القوى شبه الإمبريالية: مُهيمِنة ولكن داخل مدار الإمبراطورية

  • مراجعة لكتاب كلينتون فرنانديز بعنوان «القوى شبه الإمبريالية: أستراليا في الساحة الدولية»، الذي يركّز على أستراليا بوصفها قوة شبة إمبريالية، إلا أن أصداؤه تتجاوزها. فما ينطبق على أستراليا قد ينطبق على أي دول أخرى تؤدّي أدواراً لخدمة الإمبريالية، كما يعالج القضايا المتعلقة بالنظام العالمي الخاضع لبنية داخلية هرمية، سواء كان نظاماً إمبريالياً أحادي القطب أو متعدد الأقطاب.

هل هناك دول تعدُّ جزءاً من النظام «الإمبريالي» العالمي الهرمي وتؤدّي واجبات «مؤيّدة للمستعمِر»، إلاَّ أنها تتمتع في الوقت نفسه بسلطةٍ مستقلة لا يُستهان بها؟ لا أدري إن كان لتلك الفئة من البلدان وجودٌ في مجال العلاقات الدولية، ولكن كلينتون فرنانديز طرحها في كتاب صغير وثاقب يحمل عنوان «القوى شبه الإمبريالية: أستراليا في الساحة الدولية». يحصر الكتاب اهتمامه بأستراليا دون سواها كما يبيّن العنوان. أما فيما يتعلق بفرنانديِز فهو يعمل أستاذاً بجامعة نيو ساوث ويلز، وقد أدّى سابقاً العديد من الوظائف الاستشارية الحكومية.

يعرّف فرنانديز القوى شبه الإمبريالية على النحو التالي: «تتسم القوى شبه الإمبريالية بكونها قوة تتبع الإمبريالية وتتمتع بقدرٍ من النفوذ في الوقت نفسه. إنها ليست دولة تابعة. وإنما هي تكرِّس جانباً معتبراً من سيادتها وقوتها العسكرية وسياستها الخارجية لخدمة النظام الإمبريالي، في الوقت الذي تنعم فيه بقدرٍ كبيرٍ من السلطة في مناطق نفوذها». وينطبق هذا التعريف على أستراليا. علماً بأن هذا الدور لم يُسند إليها بالتزامن مع بداية طغيان النفوذ الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كل ما حدث أنها توافقت وتكيّفت مع عملية انتقال السلطة في أعلى مستويات النظام الإمبريالي من المملكة المتحدة إلى الولايات المتحدة. والحق أنه ليس من العسير أن نرى أستراليا، التي كانت في حكم المحمية رسمياً حتى استحداث قانون إصلاحات وستمنستر في العام 1931، تؤدّي هذا الدور في ظل النظام البريطاني. لقد كانت بمثابة بؤرة استعمارية بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، استوطنها المواطنون البريطانيون الذين كانوا شديديِ الارتباط ببلدهم الأم، وبالتالي بالإمبراطورية. ساد التسليم بالطابع الخيّر للإمبراطورية، وهو ما تعكسه الاقتباسات العديدة التي يسوقها فرنانديز وتكيل المديح للإمبراطورية التي «حكمت الآخرين من أجل مصلحتهم فقط». لم تكن أستراليا مستعدة لقبول المزيد من الحرّيات التي منحتها إيّاها الإصلاحات التي استحدثها النظام الإمبراطوري البريطاني. وعلى هذا النحو، لم يتم التصديق على إصلاحات وستمنستر إلّا في العام 1942. وعندما طرأ التغيّر على قمة النظام الإمبراطوري بعد العام 1945، احتفظت أستراليا بالدور نفسه، وأصبحت الآن مركزاً عسكرياً متقدّماً للولايات المتحدة في آسيا. وعلى حدّ قول أحد سفراء إسرائيل في أستراليا، إنها «دخيلة» على آسيا: شأنها شأن إسرائيل، دولة أوروبية استقرت في آسيا بمحض الصدفة، كما قال السفير (ص 54).

تكرِّس القوى شبه الإمبريالية جانباً معتبراً من سيادتها وقوتها العسكرية وسياستها الخارجية لخدمة النظام الإمبريالي، في الوقت الذي تنعم فيه بقدرٍ كبيرٍ من السلطة في مناطق نفوذها

ينطوي الوضع شبه الإمبريالي على جملةٍ من الواجبات والامتيازات. يتمثّل الواجب في اتباع السياسة الخارجية للدولة الإمبريالية في جوانبها الرئيسية. لا تنصاع القوة شبه الإمبريالية لسياسة الولايات المتحدة في كل تفاصيلها، ولكن عليها ذلك في المجالات المهمّة. لم تدخر أستراليا جهداً في تقديم العون اللازم في منطقة المحيط الهادئ بوصفها طرفاً في معاهدة «أنزوس»، وهي تفعل ذلك الآن باعتبارها عضواً في تحالف رسمي جديد يضمّها إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وظهر ذلك من خلال إيفادها الجنود وتوفير المساعدة اللوجستية إبّان حربي كوريا وفيتنام ومن خلال تبادل المعلومات الاستخبارية (ينوّه فرنانديز بالدور المؤثر الذي قلّما يُشار إليه والذي لعبته المخابرات الأسترالية في الإطاحة بحكومة الليندي في تشيلي).

تتمتع القوى شبه الإمبريالية ببعض الامتيازات. فهي باستطاعتها أن تؤدي دوراً يضاهي عمل الإمبريالية ضمن منطقة نفوذها، والتي تشمل في حالة أستراليا تيمور الشرقية وعدد من البلدان الجزرية الواقعة في المحيط الهادئ. قد يبدو الأمر قليل الأهمية، لكن قد يصبح مهماً للغاية في لحظةٍ معيّنة كما يذكرنا فرنانديز، على سبيل المثال كما في حالة دعم أستراليا الثابت لسوهارتو («الذي ربما كان أعظم شخصية في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين» بحسب  تيم فيشر، نائب رئيس الوزراء الأسترالي في حكومة هوارد، ص. 119)، أو عندما تكتسب سياسات الدول المجاورة الصغيرة والفقيرة أهمية استراتيجية. (انظر الاحتجاجات على الاتفاق العسكري الذي عُقد مؤخراً بين الصين وجزر سولومون).

ينوّه فرنانديز بالدور المؤثر الذي قلّما يُشار إليه والذي أدّته المخابرات الأسترالية في الإطاحة بحكومة الليندي في تشيلي

وبالنظر إلى كونها قوة شبه إمبريالية، لا يعني أنها تحقّق أرباحاً صافية من الناحية الاقتصادية، بحسب فرنانديز. تربح أستراليا في بعض من المجالات بفضل السياسات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية التي تتولى الدول المتقدّمة رسمها، بيد أن فرنانديز يعتقد أنها توفر الكثير من الحوافز للمستثمرين الأميركيين (تميّزهم بمعاملة فضلى بالمقارنة مع المستثمرين المحليين)، ولكنها تُمنى بالخسائر من جراء سياسات الولايات المتحدة التي تحمي حقوق الملكية الفكرية. فيما يتعلق بالأخيرة، ينشغل فرنانديز أساساً بالحمايات الممنوحة للأدوية، إلى جانب العديد من الاختراعات، والتي تغدو بالتالي موضوعاً لحقوق الملكية الفكرية واستخراج المال.

ولعل النقطة الأكثر إثارة للجدل بحسب فرنانديز هو مبدأ الميزة النسبية الذي حافظ على موقع ثانوي لأستراليا كمُصدِّر للمعادن والموارد الطبيعية. من الواضح أن المملكة المتحدة «قدّرت» أستراليا لقيامها بهذا الدور، بيد أني أقل اقتناعاً بقدرتها على الصمود في خلال الحقبة التالية على الحرب العالمية الثانية. مع ذلك، هناك العديد من الإحصاءات المذهلة التي يستعرضها فرنانديز: على سبيل المثال، ما يقرب من ثلثي صادرات أستراليا يتألف من المواد الخام، ويحل الحديد الخام والفحم والنفط والذهب والقمح في المراتب الخمس الأولى من حيث القيمة. وتتسم أستراليا بالمستوى الأدنى لتعقيد الصادرات بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وشأنها شأن روسيا، تستفيد أستراليا من معدّل مرتفع للغاية من الأرض مقابل العمالة، وتستخدم كل ما يُنتج من الأرض أو ما يستخرج منها في التصدير. ويشير فرنانديز إلى تملُّك الأجانب لغالبية الشركات التي يُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها أسترالية.

شأنها شأن روسيا، تستفيد أستراليا من معدّل مرتفع للغاية من الأرض مقابل العمالة، وتستخدم كل ما يُنتج من الأرض أو ما يستخرج منها في التصدير

يتألف النظام «الإمبريالي» من ثلاثة أجزاء: أولاً، يستمر هذا النظام من دون حاجة الدولة المهيمنة إلى تعيين الحكّام أو السيطرة المباشرة على سياسات الدول شبه الإمبريالية والدول ذات المستوى الأدنى (التابعة) على الرغم من إمكانية اللجوء إلى استخدام الإكراه الاقتصادي أو القوة الغاشمة في بعض الأحيان. بحسب فرنانديز،  يتمّ تكريس التبعية الاقتصادية من خلال مبدأ الميزة النسبية الزائف الذي نبذته الولايات المتحدة في فترة صعودها. («لو اتبع الأميركيون مبدأ الميزة النسبية لكانوا يصدّرون الفراء ولحوم البيسون»، ص. 38). ثانياً، لا بد من تشكيل الرأي العام على نحو لا يسمح أبداً بإثارة القضايا الهامة والشائكة، في مقابل إفساح المجال لمناقشة مجموعة كبيرة من المواضيع الأخرى في أي وقت. والمكوّن الثالث هو التبرير السياسي والأيديولوجي للنظام الهرمي «المتجسد» في المفهوم الغامض لـ «النظام العالمي القائم على القواعد». تسبَغ القواعد بتعريف مرن لتناسب مصالح القوة المهيمنة في أي وقت وظرف. وبالتالي، يمكن أن تكون «القواعد» هي تلك المتعلقّة بمبدأ تقرير المصير، وفي الوقت نفسه يمكن أن تكون معاكسة لهذا المبدأ؛ يمكن للقواعد أن تتوافق مع التدخل في الشؤون الداخلية أو أن تقف ضدّه. وهي تختلف عن قواعد النظام الدولي المرتكز إلى الأمم المتحدة، التي يفضّلها فرنانديز وهي «غير مرنة» بطبيعتها.

يدور كتاب فرنانديز حول أستراليا، ولكن يسهل استبدال أستراليا بدولٍ مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وحتى اليابان للتأكد من أنها تشغل مواقع مماثلة لتلك التي تحتلها أستراليا. بالنظر إلى إمبراطوريتها المترامية، تعد المملكة المتحدة بمثابة قوة شبه إمبريالية «عليا»، في حين مُنحت فرنسا وألمانيا حقوق «الحاكم» على أفريقيا الفرنسية وأوروبا الشرقية على التوالي. بل يمكن النظر إلى الصراع الحالي بين روسيا و«التجمّع الغربي» كصراعٍ تفسّره رغبة الولايات المتحدة في عدم منح روسيا حقوق «الحاكم» في نطاق الجمهوريات السوفياتية السابقة. وقد يتساءل المرء كيف يمكن للنظام الهرمي الحالي أن يستوعب الصين التي تظهر بوضوح رغبة قوية في التحوّل إلى قطب مستقل يتمتع بالنفوذ والهيمنة على شرق آسيا. أخيراً، يواجه النظام الحالي مشكلة تتمثل في القوى غير الأوروبية الصاعدة (الهند والبرازيل ونيجيريا وجنوب أفريقيا وإندونيسيا) التي لأسبابٍ تاريخية وثقافية لا تتمتع بالمستوى نفسه من التقارب مع الولايات المتحدة بالمقارنة مع القوى شبه الإمبريالية الحالية. 

على الرغم من أن كتاب فرنانديز مكرّس بأكمله لأستراليا، إلا أن أصداؤه تتجاوز موضوعه المحدّد. فهو يعالج القضايا الأساسية المتعلقة بالترتيب الحالي للعالم، الذي يخضع لبنيةٍ داخلية هرمية، بغض النظر عن كونه نظاما «إمبريالياً» أحادي القطب أو نظاماً متعدّد الأقطاب. ولعل المطلوب، وإن كان بعيد المنال، هو إستحداث نظام قائم على الحقوق المتساوية بين الدول الكبيرة والصغيرة على النحو المحدَّد في ميثاق الأمم المتحدة. 

نُشِرت هذه المراجعة على مدوّنة الكاتب في 7 كانون الثاني/يناير 2024.