقديمات الرعاية الاجتماعية. كما تقترح التثقيف المدني ليس لعموم الناس وحسب بل للطامحين في شغل الوظيفة العامة، وذلك لتهيئتهم للتعامل مع الجمهور بشكل أفضل عند تولّي منصبهم. وهذه حلول سياسية لمشكلات سياسية، أمّا البدائل التي لا تنتمي إلى الحيّز العام فليست كذلك، وهي بدائل وصفها كانط بأنها تنتمي لحقبة «ما قبل السياسة»، أو التي تفشل من حيث المعايير الأخلاقية في أن ترقى إلى وصف المجتمع المدني. ويدّعي مناصرو الخصخصة بأنّ الكيانات الخاصة هي إمّا أكثر كفاءة، أو تخضع لمساءلة أكبر أمام فئة من الناس، أو الاثنين معاً. غير أنّ الخصخصة لا تعدو كونها أحادية بيروقراطية تحت مسمى آخر.

ذكرت إيلين ماسكينز وود في إحدى كتاباتها أنّ الفرق بين السلطة السياسية في مجتمع رأسمالي وتلك القائمة في مجتمع غير رأسمالي هو أنّ الرأسمالية تضفي طابعاً مؤسسياً على السلطة السياسية المُخصخصة ضمن عملية الإنتاج. وعلى الرغم من أنّ الاقتصاد والدولة لا ينفصلان أبداً، بل يتكاملان ويكوّنان بعضهما بعضاً في نواحٍ عدّة، فإن الطريقة التي يمارس بها رأس المال سلطته السياسية في الإنتاج تختلف عن الطريقة التي تمارس بها الطبقات المالكة سلطتها في الأنظمة الأخرى. كيف لنا إذن أن نردم الهوّة بين الأنظمة الرأسمالية وغير الرأسمالية وإعادة رسم حدودها المؤسّساتية على نحوٍ يرجِّح كفّة العمّال والفقراء والمهمّشين في ميزان القوى؟

من بين الاستنتاجات التي نستخلصها من محاججة كورديللي أنّ المسألة ترتبط بالحوكمة بدرجة أكبر ممّا كان يُخيّل للمفكّرين الاشتراكيبن. ومن المستهجن أن يغيب موضوع الحوكمة عن معظم النقاشات اليسارية المتعلّقة بالدولة. فعلى حد وصف كورديللي، تشكّل الدولة الخاصة غير الشرعية حالةً ينبغي لغالبية اليسار تفاديها. وتطرح الكاتبة تساؤلاً جدياً بشأن كيفية مقاربة اليسار موضوع الحوكمة في ظلّ تعاظم دور المنظّمات غير الحكومية في تقديم الخدمات وبلورة الحركات الاجتماعية، فضلاً عن تدهور الديمقراطية الاجتماعية، وانهيار نموذج دولة الرعاية، أو غيابها في مناطق عدّة من العالم. وبدلاً من التطرق إلى هذه الأسئلة، يكتفي العديد من اليساريين بما يُسمى بـ«الحراكية»، أو اعتبار الحركات الاجتماعية ديمقراطيات بديلة مستقلة عن نماذج السلطة السياسية المؤسساتية، فيما يحاول آخرون تقوية الدول الحالية لإصلاح الأضرار التي خلّفتها حقبة النيوليبرالية. 

تتطلّب الممارسة الشرعية للسلطة السياسية مؤسّسة ديمقراطية تُقرّ الحقوق والواجبات وتفصل فيها وتسهر على إنفاذها على نحوٍ ينسجم مع قاعدة الاحترام المتبادل بين جميع الهيئات القِيَمية المتساوية، والاستقلالية الفكرية للفرد

هذه الاختلافات السياسية قديمة العهد في صفوف اليسار. فاللاسلطويون يعتبرون أنّ كلّ الدول تقوم على العنف، لذا وجب التخلص منها. أمّا الشيوعيون فقد سعوا على مدار التاريخ إلى مأسسة الدول بشكل صارم، في حين لجأ الديمقراطيون الاجتماعيون إلى آليات حكومية مختلفة لمأسسة تأثير الحركة العمّالية في السياسة. وتتّسم هذه الفروع الفكرية بالعدائية تجاه بعضها البعض، بحيث تعتبر كلّ منها أن الأخرى تقدم استراتيجية متوسطة الأمد تقضي على مشروع التحرّر الاجتماعي المنشود. لكنّ كورديللي تحثّنا على طرح سؤال مغاير في ظل الظروف المستجدة والصعبة: هل تستحق هذه النقاشات أن نعيدها إلى الواجهة؟ وهل تركّز على جوهر الإشكالية الراهنة؟

ربّما ليست كذلك. لطالما اعتبرت الماركسية الدولة الرأسمالية فاقدة للشرعية نظراً إلى أنّها تعتمد على الإرادة السياسية للطبقة الرأسمالية للقيام بواجباتها وتحول دون المساواة بين المواطنين. لذلك، قال فريدريك إنغلز إنّ الدولة ستندثر. أمّا فلاديمير لينين فرأى أنّ ما ستخلّفه ثورة البروليتاريا في أعقابها لن يكون دولة بالتأكيد. وقد حاول أنطونيو غرامشي تحليل العلاقة بين الحزب الثوري والطبقة العاملة على أنّها محاولة لبسط الهيمنة من دون مأسسة البيروقراطية. ولكن أيّاً من هذه المدارس الفكرية لم يكن قاطعاً في اعترافه بسلطة الدولة. 

يمكن تفسير هذه الطروحات المختلفة بأنّ الاشتراكيين إمّا يرفضون مفهوم الإدارة العامة أو يطمحون في إنشاء دول بيروقراطية ذات سلطة مطلقة. وفي كلا التفسيرين، لا ضرورة لقيام الدولة إلّا في مجتمع طبقي بهدف مأسسة القانون والنظام بين الحكام والمحكومين. ومن التفسيرات الأخرى أنّ هؤلاء المفكّرين كانوا مهتمين بالحوكمة الاشتراكية بما يتجاوز حدود الدولة بشكلها القائم في المجتمع الرأسمالي. وقد تختلف الحوكمة عن بناء الدولة وتكون أشبه بنظام للسلطة العامة الشرعية. والفرق هنا مؤسساتي، إذ إنّ نظام الحوكمة البديل سوف يستلزم إلغاء الحدود المؤسّساتية بين الدولة والاقتصاد من أجل تفكيك السلطة المُخصخصة في الأخير على نحوٍ يتوافق مع معايير الشرعية. وفي هذه الحالة، قد يختلف شكل الدولة عن الشكل الذي نعرفه، ولكنّ هذا الشكل من الحكم سيكون قادراً على التعامل مع اقتصاد شديد التعقيد والتشابك. 

لا تذهب كورديللي بعيداً في طروحاتها، لكنّ الاشتراكيين عليهم القيام بذلك من خلال قراءة هذا الكتاب للتفكير مليّاً بشبكة التحالفات التي يقيمونها اليوم. فقد دفعت المنظّمات غير الحكومية المجتمع المدني إلى شفا الأزمة بفعل مساعيها الرامية إلى استحداث نظام لتقديم الخدمات العامة لا تقدر الدول على تنسيقه أو هي غير مستعدّة لذلك. باتت لهذه المنظّمات مصالحها الخاصة، وشبكات مموِّلين من القطاعين العام والخاص، وهي ليست بديلاً عن السلطة العامة مهما جاهرت بخطاب العدالة الاجتماعية. كما أنّها ليست بديلاً عن تنظيم الحركات الديمقراطية الرامية لتوسعة نطاق العمل. لا يمكن لليسار أن يتردّد بعد الآن في طرح تصوّراته لاستبدال الحكومة الخاصة بأشكالها النيوليبرالية أو النيوليبرالية «التقدمية»، وبدل أن ينصاع لخطاب هذه المؤسّسات، ينبغي له نقد جوهر سياساتها. إنّ إقامة نظام حكم ديمقراطي ليس ممكناً إلّا على أساس تصوّر مشترك قائم على المعايير. هذه النقطة مهمّة للغاية بالنسبة لليسار إذا أراد لقيادته السياسية أن تتسم بالسلطة أمام عامة الناس. وفي هذا السياق المؤسساتي، يبدو أنّ «العدالة الاجتماعية» قطعت شوطاً كبيراً في أروقة المؤسسات، لكن قد يكون ذلك على حساب الحرية. وإنّها لمسؤوليتنا أن نغيّر هذا الواقع.

نُشِر هذا المقال في Catalyst في 31 تموز/يوليو 2023.