الهجرة كإمبريالية اقتصادية

  • مراجعة لكتاب إيمانويل نيس «الهجرة كإمبريالية اقتصادية»، الذي يتحدّى السردية المبسَّطة عن العمّال المهاجرين الدوليين والتحويلات المالية التي يُرسلونها إلى بلادنهم ويُضفي عليها مزيداً من التعقيد، واضعاً نظام العمالة المهاجرة العالمي في السياق الأوسع للتاريخ الطويل لانتزاع الموارد والعمالة من «الجنوب العالمي» لصالح «الشمال العالمي». 

يُقدَّر عدد العمّال المهاجرين الدوليين بنحو 169 مليوناً،1  ويُنظَر إليهم عموماً في الدوائر الاقتصادية الرئيسة على أنهم يأدون دوراً كبيراً في التخفيف من حِدّة الفقر وفي تحقيق التنمية الاقتصادية في بلدانهم الأصلية. وكما تؤكِّد تلك الدوائر، فإن ذلك يتحقّق من خلال التحويلات المالية التي يُرسلها المهاجرون إلى أوطانهم، ووصلت إلى نحو 647 مليار دولار في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في العام 2022، وهو إجمالي يتجاوز الاستثمار الأجنبي المباشر في تلك الدول.2  وكما يوضِّح أحد الباحثين في مجال السياسات في «البنك الدولي»، فإن التحويلات المالية «لها تأثير عميق على مستويات معيشة الناس في البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط».3

في كتابه الأخير، «الهجرة كإمبريالية اقتصادية»، يتحدَّى المحلِّل السياسي إيمانويل نيس هذه السردية المبسَّطة ويُضفي عليها مزيداً من التعقيد، واضعاً نظام العمالة المهاجرة العالمي في السياق الأوسع للتاريخ الطويل لانتزاع الموارد والعمالة من «الجنوب العالمي» لصالح «الشمال العالمي». يُحاجِج نيس بأن برامج هجرة اليد العاملة «لا علاقة لها بالجهود الرامية إلى خلق المساواة» لأنها تنقل الثروة من البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل إلى الدول الرأسمالية المتقدّمة. وبالتبعيّة، هناك عملية ثانوية للهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر ومن «الجنوب» إلى «الجنوب» لتوفير العمالة في شبكات الإنتاج العالمية التي تخدم رأس المال متعدّد الجنسيات.

من خلال سحب العمّال إلى نظام دولي يخدم رأس المال الغربي، تُستَنزَف التنمية المحلّية بالبلدان الفقيرة من العمالة الماهرة وغير الماهرة، ويمكن اعتبار هذه العلاقة شكلاً من أشكال الإمبريالية الاقتصادية

ويشير نيس إلى أنه في حين يرسل العمّال المهاجرون الأموال إلى أوطانهم لمساعدة أسرهم في تلبية الاحتياجات الأساسية، فإن هذه الممارسة «تُمثِّل حلاً فردياً لأزمة عدم مساواة مُمَنهجة». قد تساعد التحويلات المالية في دفع تكاليف التعليم، أو الإسكان، أو الرعاية الصحّية للأسر الفردية، لكنها لا تُحقِّق أي شيء في تعزيز التنمية الوطنية وتشييد البنية التحتية في المجتمع ككل. وعلى هذا النحو، لا يمكن اعتبار التحويلات المالية - المُبَعثرة على نطاق ضيِّق وغير متساو - محرِّكاً للتنمية.

علاوة على ذلك، من خلال سحب هذا العدد الكبير من العمّال إلى نظام دولي يخدم رأس المال الغربي، تُستَنزَف التنمية المحلّية بالبلدان الفقيرة ومتوسّطة الدخل من العمالة الماهرة وغير الماهرة. ويمكن اعتبار هذه العلاقة شكلاً من أشكال الإمبريالية الاقتصادية.

تدفع الممارسات الاقتصادية النيوليبرالية إلى توسُّع العمالة المهاجرة، ما يقوِّض ويقلِّل فرص العمل بدوام كامل وبأجور ومزايا لائقة في الدول متخلّفة النمو. لقد انطوى تحويل التصنيع جغرافياً باتجاه «الجنوب العالمي» في أواخر القرن العشرين على قوى عاملة غير نقابية وُظِّفَت لأداء مهام غير مستقرة وغير رسمية منخفضة الأجور ضمن وظائف قصيرة الأجل وذلك لتلبية احتياجات إنتاجية محدّدة.

وليست القوى الإنتاجية الرأسمالية وحدها هي التي تُخدَم. تُقدِّم العديد من النساء المهاجرات الرعاية المنزلية للأسر الثرية في البلدان المضيفة، ويعيشن في منازل صاحبات وأصحاب العمل. وتتعرّض النساء المهاجرات لخطر الترحيل إذا جلبن على أنفسهن غضب موظفِيهِن بسبب فشلهن في تلبية مطالب غير معقولة. وفي كثير من الأحيان، تتعرّض العاملات المهاجرات في مجال الرعاية المنزلية للإساءة، وحجب الأجور، وتقييد حرية الحركة.

من جانبها، تعمل الأحزاب اليمينية في الدول المضيفة على تسييس وجود المهاجرين، على نحو يوجِّه الاستياء بشكل خاطئ بعيداً من الأسباب البنيوية الرأسمالية لعدم المساواة في الدخل، ويشجِّع التعصّب تجاه المهاجرين الضحايا للنظام الاقتصادي نفسه. هناك توتر بين اعتماد الشركات على العمالة المهاجرة ذات الأجور المنخفضة من ناحية وإغراءات المشاعر القومية من ناحية أخرى، حيث تتباين الأهداف بينهما عند مستوى ما. ومع ذلك، فإن التدابير التقييدية تدفع المهاجرين إلى هاوية الهشاشة التي توفّر الفرص للشركات لانتهاك لوائح الأجور والسلامة وانتزاع قيمة فائضة إضافية من القوى العاملة المستغَلَّة.

تعمل الأحزاب اليمينية في الدول المضيفة على تسييس وجود المهاجرين على نحو يوجِّه الاستياء بعيداً من الأسباب البنيوية الرأسمالية، ويشجِّع التعصّب تجاه المهاجرين

إن تصاعد كراهية الأجانب يضع العقبات في طريق المهاجرين، حتى وهم يخدمون المصالح الرأسمالية في الدول الرأسمالية المتقدمة. ومع عسكرة مراقبة الحدود، ترتفع التكلفة التي يتحمّلها المهاجرون. ويندرج عدد أكبر من العمّال ضمن فئة غير المُسجَّلين، وهو ما «يسمح لدول المقصد بالتحكم في عدد العمّال المهاجرين من خلال تغيير عمليات إنفاذ القانون بحسب المصلحة».

في الولايات المتحدة، يؤدّي تجريم العمالة المهاجرة المؤقتة إلى محدودية الوصول إلى خدمات الصحة والسلامة الأساسية أو حتى الاستبعاد منها. وفي أوروبا الغربية، لا تقلِّل القيود المفروضة على المهاجرين القادمين من خارج «منطقة الشنغن» من حجم الهجرة؛ بدلاً من ذلك، تظهر نسبة أعلى من المهاجرين في أوضاع غير رسمية، ويواجه هؤلاء تهديداً مستمراً بالترحيل، وغالباً ما يعانون من ظروف معيشية قاسية. علاوة على ذلك، تميل القيود إلى تحميل المهاجرين عبء الحاجة إلى الدفع لمهِّربي وتُجَّار البشر، وأولئك الذين يفتقرون إلى الموارد يكونون أكثر عرضة للسقوط في ترتيبات السخرة أو العمل القسري حتى سداد الديون. كما تزيد الإجراءات التقييدية من حالات الاحتيال، حيث يدفع المهاجر المال مقابل إحضاره إلى بلد آخر، ليجد أن الوظيفة الموعودة غير موجودة أو تلك الموجودة غير مطابقة للموعود بها. ومن ثمَّ تتضاعف فرص إساءة معاملة العمّال غير المحصَّنين. علاوة على ذلك، فإن نظام العمل القائم على الاستغلال المُفرط يخلِّف تداعيات غير مباشرة على بقية المجتمع في البلد المضيف. ويشير نيس إلى أن «إنشاء نظام طبقي الطابع للمهاجرين يقوِّض حقوق جميع العمال».

بالإضافة إلى التحليل الكلي للعمالة المهاجرة العالمية، يُركِّز الكتاب أيضاً على أربع دراسات حالة: نيبال، وفيتنام، والسلفادور، ومولدوفا، مُبرهِناً على تأثير نظام العمالة المهاجرة على المستوى الجزئي. في حالة نيبال، لا يزال البلد متخلّف النمو، حيث تعمل الغالبية العظمى من السكّان في الزراعة. كما يُعد مركزاً رئيساً لتدريب العمّال المهاجرين المحتملين القادرين على تحمُّل الرسوم، والتوظيف، والسفر. وعادة ما يتّجه العمّال المدرّبون إلى العمل منخفض الأجر في شرق آسيا أو الخليج العربي. ومن المثير للدهشة أن أكبر «صناعة» في نيبال هي الهجرة الأجنبية المؤقّتة. ويُعد البلد جوهرياً ذيلاً للمصالح الرأسمالية الأجنبية. ويميل نظام العمالة المهاجرة إلى امتصاص العمال الشباب في المقام الأول من الاقتصاد المحلّي، وبالتالي خلق «نقص في العمالة في القطاعات الرئيسة للاقتصاد النيبالي، والزراعة، والوظائف الأساسية في الطب، والتعليم، والبناء، والبنية التحتية». ولأن الناتج المحلّي الإجمالي في نيبال يعتمد بشكل كبير على تحويلات العاملين في الخارج، فإن اقتصاد البلد غير مستقرّ بطبيعته بسبب التقلّبات في الطلب على العمالة المهاجرة.

هناك أيضاً تكلفة اجتماعية شخصية للعمّال المهاجرين، حيث يضطر العمّال إلى الانفصال طويل الأمد عن زوجاتهم، وأطفالهم، وعائلاتهم، وأصدقائهم. وغالباً ما تُترك رعاية الأطفال للعائلة الممتدّة، التي تبقى في الوطن. وبحلول الوقت الذي يعود فيه العامل المهاجر إلى وطنه، ربما يكون الغياب قد ألحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بالزواج، ما يؤدّي إلى الانفصال. وفي بعض الحالات، يُترك الأطفال ليتدبّروا أمرهم بأنفسهم. وبحسب نيس، فإن «انفصال العائلات هو عامل مساهم في ارتفاع الجريمة وعنف العصابات في السلفادور، وغواتيمالا، وهندوراس، ودول أخرى تعتمد بشكل كبير على الهجرة».

انفصال العائلات هو عامل مساهم في ارتفاع الجريمة وعنف العصابات في السلفادور وغواتيمالا وهندوراس ودول أخرى تعتمد بشكل كبير على الهجرة

يُشكِّل الاعتماد على العمالة المهاجرة عنصراً لا ينفصل عن الرأسمالية العالمية. ويوضح نيس أن العداء «للحلول الحكومية والسياسية لعدم المساواة الناجمة عن إملاءات الدول الغنية، أنتج وضعاً يمنح الحرية لرأس المال ولكن ليس للعمل». ومن الواضح أن العمالة الدولية في الاقتصاد العالمي النيوليبرالي تخلق «شكلاً متطرفاً من الإمبريالية الاقتصادية التي تتجاهل أمن ورفاهية الفقراء في الجنوب العالمي».

في هذا الكتاب المُعزَّز ببحث جيّد والغني بالمعلومات، يتعمَّق نيس في جوانب متعدّدة من اقتصاد الهجرة العالمي. في سعيه الدؤوب لتحقيق الربح، يعتمد رأس المال بشكل متزايد على العمالة المهاجرة، ما يؤدّي إلى عدم استقرار متزايد عبر العديد من شرائح المجتمع. إن الدور الأساسي للعمالة المهاجرة في الرأسمالية العالمية لا يحظى بالتقييم الكافي، ويؤدي نيس خدمة قيمة في الكشف عن الديناميكيات المنتشرة والمزعزِعة لتلك العملية. 

نُشِر هذا المقال في Counter Punch في 5 كانون الثاني/يناير 2024.

  • 1ILO Global Estimates on International Migrant Workers: Results and Methodology,” International Labour Organization, June 30, 2021.
  • 2Dilip Ratha, Sonia Plaza, Eung Ju Kim, Vandana Chandra, Nyasha Kurasha, and Baran Pradhan, “Migration and Development Brief 38: Remittances Remain Resilient But Are Slowing,” KNOMAD–World Bank, June 2023.
  • 3Richard H. Adams, Jr. and John Page, “International Migration, Remittances, and Poverty in Developing Countries,” World Bank Policy Research Working Paper 3179, December 2003.