
الولايات المتحدّة تقوِّض التجارة العالمية «الحرّة»
من المتوقّع أن تنمو التجارة في ثلثي اقتصادات العالم بين عامي 2025 و2026 بشكل أبطأ من متوسّط النمو المُسجّل بين عامي 2010 و2019، علماً أن التجارة تنمو بشكل أبطأ من نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وهذا يعني أن الاقتصاد العالمي ما زال يتوسّع، ولو ببطء وتفاوت شديدين بين الاقتصادات.
يعتقد البنك الدولي أن تباطؤ التجارة هي ظاهرة مُفتعلة جزئياً وتغذّيها الدول بشكل واعٍ. ويضع اللوم، في تقريره بعنوان «الآفاق الاقتصادية العالمية 2025»، على «انتشار السياسات المقيّدة للتجارة» في العالم، التي تغذّيها الحرب التجارية بين الولايات المتّحدة والصين، بعد أن أشعلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى، من دون أن يُبطل جو بايدن مفاعيلها في ولايته المنتهية، مع مخاوف من تصاعدها مجدّداً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
تكشف المديرة العامة لمنظّمة التجارة العالمية، نجوزي أوكونجو إيويالا، أن أعضاء المنظمة قدّموا 169 إجراءً جديداً مقيّداً للتجارة في خلال الأشهر الـ 12 التي سبقت منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2024، مثل فرض التعرفات الجمركية والقيود الكمّية. وتغطّي هذه الإجراءات التقييدية نحو 887.7 مليار دولار من التجارة العالمية، بارتفاع نسبته 163% عن العام السابق. في المقابل، ووفق بيانات منظّمة التجارة العالمية لم تغطِ الإجراءات الميسّرة للتجارة في الفترة نفسها سوى 1,440.4 مليار دولار من التجارة العالمية، وارتفعت بنسبة 47% فقط عن العام 2023، بالمقارنة مع ارتفاع بنسبة 163% للتجارة المقيّدة. وتعلّق إيويالا على ذلك بالقول: «لا يوجد سوى القليل من التراجع المجدي عن القيود التجارية الحالية. وهذا يعني أن إجمالي القيود التجارية مستمرّ في النمو».
تترافق القيود التجارية المتنامية مع أدلة متزايدة على تجزئة التجارة المرتبطة بالمخاوف الجيوسياسية، حيث تتم التجارة على نحو متزايد بين الاقتصادات «المتشابهة في التفكير» - وفق تعبير منظّمة التجارة العالمية - وهو الاتجاه الذي تسارعت آثاره بسبب الحرب في أوكرانيا. وهذا ما لاحظه البنك الدولي أيضاً، إذ أشار الى أن الاستخدام المتزايد للسياسات المقيّدة للتجارة في السنوات الأخيرة كان متوافقاً مع أنماط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتّحدة بين الصين أو الولايات المتّحدة.
وفق بيانات البنك الدولي، بلغ عدد «التدابير المعرقلة للتجارة» في العام 2024 نحو 5 أضعاف عددها في العام 2015. وكانت الفترة الممتدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2017 وتشرين الأول/أكتوبر 2020 هي الأسوأ لحرية التجارة العالمية، إذ أضيفت قيود تجارية جديدة طالت نحو 1 تريليون و746 مليار دولار من الواردات العالمية، بالمقارنة مع 408 مليار دولار في الأعوام الثلاثة السابقة، و448 مليار دولار بالمقارنة مع الأعوام الثلاثة اللاحقة.
في هذه الفترة (2018-2020)، تصاعدت حدّة الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتّحدة على الصين، وتُستخدم فيها التعريفات الجمركية كأسلحة. وهذه التعريفات (أو الرسوم) هي شكل من أشكال الضرائب التي يفرضها بلد على الواردات من البلدان الأخرى، وتستخدمها البلدان لحماية الإنتاج المحلّي من المنافسة الخارجية، أو للردّ على ممارسات تجارية تمارسها البلدان الأخرى، إلا أن الاقتصادات الكبرى في العالم تستخدمها لفرض هيمنتها بالقوة وتحقيق مصالحها على حساب مصالح البلدان الأخرى.
في الواقع، كانت التعريفات الجمركية هي النظام الذي يحكم التجارة العالمية في ظل ميل معظم البلدان إلى السياسات الحمائية، ولكن منذ السبعينيات من القرن الماضي بدأت موجة عالية لتحرير التجارة من القيود الجمركية والإدارية وفتح الأسواق في ظل العولمة. وتم فرض هذه الأجندة على جميع البلدان تقريباً. وعلى الرغم من الضرر الفادح الذي أصاب أكثرية البلدان في الجنوب، سمح انتقال الصناعة إلى بعض هذه البلدان، ولا سيما الصين، بظهور مراكز قوة جديدة في الاقتصاد العالمي، وهذا ما تسعى الولايات المتّحدة إلى مواجهته بالعودة إلى السياسات الحمائية واستخدام التعريفات الجمركية لتقويض نمو التجارة الصينية.
يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما يشبه القطيعة مع العقيدة الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتّحدة على العالم في العقود الماضية. ووفق خطط ترامب، سيتم فرض تعريفات جمركية على سلع مستوردة بقيمة مئات المليارات من الدولارات من الصين ودول أخرى، بما فيها حلفاء الولايات المتّحدة، وذلك بذريعة خفض العجز التجاري الأميركي، وتعزيز التصنيع المحلي، ودعم القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتّحدة.
يزعم ترامب أن الحرب التجارية ضد الصين التي بدأها في ولايته السابقة هدفها «تشجيع الصين على تغيير ممارساتها غير العادلة»، لأنها «تهدّد الشركات والعمّال والمزارعين في الولايات المتّحدة». استمرّت هذه الجولة من الحرب حتى كانون الثاني/يناير 2020، عندما تم توقيع اتفاقية تلزم الصين بشراء ما قيمته 200 مليار دولار إضافية من السلع الأميركية، بما في ذلك المنتجات الزراعية والسيارات، على مدى عامين. وفي المقابل، توقّفت الولايات المتّحدة عن فرض المزيد من الإجراءات التجارية العقابية. وحافظت هذه الاتفاقية على معظم التعريفات الجمركية التي سبقتها.
ترك الرئيس جو بايدن هذه التعريفات سارية إلى حد كبير، بل فرض ضوابط صارمة على صادرات رقائق الكمبيوتر في محاولة لتقييد قطاع التصنيع المتقدّم في الصين، بحجّة أن الصين تستخدم هذه العناصر «لإنتاج أنظمة عسكرية متقدّمة» و«ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان». وبذلك أصبح كلّ من الشركات والأفراد الأميركيون الذين يرغبون في دعم تطوير الرقائق في الصين بحاجة إلى موافقة الحكومة الأميركية للقيام بذلك.
ترافقت عودة ترامب إلى البيت الأبيض مع تهديده الصين بالعودة إلى فرض تعريفات جمركية إضافية صارمة، وأشار في حملته الانتخابية في العام الماضي إلى أن هذه التعريفات قد تصل إلى 60%. لكنه اكتفى منذ أيام بالقول أنه سيفرض رسوم جمركية إضافية على الصين بنسبة 10% فقط. وصرّح للإعلام بعد اتصال مع الرئيس الصيني مؤخراً أن: «الأمور سارت على ما يرام. لقد كانت محادثة جيّدة وودّية». لكنه أضاف أنه «لدينا قوة واحدة كبيرة جداً على الصين، وهي الرسوم الجمركية، وهم لا يريدونها، وأفضل ألّا أضطر إلى استخدامها».
يعتقد بعض الخبراء أن إيلون ماسك يمكن أن يكون له تأثير معتدل على نهج ترامب تجاه الصين، إذ تمتلك شركة «تسلا» مصنعاً في شنغهاي، وتحصل على حوالي 37% من مبيعاتها من الصين. مع العلم أن حكومة ترامب تمتلئ بالصقور المعادين للصين، مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايكل والتز.
ليس واضحاً كيف ستكون عليه التجارة العالمية بعد سنوات، فطبول الحرب التجارية تُقرع والسوق العالمية تزداد تشرذماً. يهدّد ترامب بفرض رسوم جمركية على أكثر من 2 تريليون دولار من المنتجات الأجنبية، أي ما يقرب من ثلثي كلّ ما يشتريه الأميركيون من الخارج، وهو لا يهدّد الصين وروسيا فحسب، بل كندا والمكسيك وأوروبا والبرازيل والهند والكثير من الدول الأخرى.