Preview الدخل الأساسي الشامل

متسوّق لبناني في مدينة طرابلس في لبنان.
مصدر الصورة الأساسية: جوزيف عيد.

الدخل الأساسي الشامل: هل هو خيار في الحالة اللبنانية؟

في آذار/مارس 2023، تقدّم النائب فيصل كرامي، رئيس «تيار الكرامة»، من مجلس النواب، باقتراح قانون معجّل مُكرّر، بعنوان «الدخل الأساسي الشامل – قانون كرامة المواطن». وعلى الرغم من أن هذا الاقتراح لا يختلف جذرياً في مضمونه وأهدافه عن برامج مؤقّتة عدّة يجري تنفيذها وأفكار كثيرة مطروحة تحت عنوان «دعم الأسر الأكثر فقراً» عبر التحويلات النقدية المباشرة، سواء المموّلة من الضرائب أو عبر القروض الخارجية، إلا أنه يُدخِل، للمرّة الأولى (ربّما)، مفهوم «الدخل الأساسي الشامل» إلى الخطاب العام في لبنان، ولو من باب «الشعبوية» أو من باب «الإلهاء» والعمل على تكريس الانهيار التام للخدمات العامّة والدعم المعمّم وأنظمة الحماية الاجتماعية. 

باختصار شديد، يرمي الاقتراح المطروح إلى زيادة معدّل الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 14%، وتحويل إيرادات هذه الزيادة (أي إيرادات الـ3% المضافة إلى المعدّل الحالي) إلى صندوق خاص يسمّى «صندوق الدخل الأساسي الشامل»، الذي يقوم بتوزيع هذه الإيرادات على جميع المواطنين المقيمين باستثناء أولئك الذين يستفيدون من برامج دعم نقدي أخرى.

يرمي الاقتراح المطروح إلى زيادة معدّل الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 14%، وتحويل إيرادات هذه الزيادة (أي إيرادات الـ3% المضافة إلى المعدّل الحالي) إلى صندوق خاص يسمّى «صندوق الدخل الأساسي الشامل»في أيار/مايو 2023، طُرح اقتراح القانون المذكور على اللجان النيابية المشتركة، وتقرّر إحالته إلى لجنة فرعية، بحجّة «أنه يحتاج إلى دراسة أعمق»، وبالتالي تمّ نزع صفة «المُعجّل المُكرّر» عنه. انعقدت اللجنة الفرعية في تموز/يوليو 2023، وبدأت درس اقتراح القانون المذكور، ولكنها لم تعقد إلّا اجتماعاً وحيداً حتى الآن، اختتمته بإعلان موقف مبدئي عام يقول إن «واجب الدولة تأمين الحدّ الأدنى من الحماية الإجتماعية عبر تحويلات شهرية مستدامة للأفراد والأسر، بمعزل عن البرامج أو التقديمات المموّلة من الخارج مرحلياً». أي أن أعضاء اللجنة الفرعية يريدون أن يكون الدخل المقترح شاملاً للجميع، من دون أي استثناء، ومستداماً، ويوفّر «الحدّ الأدنى من الحماية الاجتماعية».

بالفعل، يفتقد اقتراح النائب كرامي إلى هذه الشروط، وهو مبني في الأساس على فرضيّات ضعيفة جدّاً. فوفق أسبابه الموجبة، يتوقّع أن يستفيد منه نحو 1.8 مليون لبناني مقيم، أي أقل من نصف اللبنانيين المقيمين الذين قدّرت إدارة الإحصاء المركزي عددهم في العام 2019 بنحو 3.8 مليون نسمة. ولا يتسم الدخل الذي سيتقاضاه المستفيدين بالثبات والاستدامة، إذ أن تمويل الصندوق يعتمد على مصدر ضريبي واحد، عبر تجميع الزيادة المقترحة على الضريبة على القيمة المضافة، وتوزيع ما يجري تجميعه على المستفيدين، ولذلك تستند الأسباب الموجبة على إيرادات هذه الضريبة المحصّلة في العام 2019، أي قبل انهيار العملة وانفلات التضخّم وانخفاض الاستهلاك وإفلاس الجهاز المصرفي، لتستنتج «أن كلّ نقطة مئوية تُزاد على معدّل هذه الضريبة تزيد الإيرادات بقيمة 200 مليون دولار تقريباً، أي أن زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 14% ستؤمّن إيرادات إضافية مخصّصة للصندوق بقيمة 600 مليون دولار تقريباً»، إلا أن الأسباب الموجبة تعترف بأن هذه الفرضية عبثية جدّاً، وتحتاج إلى تصحيحها بحسب أرقام الاستهلاك لعام 2023 وتغيّرات سعر الصرف، فعملت على تخفيضها بشكل اعتباطي بنسبة 30%، لتنخفض القيمة الإجمالية للإيرادات المتوقّعة إلى 420 مليون دولار، وتستنتج من ذلك أن «كلّ مستفيد سيحصل على 20 دولاراً في الشهر تقريباً»، وهذا الدخل لا يمثّل سوى 30% فقط من خط الفقر الدولي، الذي حدّده البنك الدولي بقيمة 2.15 دولاراً للفرد يومياً، أي نحو 65 دولاراً في الشهر، وهذا يعني أن أي شخص يعيش على أقل من هذا المبلغ يُعد في حالة فقر مدقع. 

على أي حال، بعد 6 أشهر تقريباً على طرح اقتراح قانون «الدخل الأساسي الشامل»، لا يزال النقاش في شأنه خجولاً وخافتاً وبطيئاً، ولم يتم اتخاذ خطوات ملموسة لجعله بنداً على جدول الأعمال، بل إن القاموس السياسي في لبنان يُعدّ «اللجان مقبرة المشاريع»، اذ أن إحالة اقتراح القانون إلى لجنة فرعية يُفهم منه وجود رغبة بتنويمه، وهذا ما يفسّر إلى حدّ ما غياب أي نقاش جدّي له عبر وسائل الإعلام وتعليقات الخبراء ومواقف القوى السياسية والهيئات النقابية، وغياب أي سجال مع مبدأ «الدخل الأساسي الشامل» أو ضدّه.

بعيداً من الصيغة التي اقترحها كرامي ومصير الاقتراح نفسه، ما هو الدخل الأساسي الشامل؟ وهل يمثل خيارا في الحالة اللبنانية؟

البداية من سبينهاملاند

تعود بداية قصة الدخل الأساسي الشامل إلى القرن الثامن عشر، حين أقرّت المملكة المتّحدة قانون «سبينهاملاند»، الذي بدأت الحكومة بموجبه بتوزيع إعانات نقدية مباشرة على جميع السكّان من أجل مواجهة ارتفاع أسعار الخبز بسبب الحروب النابليونية. وفي العام 1795، أضافت السلطات إليها إعانات نقدية تكميلية مُتدرّجة من أجل تأمين سبل العيش، قبل أن يوقف العمل بالقانون في العام 1834، ويتمّ استبداله بـ«قانون الفقراء الجديد» القائم على توزيع المساعدات عبر المؤسّسات الدينية ومن الأعمال الخيرية.

يصبح الدخل الأساسي الشامل، في الوقت الحالي، وكأنه أداة لتفكيك مؤسّسات دولة الرفاه الاجتماعي في دول الديمقراطيات الاجتماعيةأعاد الاقتصادي الليبرالي ميلتون فريدمان إحياء هذا الطرح «المغري» في ستينيات القرن الماضي إثر أزمة الركود وصعود السياسات الكينزية. ووفق أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية غسان ديبة، «في تلك الفترة من صعود الكينزية وتراجع الفكر الاقتصادي الحرّ، أراد فريدمان أن يعزّز فكرة الاقتصاد الحرّ، ولكنه لم يستطع، على الأقل سياسياً، أن يقول دمّروا دولة الرفاه الاجتماعي. لذلك اختار هذه الطريقة التي تتوافق مع الاقتصاد الحرّ أكثر، وفي الوقت نفسه تستبدل الإنفاق الاجتماعي».

وفق هذا التحليل يصبح الدخل الأساسي الشامل، في الوقت الحالي، وكأنه أداة لتفكيك مؤسّسات دولة الرفاه الاجتماعي في دول الديمقراطيات الاجتماعية، حال الدول الاسكندنافية، ومعيقاً إضافياً لبناء هذه الدولة في عالم الجنوب حال إيران والهند ولبنان.

انطلاقاً من ذلك، أجريت تجارب عديدة على هذا المفهوم، فطُبقت نماذج منه في الولايات المتّحدة في ولايتي ألاسكا (1982) وكارولاينا الشمالية (1997)، وكذلك طبّق في سياقات تجريبية في كندا (1974 و1979)، وفي البرازيل (1990)، أو طبّقت نماذج استهدافية لفئات محددة في نامبيا (2008-2009)، وفي الصين والهند (2011)، وفي ألمانيا (2014)، وكينيا (2016)، وفي فنلندا وإسبانيا وهولندا (2017)، كما طبّق في ايران والكثير من البلدان، بصورة جزئية أو مؤقتة، أو لفترات طويلة.

يبيّن تنوّع هذه التجارب أن مفهوم الدخل الأساسي عرف حيوية في النقاش دائما، ولا سيما في أوقات الازمات. مع ذلك،  لم تقدّم هذه التجارب على كثرتها سوى نتائج ضئيلة تسمح بالحكم على الدخل الأساسي الشامل تأييداً أو اعتراضاً. فالدخل الأساسي الشامل، وإن كان فكرة مُمتدّة في التاريخ، ولكنّه لم يتحقّق بمفهومه النظري في أي وقت من الأوقات، وما طبّق هي أشكال رديفة أو متفرّعة، والتجارب التي حصلت هي مجرّد تجارب بحثية لقياس النتائج لفترة محدّدة وعلى عدد معيّن من الناس. 

الدخل الشامل في سياقه الليبرالي

تقوم الفكرة على توفير الحكومة دخلاً أساسياً لكلّ فرد، وأن يكون الدخل كافياً لسداد الاحتياجات الأساسية، وأن يكون شاملاً ويطال جميع المواطنين من دون استثناء، ومن دون شروط، ومن دون أدنى اعتبار للوضع الاقتصادي أو الاجتماعي لمتلقّي الدخل.

تتلاءم شمولية الدخل تماماً مع النظرة الليبرالية، وتعبّر عن «حياد» لا يميّز بين غني وفقير سواء تجاه السوق أو الضريبة أو الدخل الأساسي. 

تقوم الفكرة على توفير الحكومة دخلاً أساسياً لكلّ فرد، وأن يكون الدخل كافياً لسداد الاحتياجات الأساسية، وأن يكون شاملاً ويطال جميع المواطنين من دون استثناء، ومن دون شروطويستند مفهوم هذا الدخل، في سياقه الليبرالي، على التحرّر من سلطة الدولة الأبوية، فالإعانة ليست مُحدّدة بتقديمات معيّنة (خدمات صحّية أو تعليمية..)، وهي بالتالي تمنح المستفيدين الحرّية في إنفاق الدخل في الوجهة التي يرونها مناسبة؛ فقد ينفقونه على الغذاء أو التعليم، أو استهلاك السلع والخدمات، أو حتى السفر والترفيه. كما يمكن أن لا ينفق وأن يذهب للادخار. أيضاً يفترض السياق الليبرالي أن الدخل الشامل كما يحرّر الأفراد من سلطة الحكومة الأبوية، سيحرّرهم أيضاً، ولا سيّما النساء، من السلطة الذكورية للأسرة.

الحجّة الأسرع التي يقدّمها المعترضون على الدخل الشامل أنه سيؤدّي إلى الكسل، إلا أن التجارب منذ قانون «سبينهاملاند»، تبيّن أنه سمح لأصحاب العمل بتخفيض قيمة الأجور إلى ما دون مستوى تأمين الكفاف. ومن أولى نتائجه أنه أعطى الحرّية لأصحاب العمل بزيادة استغلال العمّال. أمّا التجارب الحديثة فقد أثبتت أن الدخل الأساسي لا يؤثّر على عرض العمل، فهو لا يدفع الناس للتوقّف عن العمل، كما أنه لا يزيد من الإقبال عليه.

في التجربة الإيرانية لم تتأثّر معدّلات البطالة مع إقرار الدخل الأساسي الشامل في العام 2010 إلّا بالنسبة للنساء، فقد انخفض انخراط النساء في سوق العمل من 12.1% إلى 10% بين عامي 2009 و2011. يدلّ هذا الانخفاض على أن الدخل الأساسي قد لا يوفّر الحرية للأفراد، لاسيّما النساء، إذ بات بإمكان الذكور في مجتمعات مختلفة منع الإناث من العمل طالما يصلهن دخل ثابت من دون عمل، ممّا يكرِّس سلطتهم الأبوية.

وعلى العكس من الفكرة القائلة بأن الدخل الأساسي يشجّع على الكسل، فقد هدفت التجربة الفنلندية إلى التشجيع على العمل وبحسب ماركوس كانيرفا من وحدة التحليل السياسي لمكتب رئيس الوزراء الفنلندي آنذاك، فإن «تجربة الدخل الأساسي هدفت إلى معرفة ما إذا كان الناس يتحمّسون إلى قبول العمل عندما لا يخفّض الدخل الإضافي فوائدهم الاجتماعية». بكل الأحوال، ارتفع معدّل التشغيل في فنلندا بشكل بسيط ولم يحقّق الغاية من التجربة بحسب وزير المالية الفنلندي بيتري أوروبو.

التكنولوجيا والعمل والدخل الشامل

اليوم، يُطرَح مفهوم الدخل الأساسي كأداة من أجل مواجهة البطالة في ظلّ التطوّر التكنولوجي والذكاء الاصطناعي والأتمتة الذي أدّى إلى استبدال العمّال بالآلات. مع ذلك، يبقى هذا الاستبدال غير كامل، وما زال أصحاب الرساميل يسيطرون على سوق العمل وقيمة الأجور من خلال الاستفادة من تنافس العمّال للحصول على العمل.

الوظيفة الرئيسية لبرامج المدفوعات النقدية المباشرة للأكثر فقراً هي تدمير ما تبقّى من أنظمة حماية اجتماعية مهترئة أصلاً في اقتصادات متعثّرة هنا يسمح إقرار قانون الدخل الأساسي الشامل والدائم بتقليص التنافس بين العمّال، ويمنحهم حرّية وقدرة أكبر على التفاوض لتحسين ظروف عملهم من دون الخوف من عواقب خسارة وظائفهم أو تخفيض أجورهم. في هذا السياق، يوضح أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، غسّان ديبة أنه «إذا كانت الرأسمالية لا تتوافق مع العمالة الكاملة لأنها تعطي العمّال قوّة فهي لن تتوافق مع الدخل الأساسي قبل حدوث التأثيرات الكبرى التي يحدثها التقدّم التكنولوجي ويهدّد الرأسمالية نفسها، لأن درجة الاستبدال التكنولوجي لم تصل إلى حدّ لا تتوافق مصالح رأس المال معه». كلام ديبة تؤكّده التجربة الإنكليزية الأولى في القرن الثامن عشر، إذ كانت إحدى أهم أسباب إلغاء قانون الدخل واستبداله بقانون الفقراء الخيري. توقّف حينها العمّال عن العمل بسبب الأجور البخسة وظروف العمل القاسية، وقد منحهم قانون الدخل قوة كافية لمواجهة الاستغلال.

بمعنى آخر، ما دام الاستبدال التكنولوجي يسمح بتشغيل العمّال فإنه بذلك يوفّر لهم مداخيل تمكّنهم من استهلاك الإنتاج. أما إذا وصل الاستبدال التكنولوجي إلى مراحل تؤدّي إلى انخفاض العمّال بشكل كبير فحينها سيواجه أصحاب العمل أزمة تصريف إنتاجهم. وسيكونون أمام خيارين إمّا القبول بدخل أساسي شامل للجميع ليتمكّنوا من الاستهلاك، أو الوقوف بوجه التطوّر التكنولوجي.

الدخل الأساسي في مقابل الفقر

لم تستمرّ طويلاً التجارب التي أُطلِقت على الدخل الأساسي الشامل في عدد من دول الشمال لأسباب كثيرة. لكن المنظّمات الدولية حوّلت فكرة الدخل الأساسي إلى مشاريع لـ«مكافحة الفقر المدقع» مع الحفاظ على مبدأ الاقتصاد الحرّ وتعزيز الأسواق، من خلال برامج المساعدات النقدية «لتمكين الناس من تلبية احتياجاتهم الأساسية من الأسواق المحلّية، وفي الوقت نفسه تعزيز هذه الأسواق». وهذا ما فتح قاطرة إقرار قوانين للدخل الأساسي الشامل في دول الجنوب مثل إيران، لكن مكاسب السنوات الأولى لإطلاق المشروع تآكلت مع ارتفاع الأسعار والتضخّم ففي خلال 7 سنوات فقدت التقديمات 70% من قيمتها، وبحلول منتصف العام 2018 زادت الخسائر بنحو 20% لتصل إلى 90% إثر انسحاب الولايات المتّحدة من الاتفاق النووي.

أمّا المشاريع التي تقودها المنظّمات الدولية فهي لا تؤدّي سوى إلى تكريس المستفيدين في وضعية «الأكثر فقراً»، أي أنها لا تفعل شيئا سوى جعل هؤلاء لا يموتون من الجوع، في حين أن الوظيفة الرئيسية لبرامج المدفوعات النقدية المباشرة للأكثر فقراً هي تدمير ما تبقّى من أنظمة حماية اجتماعية مهترئة أصلاً في اقتصادات متعثّرة. على سبيل المثال، يقدّم مشروع أمان في لبنان 25 دولاراً للأسرة، بالإضافة إلى 20 دولاراً لكلّ فرد حتى 6 أشخاص. قيمة هذه المساعدة هي أقل من خطّ الفقر العالمي، أو ما يسمّى موازنة البقاء على قيد الحياة. في اليمن يبدو الوضع أكثر سوءاً حيث قدّم مشروع المساعدات الطارئة في العام 2020 مبلغاً بقيمة 15 ألف ريال للأسر الأكثر فقراً، وهو أيضاً أقل من موازنة البقاء على قيد الحياة.

اقتراح القانون بصيغته المطروحة في لبنان لا يتوافق مع تعريف ومفهوم الدخل الأساسي الشامل. فالدخل غير مُحدّد، وإنما مرتبط بما يمكن جمعه جراء زيادة الضريبة على القيمة المضافةطبعاً تساهم المساعدات التي يحصل عليها السكّان الفقراء في دعم بقائهم على قيد الحياة. وأمام خيار الموت جوعاً أو الحصول على مساعدات زهيدة، فمن المنطقي قبول المساعدات. ولكن الخيارات ليس ضيّقة إلى هذا الحدّ، فأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لم تحصل على مساعدات نقدية طارئة تكرّس السكان كفقراء مدقعين، بل حصلت على مساعدات مالية واقتصادية بموجب مشروع مارشال لإعادة بناء اقتصاداتها وبناء دولة الرعاية الاجتماعية او الديمقراطية الاجتماعية، فلماذا لا تعمّم هذه التجربة على بقية دول العالم؟

معضلة التمويل

«كمن يريد صناعة العجّة من دون أن يكسر البيض»، هكذا وصف الاقتصادي الهندي برابهات باتنايك معضلة تمويل الدخل الأساسي الشامل، الذي يجب أن يبقى ضمن النظام الرأسمالي ومنطق تعزيز الأسواق، خصوصاً إن الغاية منه تكمن «بجعله أكثر إنسانية للقوى العاملة، ولكن من دون إزعاج الرأسماليين». 

من الواضح أن كلفة تمويل الدخل الأساسي الشامل باهظة جدّاً، فلو أخذنا لبنان على سبيل المثال واعتمدنا خطّ الفقر المدقع، أو ما يعرف بموازنة البقاء على قيد الحياة، كقيمة لهذا الدخل، والذي يبلغ نحو 65 دولاراً للفرد في الشهر، فستبلغ الكلفة السنوية أكثر من 3 مليارات دولار، اذا اقتصر الامر على اللبنانيين المقيمين، وسيصل الى اكثر من 6 مليارات دولار اذا شمل الدخل الاساسي الشامل كل السكان المقيمين، لبنانيين وغير لبنانيين. في حين لا تتجاوز قيمة مشروع موازنة 2023 ملياري دولار.

من الواضح أن اقتراح القانون بصيغته المطروحة في لبنان لا يتوافق مع تعريف ومفهوم الدخل الأساسي الشامل. فالدخل غير مُحدّد، وإنما مرتبط بما يمكن جمعه جراء زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11% إلى 14%، والتي يقدّرها مقدّم المشروع النائب فيصل كرامي بنحو 20 دولاراً شهرياً. وبالتالي، لا يمكن توصيف الدخل في مشروع القانون بأنه «الأساسي» لأنه لا يوفّر الاحتياجات الأساسية، كما أنه ليس شاملاً لأنه يستثني مسبقا نصف السكان، يمثّلون فئات الدخل المتوسط الأدنى والأعلى. عدا عن أن الضريبة على القيمة المضافة هي ضريبة تنازلية (غير عادلة) يقع عبئها الأكبر على أصحاب المداخيل المنخفضة. لقد كان بوسعه التفكير بمصادر تمويل أخرى، حيث أن فرض ضرائب مباشرة بمعدّل 0.9% على شريحة الـ10% الأكثر ثراءً سيخفّف من حدّة الفقر المدقع، في حين أن فرض ضرائب تصل إلى 3.6% على الشرائح نفسها ستخفّف من حدّة الفقر الاعلى.

في ظروف أزمة مثل الأزمة اللبنانية، هناك فئات اجتماعية تستحقّ الدعم المباشر، ولكن آثار الأزمة تصيب الدخل المتوسّط أيضاً، وعندما يكون الدخل لا أساسياً ولا شاملاً، فهل يساهم في الاستقرار الاجتماعي؟ وهل الحالة اللبنانية تحتاج إلى نظام حماية اجتماعية معمم  أم دخل أساسي شامل؟