الرأسمالية الخضراء: كلام فارغ

  • مراجعة لكتاب «تحدّي الرأسمالية الخضراء»، لمجموعة مؤلفين، وهو يبرز أشكال الاستغلال الرأسمالي الذي يسلِّع ما أسماه ماركس مَصْدَري الثروة الرئيسين: الطبيعة والبشر. ويبيّن بجلاء تراكُب أشكال الاستغلال مع أوجه الاضطهاد الاستعماري، وترسيخ الهيمنة الإمبريالية على المنطقة، عبر اتفاقيات تبادل حر وشراكة، فضلاً عن اهتمام بدور دول الخليج في إعادة ترتيب الاقتصادات السياسية ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم بمجمله بتضافر مع الطور النيوليبرالي للرأسمالية العالمية.

صدر عن المعهد الدولي TNI مؤلف جماعي بعنوان «تحدّي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية والانتقال الطاقي في المنطقة العربية». 

الكتاب من الحجم الكبير، ومؤلف من 370 صفحة، ويمكن للقارئ أن يتتبع من خلاله تفاصيل صك اتهام ناجز في وجه الرأسمالية بكل تجلياتها (الإمبريالية والكولونيالية والنيوليبرالية والاستخراجية والعنصرية)، وآثارها التدميرية على منطقة تقع في أكثر مناطق العالم تأثراً بالأزمة البيئية والاحترار العالمي. ويشكّل الكتاب، في الوقت نفسه، دفاعاً بالأدلة العلمية والوقائع الملموسة، عن الانتقال العادل بأبعاده البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة.

يتميّز الكتاب بإبراز تمفصل أشكال الاستغلال الرأسمالي الذي يسلِّع ما أسماه ماركس مَصْدَري الثروة الرئيسين: الطبيعة والبشر. وفي الوقت نفسه، يبيّن بجلاء تراكُب أشكال الاستغلال مع أوجه الاضطهاد الاستعماري (فلسطين، الصحراء الغربية)، وترسيخ الهيمنة الإمبريالية على المنطقة، عبر اتفاقيات تبادل حر وشراكة، فضلاً عن اهتمام قلّ نظيره بدور دول الخليج في إعادة ترتيب الاقتصادات السياسية ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم بمجمله بتضافر مع الطور النيوليبرالي للرأسمالية العالمية.

شكل تسفيه شعارات «الرأسمالية الخضراء» وملتقياتها (قمم المناخ) إحدى أهم نقاط قوة الكتاب، واختصرها المقال التقديمي (لحمزة حموشان وكايتي ساندويل) باستعارة الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ: «كلام فارغ (blah blah blah)».

اهتمام عربي قديم

تُعد المقارنة من أفضل الوسائل لإبراز أهمية إنجاز دون غيره. فالاهتمام بالمسألة الطاقية وآثارها البيئية ليس حديثاً في المنطقة العربية، بل اهتمام قديم محفَّزٌ بواقع أن المنطقة تضم في الوقت نفسه، أكبر منتجي الطاقات الأحفورية (دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا) ودول تفتقر كلياً لهذه الطاقات (الدول المغرب العربي) وما يترتب عن ذلك من ارتفاع كلفة الواردات.

صدر عن سلسلة «عالم المعرفة» كتب عدّة عن الموضوع، نختار منها كعينة كتاب «تكنولوجيا الطاقة البديلة» للكاتب الفلسطيني سعود يوسف عياش (1981). لكن في حين يركز «تحدي الرأسمالية الخضراء» على الانتقال العادل وما يستدعيه من إعادة بناء اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي من أسفل، اقتصر كتاب «تكنولوجيا الطاقة البديلة» على الحلول العلمية، وحصر نقده للنموذج القائم على جانب الطلب وفرط الاستهلاك. ففي «تكنولوجيا الطاقة البديلة» تدور الأسئلة الرئيسة حول من يحتاج إلى الطاقة؟ كم يحتاج؟ أي نوع يحتاج؟ لأي غرض يحتاجها؟ لأية فترة زمنية؟. أما في «تحدي الرأسمالية الخضراء» فهي من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟

لا تسعى هذه المراجعة إلى تقديم الكتاب بتفاصيله، فمتعة اكتشاف ذلك متروكة للقارئ/ة، بقدر ما تكِدُّ لإبراز ما أغفله الكتاب، وما تناوله بشكل ناقص أو قاربه بشكل مغلوط:

1. مسؤولية دول الشمال؟

الأزمة المناخية نتاجُ قرارٍ «تتحمّل مسؤولية كبرى عنه الشركات والحكومات في الشمال». هذا ما ورد في المقال التقديمي للكتاب. وعزّز كاتبا التقديم هذا الحكم بأرقام مستقاة من دراسة حديثة تُظهر «أن المسؤولية التراكمية للشمال العالمي عن إطلاق غازات الاحتباس الحراري تمثل %90، في حين يتحمّل الجنوب العالمي المسؤولية عن %10». طبعا لم يغفل الكاتبان «مسؤولية الطبقات الحاكمة في مختلف الدول، بما فيها المنطقة العربية». لكن التركيز على مسؤولية الشمال يغضّ الطرف عن مسؤولية دول لا تزال تُصنَّف ضمن «دول الجنوب»، على الرغم من أنها بدأت منذ مدة تتجاوز «دول الشمال»، ليس فقط في الإنتاج والتجارة، ولكن أيضاً في تدمير البيئة وإنتاج واستهلاك الطاقة الأحفورية.

ينتج عن التركيز على مسؤولية «دول الشمال» حصراً، أملُ رهانات واهمة على دول مثل الصين

استطاع إسهام آدم هنية «انتقال لأين؟ دول الخليج العربية ومحور شرق- شرق- للنفط في العالم»، تصحيح هذا الإغفال، إذ كتب: «اعتباراً من نهايات تسعينيات القرن العشرين، اهتزت هذه السمات البنيوية لصناعة النفط في العالم بشدّة بسبب انفتاح الصين على الاقتصاد العالمي وتموضعها بعد ذلك في قلب التصنيع في العالم». وقدّم أرقاماً دالة عن الأمر: «في العام 2000، كانت الصين مسؤولة عن %6 فقط من الطلب العالمي على النفط، لكن بحلول العام 2019 أصبحت تستهلك نحو %14 من نفط العالم، أي أكثر من أي بلد آخر باستثناء الولايات المتحدة». 

الانتقادات نفسها الموجّهة إلى «دول الشمال» في ما يخص الالتزامات المناخية، تصدق أيضاً على الصين. صرّح الرئيس الصيني شي جين بينغ أن بلاده تهدف إلى «تخفيض تدريجي» لانبعاثات الغازات السامة وذلك اعتباراً من العام 2026، وتحقيق الحياد الكربوني بحلول العام 2060. لكن شأنه شأن دول الشمال لم يذكر كيف ستتمكّن الصين من ذلك، بل بالعكس ترفض إغلاق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تُقدم على بناء محطات جديدة مماثلة في أكثر من 60 موقعاً بجميع أنحاء البلاد، مع وجود أكثر من محطة واحدة في مواقع متقاربة.1

يؤثر هذا على منظورات الانتقال العادل بالمنطقة و«فاعليه» الرئيسيين، إذ ينتج عن التركيز على مسؤولية «دول الشمال» حصراً، أملُ رهانات واهمة على دول مثل الصين، وهذا ما ورد في ورقة عن الجزائر (إيمان بوخاتم): «من الأهمية بمكان البحث عن حلول ناجعة لإنشاء وتعزيز التكنولوجيا والخبرة، من خلال تجاوز نظام حقوق الملكية الفكرية الذي يفرضه الغرب والاحتكارات التكنولوجية، وذلك عبر إقامة شراكات مربحة للجانبين مع بلدان الجنوب العالمي، مثل الصين». وهو ما يكرّس المنظور المعسكراتي - الموروث عن الحرب الباردة - الذي يُضفي فضائل أيديولوجية على إمبرياليات صاعدة (الصين وروسيا) في مواجهة إمبريالية قديمة (الولايات المتحدة).

2. الإمبريالية: غربية حصراً

ينسحب وضع مسؤولية الأزمة المناخية على «دول الشمال» حصراً، على قصر الاستغلال الإمبريالي عليها، واستثناء دول بدأت تحتل في التراتبية العالمية، موقعاً شبيهاً بما كانت عليه ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية في نهاية القرن التاسع عشر وقبل الحرب العالمية الأولى.

إن اعتبار الصين وروسيا «خارج الدائرة الإمبريالية»، يجعل منهما حليفين لشعوب المنطقة في مساعيها التحررية، وقد رأينا النتائج الكارثية لهذا المنظور المعسكراتي في موقف اليسار العربي

الاستثناء الوحيد هو ما ورد في المقال التقديمي (حموشان، كايتي)، في ما يخص دول الخليج: «إذا نظرنا بشكل أعمق إلى دور الخليج الرئيسي في التشكيلة العالمية، منطقة شبه طرفية... أو حتى قوة شبه إمبريالية (أو إمبريالية بالوكالة)، فليس الخليج وفقط أغنى من الدول العربية المجاورة، إنما يشارك كذلك في الهيمنة على فائض القيمة ومصادرته على المستوى الإقليمي، مع تكرار إنتاج علاقات الاستغلال بين المركز والهامش وعلاقات التهميش والتراكم من خلال السلب».

ولكن ماذا عن الصين وروسيا؟ ليست «المشاركة في الهيمنة على فائض القيمة ومصادرته على المستوى الإقليمي» هو ما يُضفي الطابع الإمبريالي على دولة من الدول. فالمغرب يقوم بالدور نفسه في أفريقيا، وتقوم شركاته - بشراكة مع رأس المال من الاتحاد الأوروبي - على غزو أسواق القارة: البنية التحتية، والاتصالات، والأسمدة... فهل يجيز لنا هذا تصنيف المغرب كـ«قوة شبه إمبريالية»؟

يجد هذا التصور الخاطئ جذوره في نظرية «النظام العالمي» (إيمانويل والرشتاين)، التي تنظر إلى العالم على أنه منقسم إلى «دول نواة/لب» (الإمبريالية الغربية) و«دول شبه محيطية/ طرفية» و«دول المحيط الأطراف». قدم الكاتب العراقي عصام خفاجي نقداً صارماً لهذه المدرسة.2

طور الاقتصادي الماركسي الأرجنتيني كلاوديو كاتز هذه النظرية - على خلفية حرب روسيا على أوكرانيا بشكل متطرف - إذ يقترح «فهم الإمبريالية كنظام يهيمن من خلاله جوهر واحد (الولايات المتحدة وحلفائها التابعين) وترتبط به جميع أجزاء العالم الأخرى كمحيط أو شبه محيط».3  إن مفاهيم (موروثة عن حقبة الحرب الباردة) مثل «المركز» و«الأطراف» و«الشمال» و«الجنوب»، تستدعي إعادة نظر في ضوء إعادة مراجعة متنامية في التراتبية الإمبريالية العالمية.

حتى ما يُطلق عليه هنا «قوة شبه إمبريالية (أو إمبريالية بالوكالة)» في إحالة إلى دول الخليج، يبرزه مقال آدم هنية، على أنه «مجرد تحول اتجاه»، إذ أن موقع الصين الجديد في الاقتصاد العالمي «يدفع تصدير النفط بعيداً من الغرب نحو الشرق»، بينما حصر دور دول الخليج في الدور التقليدي نفسه: أحد «سماسرة الطاقة الجدد» في العالم. فحسب هنية يرتبط نمو نشاط التكرير في الشرق الأوسط وآسيا بشكل وثيق بشبكات الإنتاج في الصين وآسيا عامة.

إن لاعتبار دول الخليج «قوى شبه إمبريالية» والسكوت عن الصين (وروسيا أيضاً) مستتبعات عملية، ليس فقط على الانتقال الطاقي، ولكن أيضاً على التغيير بالمنطقة. فتحوّل الصين إلى زبون رئيسي لنفط دول الخليج، يرسخ موقعها في «قلب رأسمالية الوقود الأحفوري» (هنية). إن صعود الصين الاقتصادي أحد العوائق الكبرى أمام انتقال عادل في المنطقة، إذ يضع أمام «جهود إنهاء اعتماد العالم على الوقود الأحفوري» عائقاً أساسياً «خارج الأسواق الغربية الأساسية». (هنية)

إن اعتبار الصين وروسيا «خارج الدائرة الإمبريالية»، يجعل منهما حليفين لشعوب المنطقة في مساعيها التحررية، وقد رأينا النتائج الكارثية لهذا المنظور المعسكراتي في موقف اليسار العربي الداعم لنظام بشار الأسد في سوريا والداعم لحرب بوتين على أوكرانيا، والسكوت عن التعاون الصيني الإسرائيلي.4

3. عن الاستشراق والاستشراق المعكوس

فضح الكتاب النظرة الاستعمارية للبيئة التي جرى سردها بصفتها «غريبة وناقصة»، مقارنة بالبيئة الأوروبية «الطبيعة والمثمرة»، ما يوجب تدخلاً ما «من أجل تحسين واستعادة وتطبيع وإصلاح» هذه البيئة، وهي النظرة نفسها التي تعتمدها إسرائيل في علاقات الهيمنة مع فلسطين والأردن.

إن الإمبرياليات الصاعدة (الصين وروسيا) تستعمل خطاب الاستشراق نفسه، أي الخصوصيات والطبائع الجوهرانية التي لا تتبدل، لمنافحة الإمبرياليات الغربية وإبعادها عن مناطق التنافس (دول الجنوب)

ولكن، يترتب على التركيز عن مسؤولية «دول الشمال» وحصر وصف الإمبريالية عليها، خطاب ثقافوي ينظر إلى «الغرب/الشمال» ككل واحد منسجم له علاقات هيمنة على «الشرق/ الجنوب»، يبررها خطاب أيديولوجي يستمد ترسانته من «الاستشراق».

لا أحد يُنكر أن الاستعمار كان مصاحباً بتحيز أيديولوجي وخطاب عنصري ينظر إلى شعوب المنطقة على أنها عاجزةً ومتخلّفة تنتظر الدول الاستعمارية الحاملة للحضارة والثقافة والتنمية. لكن الإشكال كله في حصر ذلك في الدول الغربية.

لسنا هنا بمعرض انتقاد خطاب الاستشراق، فهذا موجود بالتفصيل عند صادق جلال العظم5  جلبير الأشقر6  وعصام خفاجي7  وكيفن أندرسون،8  على سبيل المثال لا الحصر. لكننا معنيون ومعنيات هنا بتكامل هذه النقطة مع النقطتين السابقتين: حصر مضمون ثقافة الاستشراق على الغرب/ دول الشمال، وما يستتبع هذا من استنتاجات سياسية/استراتيجية مغلوطة.

ورد في المقال التقديمي للكتاب: «مثلما أضعف الإخضاع الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية استقلال المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً، فإن إنتاج المعرفة عن الشعوب العربية وتمثيلاتها وبيئاتها يُستخدم - أيضاً - من القوى الاستعمارية لتبرير مشروعها الكولونيالي وأهدافها الإمبريالية».

وباستعمال المفهوم المستحدَث من صادق جلال العظم في سجاله مع إدوارد سعيد: «الاستشراق معكوساً»، فإن الإمبرياليات الصاعدة (الصين وروسيا) تستعمل خطاب الاستشراق نفسه، أي الخصوصيات والطبائع الجوهرانية التي لا تتبدل، لمنافحة الإمبرياليات الغربية وإبعادها عن مناطق التنافس (دول الجنوب).

يعتمد نظام بوتين في روسيا على خطاب الخصوصيات القيمية والثقافية نفسها، لتبرير السلطوية بمبرر «مقاومة روسيا للتغريب السياسي»، وهو ما فصله ألكسندر دوغين، أبرز مفكّري السياسة في روسيا اليوم، والمقرّب من السلطة، في كتابه «النظرية السياسية الرابعة».9  وهو إذ يفعل ذلك، إنما يستعير خطاب الاستشراق بشكل معكوس، ويؤكد على وجود فروقات جوهرية بين روسيا والغرب تعوق بشكل أو بآخر التحول الديمقراطي.

وفي الصين برز Zhang Weiwei، والذي اعتمد بدوره على خطاب الفروق الجوهرية بين الصين والغرب، بالنسبة لزهانغ الديمقراطية غير صالحة للصين لأنها أمست «جسراً آمناً لفوز عديمي الكفاءة بالسلطة؛ وأمست مصدراً لسياسات عدائية-إمبريالية». وبدلاً من الديمقراطية، دافع عن «الميريتوقراطية» (Meritocracy) التي تعتمد على الاستحقاق والجدارة القائمة على انتقاء المواهب للحكم، وليس الانتخاب.10  ولم ينتبه زهانغ أن مفهوم الميتوقراطية ذاته اختُرِع في الغرب (بريطانيا) من قبل مايكل يونغ.11  وهو نفسه ليس إلا صدى متأخراً لفلسفة البرجوازية الغربية الصاعدة ضد حكم تراتبية الإقطاع.

إن القاسم المشترك بين استشراق الإمبرياليات الغربية والاستشراق المعكوس للإمبرياليات الصاعدة هو تأبيد الخصوصيات الثقافية والفروق الجوهرية، تأميناً لمناطق النفوذ. فزهانغ يدعو شعوب «الجنوب/الشرق» للتمرّد على الفكرة الديمقراطية، ولكن كل ما يقدمه لها كبديل هو «المزاوجة والتوليف المبدع بين الخصوصية التاريخية والثقافية والقيمية وبين الدولة الحديثة».

وإن استعملنا «اللغة الحديثة» لتفكيك طلاسم زهانغ سنحصل على هذه الفقرة من كتاب ديفيد هارفي: «من الممتع الآن ملاحظة التلاقي بين الليبرالية الجديدة في دول استبدادية مثل الصين وسنغافورة، وتنامي الاستبدادية الواضحة في دول ليبرالية جديدة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا».12  هكذا ينتهي خطاب الفروق الجوهرية بين الغرب والشرق إلى تماثل على أرضية الاستبداد السياسي والنيوليبرالية.

وكما الإمبرياليات الغربية، تنظر الصين إلى نفسها أيضاً كحاملة للتنمية والتقدّم إلى دول المنطقة، وهو ما تلخصه خطابات المسؤولين الصينيين في الترويج للمشروع الضخم المسمّى «مبادرة الحزام والطريق».

ما يتناساه منتقدو الاستشراق أن النظرة الاستعمارية القائمة على التعالي واحتقار الشعوب، توجد في صميم الحكم الطبقي ذاته. فالشعب - حتى في قلب المراكز الإمبريالية - منظور إليه دوماً كقاصر يجب أن يُحكَم من طرف الطبقات العليا. ويمثل كتاب غوستاف لوبون «سيكولوجيا الجماهير» جوهرة الركام الأيديولوجي البرجوازي تجاه الجماهير. وكل ما قام به المستشرقون هو إزاحة تلك النظرة ونقلها إلى باقي شعوب العالم.

لهذا المنظور المغلوط مستتبعات على آفاق الانتقال العادل (في المنطقة أو العالم). فمنطق الرأسمالية بمجمله يرى البيئةَ «مورداً» يدخل في دائرة الإنتاج ومراكمة الأرباح، وليست النظرة إلى بيئة البلدان التي تعرّضت للاستعمار كـ«بيئة ناقصة» تستوجب «تدخلاً من أجل التحسين والإصلاح» إلا نقلاً متطرفاً للمنظور القائم داخل تلك البلدان إلى بيئتها ومواردها الطبيعية.

نجد في خطاب «النسوية الإيكولوجية» مفهوماً وأداة معرفية أفضل بكثير من خطاب انتقاد الاستشراق بحديثها عن «الآخر البشري»، الذي يتواجد في أقصى الشرق وفي قلب المنطقة العربية وأدغال أفريقيا والأمازون، كما يتواجد في عاصمة الأنوار باريس ونيويورك ولندن.

4. النسوية الإيكولوجية

تشكل المنطقة العربية إحدى أكثر مناطق العالم اضطهاداً واحتقاراً للنساء. وعلى الرغم من انتقاد المقال التقديمي لتحليلات المؤسسات النيوليبرالية الدولية لأنها «تتجاهل أسئلة الطبقة والعرق والجندر»، إلا أن الكتاب لم يخصّص مقالاً خاصاً للموضوع، على الرغم من أهمية النسوية الإيكولوجية ضمن الحركة البيئية العالمية.

شهدت العقود الماضية تفاعلاً هائلاً بين حركة النساء والحركة البيئية، إذ تناضل كلا الحركتين ضد نموذج الهيمنة العالمي المنحاز ذكورياً والمدمر للبيئة

شهدت العقود الماضية تفاعلاً هائلاً بين حركة النساء والحركة البيئية، إذ تناضل كلا الحركتين ضد نموذج الهيمنة العالمي المنحاز ذكورياً والمدمر للبيئة. وطرحت الحركتان ضرورة توحيد مطالب حركة النساء مع مطالب الحركة البيئية بغية تصوّر إعادة تشكيل جذرية للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية والقيم المبطونة في هذا المجتمع الصناعي الحديث.13

طورت النسوية الإيكولوجية خطاب الحركة البيئية بشكل كبير. إذ ربطت بين جميع أشكال الاضطهاد والهيمنات التي تطال ثالوث «النساء - الآخر البشري - الطبيعة»، أي البشر المهمَّشين والمستغَلين والمسيطر عليهم، وعلى غير البشر من الحيوانات والنباتات والطبيعة.

يشكّل غياب دراسة خاصة بالمسألة النسوية وترابطها مع المسألة البيئية نقط نقص كبيرة في كتاب «تحدي الرأسمالية الخضراء»، في منطقة شهدت أكبر هزة جماهيرية شهدها العالم في العقد الأخير، السيرورات الثورية، أو ما يُصطَلح عليه «الربيع العربي».

5. الربيع العربي والقضية البيئية

هذه نقطة ضعف أخرى في الكتاب، إذ تناولتها إسهامات الكُتَّاب والكاتبات عرَضاً. فقد كانت  التحديات والمشكلات البيئية المتعلقة بالمياه والغذاء، إحدى أهم الأسباب المفجرة للثورة في المنطقة.14  إلا أن المطالب البيئية - شأنها شأن المطالب النسوية - لم يظهر لها أثر في شعارات السيرورة الثورية التي عمّت المنطقة بمجملها، باستثناء حركة معارضة لاستعمال الفحم في مصر (2013)، ومناهضة استغلال الغاز الصخري بالجنوب الجزائري (2015)، ومعارضة الاتحاد العام التونسي للشغل ربط محطة كهرباء بالشبكة الوطنية (2020)، لكنها كلها مقاومات بعيدة عن سنتي الصعود الجماهيري لسنة 2011.

انتهت السيرورات الثورية المنطلقة في العام 2011 إلى تكريس الاستبداد وخصوصاً تقوية وقع دول الخليج، وهو ما يضع أكبر العوائق في وجه أي انتقال عادل بالمنطقة. وهذا ما فطن له إسهام آدم هنية الذي أنهى مقاله بالفقرة الدالة الآتية: «مع تربع ممالك الخليج على قمة أشكال متطرفة من اللامساواة في الثروة والسلطة في المنطقة؛ يجب اعتبار الحركات الشعبية التي تهدف لتحدي هذه الأنظمة وتحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية في مختلف أنحاء المنطقة حلفاء جوهريين للنضالات البيئية في العالم».

قانون القيمة الرأسمالي والانتقال العادل والاشتراكية البيئية

ننهي هذه المراجعة النقدية بما نراه يشكل لبّ ولباب مسألة الانتقال الطاقي. ففي آخر المطاف كل أبعاد وأشكال الاضطهاد والاستغلال والهيمنة القائمة حالياً، بما فيها تدمير البيئة، تدور حول محور واحد وهو قانون القيمة الرأسمالي/الربح. هذا ما أكده بجلاء محرّرو الكتاب (حموشان وكايتي) عند تناولهما بالنقد لقمم المناخ: «إن توفر رأس المال والخبرات بمجال البنية التحتية للطاقة والهدف الخاص بتنويع مصادر الربح، هي عوامل تعني أن الكثير من الجهات المنتجة للوقود الأحفوري هي في الوقت نفسه قائدة ورائدة بمجال الطاقة المتجدّدة. إن توفر رأس المال والخبرات بمجال البنية التحتية للطاقة والهدف الخاص بتنويع مصادر الربح، هي عوامل تعني أن الكثير من الجهات المنتجة للوقود الأحفوري هي في الوقت نفسه قائدة ورائدة بمجال الطاقة المتجدّدة».

انتهت السيرورات الثورية المنطلقة في العام 2011 إلى تكريس الاستبداد وخصوصاً تقوية وقع دول الخليج، وهو ما يضع أكبر العوائق في وجه أي انتقال عادل بالمنطقة

في كتاب «تكنولوجيا الطاقة البديلة» المنوه به أعلاه، يجرّد كاتبه تقنيات تلك الطاقات مؤكداً أن غالبيتها اكتُشفت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، إن لم يكن قبل. ولكن الذي منع انتشارها هو؛ إما كلفتها العالية وبالتالي تدني ربحيتها، أو قدوم عصر النفط بعد الحرب العالمية الثانية وكلفته المتدنية جداً وربحيته العالية جداً مقارنة بمصادر الطاقة البديلة.

أشار إرنست ماندل إلى هذا في خطاب ألقاه بجامعة مكسيكو سنة 1972 بقول: «عديدة هي الاكتشافات العلمية المؤسسة للثورة التكنولوجية الثالثة والتي تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية. ويعود عدم تطبيقها آنذاك ليس إلى وجود عوائق تكنولوجية بل إلى مردوديتها الضعيفة».15

لذلك لا يكفي انتقاد الاستخراجية والكولونيالية والنيوليبرالية من دون ربطها بجذرها الاقتصادي: قانون القيمة الرأسمالي. ودون هذا ستتمكن دائما الرأسمالية من الالتفاف على شعارات الحركات المناهضة لها والسطو على مفاهيمها، كما سطت على مفهوم «الانتقال الطاقي» ذاته، والترويج لأكاذيبها عن الرأسمالية الخضراء والمشاريع الصديقة للبيئة.16

تشكل الاشتراكية البيئية النسوية البديل في وجه همجية الرأسمالية بكل أبعادها، وعلى رأسها الكارثة البيئية والأزمة المناخية. اشتراكية بيئية نسوية تقطع مع الرأسمالية استناداً إلى التعبئات الاجتماعية، وهذا لا يعني طبعاً الامتناع عن النضال من أجل إصلاحات جزئية وملحة، لكن باستحضار روح روزا لوكسمبورغ وكتابها «إصلاح اجتماعي أم ثورة». يجب أن نسعى، من دون أدنى وهم حول «الرأسمالية الخضراء»، إلى فرض تدابير ملموسة ضد الكارثة الجارية، بدءاً بتقليص جذري لنفث غازات الاحتباس الحراري، لكن بمنظور يجعل هذه التدابير الملموسة جسراً ينتقل عبره كادحو وكادحات العالم وشغيلته وشعوبه نحو نظام اجتماعي تضامني اشتراكي بيئي على أنقاض النظام الرأسمالي التنافسي.
 

  • 109- 08- 2021، http://tinyurl.com/2ckc8c7e
  • 22013، عصام خفاجي، «ولادات متعسرة، العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق»، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة، القاهرة- مصر.
  • 325 janvier 2024, Pröbsting, http://tinyurl.com/bdemedmu.
  • 4للإطلاع عن تعاون الصين مع إسرائيل انظر/ي: https://www.almounadila.info/archives/12163.
  • 51997، صادق جلال العظم، «ذهنية التحريم»، الطبقة الأولى، بيروت - لبنان.
  • 6«الاستشراق معكوساً: تيارات ما بعد العام 1979 في الدراسات الإسلامية الفرنسية»، http://tinyurl.com/42mfymrr.
  • 7«ولادات متعسرة»، مرجع مذكور.
  • 82017، كيفن أندرسون، «ماركس ومجتمعات الأطراف، حول القومية، الاثنيات والمجتمعات غير الغربية»، ترجمة هشام روحانا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق سوريا.
  • 9 2012, Aleksandr Dugin, «The Fourth Political Theory», Translated by Sleboda, Mark; Millerman, Michael. Arktos Media, London
  • 102012 , Zhang Weiwei, “China Wave, The: Rise Of A Civilizational State”, World Century Publishing Corporation.
  • 1119 Oct 2018, , Kwame Anthony Appiah , “The myth of meritocracy: who really gets what they deserve?”, http://tinyurl.com/mr2tkkpy.
  • 122008، ديفيد هارفي، «الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)»، ديفيد هارفي، ترجمة مجاب الإمام، مكتبة العيبكان- السعودية بالتعاقد مع جامعة أوكسفورد نيويورك، الطبعة الأولى ، ص 132.
  • 13كارين ج. وارين، «مدخل إلى النسوية الإيكولوجية»، مقدمة للباب الثالث من كتاب الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية، جـ 2، ترجمة: معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 333، نوفمبر، 2006، http://tinyurl.com/2n2sz2fx.
  • 14أكتوبر 2018، جين هاريغان، «الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية»، ترجمة أشرف سليمان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
  • 15 http://tinyurl.com/29sdm83h
  • 16للمزيد حول الاشتراكية البيئية انظر/ي: https://www.almounadila.info/archives/7411.