قيمة الأرض
مراجعة لكتاب «Le Grand Retour de la Terre dans les Patrimoines» لآلان ترانوي وإتيان واسمر، اللذين يبحثان في أسباب ارتفاع قيمة الأرض ربطاً بالتوسّع الحضري وكذلك الندرة المُصطنعة، ويعتبران أن فرض ضريبة على الأرض هي المدخل لخفض هذه الأسعار.
نبدأ بتحذيرين. أولاً، هذا الكتاب ليس معنياً بالأرض الزراعية، بل بالأرض التي تُقام عليها المدن. ثانياً، بخلاف الإسكان، لا تؤدّي الأرض دوراً رئيساً في عائد رأس المال، على نحو ما حلّله توماس بيكيتي. ولذلك لا بدّ أن يفاجئ موضوع كتاب آلان ترانوي وإتيان واسمر القرّاء غير المعتادين على الاقتصاديات الحضرية؛ وهي حقيقة آمل أن تدفع الكثيرين إلى قراءته.
القيمة الاستثنائية للأرض الحضرية
يقدّم ترانوي وواسمر بانوراما مفصّلة لاستخدام الأرض في فرنسا وقيمتها، مع توفير بيانات دولية تسمح بالمقارنة المفيدة والمثقِّفة. كانت ملكية الأرض الزراعية، على مدى قرون، أساس البنية الاجتماعية والسياسية في أوروبا. وفي العام 1700، ارتفعت قيمتها إلى 7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا (Piketty & Zucman, 2014). وفي العام 2019، مثلت القيمة التراكمية لجميع الأراضي 3 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الحالي لفرنسا. لكن الأمور تغيرت كثيراً بين هاتين القيمتين. وكما يشير ترانوي وواسمر، في العام 2018، لا تمثل المناطق المطوّرة سوى جزءاً صغيراً فحسب من مجمل الأرض: حوالي 1 أو 2%. هذا الرقم أشبه بما نجده في معظم المناطق المأهولة على هذا الكوكب (Ritchie & Roser, 2013)
غير أنّ قيمة الأراضي المطوّرة تشكّل أكثر من 80% من القيمة الإجمالية للأرض، في حين تمثل الأرض الزراعية 9% فقط. وهذا يعني أنَّ الأرض الحضرية حلّت محل الأرض الزراعية في حيازات الملكية الفرنسية. ومن غير المستغرب أن تمتلك الأسر الأكثر ثراءً الحصة الأكبر من مجمل العقارات: تمتلك 10% من الأسر الحائزة على الأصول الأكبر على اختلاف أنواعها نحو 40% من عقارات البلاد (بحسب القيمة) (ص 70). وعلى الرغم من ذلك، فإنّ 61% من مجمل الأسر تمتلك بعض العقارات.
لا تمثل المناطق المطوّرة سوى جزءاً صغيراً فحسب من مجمل الأرض: حوالي 1 أو 2% غير أنّ قيمة الأراضي المطوّرة تشكّل أكثر من 80% من القيمة الإجمالية للأرض
والجدير بالذكر أنه، على المستوى العالمي، 3% من الأرض الصالحة للسكن فقط يعدُّ حضرياً (Liu et al., 2014). لذلك يمكن أن نتساءل: إذا كانت المدن والبلدات لا تشغل سوى هذه المساحات الصغيرة، فما الذي يجعل الإسكان باهظاً إلى هذا الحد في المدن الكبرى في الأقل؟ ويجب أن نشير مباشرة إلى أن فرنسا لا تنفرد بهذه الظاهرة.
يتألف أيّ مبنى من جزأين: الأرض والبنى المقامة على هذه الأرض. ويعتقد كثيرون أن قيمة المبنى يحدّدها المبنى ذاته. لكن العكس هو الصحيح في كثير من الأحيان. وإذا ما راحت أسعار المساكن ترتفع بانتظام، فإن هذا لا يرجع إلى تكاليف البناء التي ترتفع قليلاً. لا بد من إيجاد السبب في مكان آخر. لأنّ تكلفة الأرض المبني عليها عادةً ما تُغفَل - إذ كثيراً ما يصعب فصل الأرض والبنى - فإنّه يسهل التقليل من قيمتها.
في العام 2019، بلغت حصة الأرض في القيمة الإجمالية للعقارات الفرنسية 44%، وهو ما يعادل نحو 3 أمثال الناتج المحلي الإجمالي. ويماثل هذا الاتجاه ذاك الذي نجده في الولايات المتحدة، حيث بلغت الحصة 46%، وفي سويسرا، حيث وصلت إلى 53%. ويؤكد ترانوي وواسمَر أنّ الأراضي عادت حيازات ملكية، لكن الأرض المعنية هي أرض حضرية. ويشيران إلى أن «أصول هذه الثروة ليست مرئية تماماً»، وهذا ما يفسّر على الأرجح سبب عدم إدراجها في المناقشات عن توزيع الثروة.
بالإضافة إلى ذلك، استمرّت قيمة الأرض كحصة من الحيازات العقارية في الارتفاع في غالبية البلدان المتقدمة. على سبيل المثال، أظهر نول وشولاريك وستيغر (2017) أن أكثر من 80% من متوسط الزيادة في أسعار المساكن في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بين عامي 1945 و2012، يرجع حصراً إلى ارتفاع أسعار الأراضي. فكيف يمكن تفسير هذا الاتجاه؟
قيمة العقارات وارتفاعها
لقد حدث التحضر. يتجاوز عدد السكان الحضر في العالم 50%، ويفوق عددهم في البلدان المتقدمة 80%. لقد ساهمت الكثافة السكانية المتزايدة في الحواضر الكبرى في تحسن ملحوظ في ظروف المعيشة، وسمحت بالوصول إلى طيف أوسع من الفرص. ومن المعروف أن إنتاجية العمل أكبر في المدن الكبرى منها في المدن الصغيرة، حتى إذا أخذنا في الاعتبار التوزيع المكاني لرأس المال البشري. وتفسّر عوامل كثيرة هذه الفروقات في الإنتاجية (يُنظر Fujita & Thisse, 2013، لمناقشة أكثر تعمقاً لهذه السيرورات). ويبدو لي أحد هذه العوامل مهماً بشكل خاص. فالتداول السريع للمعلومات والمعرفة في البيئات الصديقة للابتكار يضمن إنتاجية أعلى للعمّال المهرة (من السابق لأوانه التنبؤ بتأثير العمل عن بعد في مكاسب الإنتاجية الناجمة عن القرب). ويؤدي هذا إلى ارتفاع الرواتب. وتكون هذه التبادلات كثيفة بصورة خاصة لأنها تحدث في شبكات كثيفة، وهذا ما يفسّر سبب إقامة نسبة أكبر من العمّال المهرة في المدن. فضلاً عن ذلك، يفسّر توزيع رأس المال البشري نصف التفاوتات المكانية في فرنسا (Combes, Duranton & Gobillon, 2008, 2015). وتتعزّز جاذبية الرواتب الأعلى بتوافر وسائل الراحة الاستهلاكية التي يصعب الوصول إليها في المدن الصغيرة.
السبب الرئيس لارتفاع أسعار الأرض هو المنافسة على العقارات في المناطق الأكثر كثافة سكانية. وعلى نحو خاص، تكون الأرض أغلى في المدن الكبرى. وضمن هذه الأخيرة، تقع الأراضي الأغلى في المراكز الحضرية. على سبيل المثال، تكلفة قطعة أرض في المنطقة المحدّدة بنصف دائرة بقطر 3 كيلومترات من كاتدرائية نوتردام في باريس هي، في المتوسط، أعلى بعشرين مرة من قطع الأرض التي تبعد 20 كيلومتراً (Chapelle، Trannoy & Wasmer، 2022). ويمكن ملاحظة الظاهرة ذاتها في معظم المدن الكبرى. والعامل المميز، في هذه الحالة، هو القرب من المراكز الحضرية الكبرى.
يستفيد ملّاك الأرض في كثير من الأحيان من القرارات التي يتخذها فاعلون كثر، على الرغم من أن الملاك لم يؤدّوا أي دور في ارتفاع قيمة أصولهم نتيجةً لهذه المجموعة من القرارات
عندما يفكر المرء في الأمر، يبدو واضحاً أن المواقع «الجيدة» مهمة، سواء بالنسبة إلى الأعمال أو ظروف المعيشة. ولكن ما الموقع «الجيد»؟ المعايير التي تتبادر إلى الذهن في الحال هي القرب من مكان العمل، والخدمات الاستهلاكية والترفيه، ووسائل النقل العام، والخدمات العامة مثل المدارس والمستشفيات، وأخيراً الجودة المعمارية للحي.
يفترض الاقتصاد الحضري أنّ قدرة مالكي الأرض المحتملين على الدفع تعتمد على دخلهم وكذلك تفضيلاتهم. وتعمل سوق العقارات مثل المزاد العلني، إذ تذهب كل قطعة أرض إلى أعلى مزايد. وفي هذا النظام، غالباً ما تذهب المواقع «الجيدة» إلى الأغنى والأسوأ إلى الأفقر. لهذا، فإن الفصل المكاني في المدن يعكس تفاوتات الدخل (Fujita & Thisse, 2013).
تعتمد القدرة على الدفع إلى حد كبير أيضاً على موقع المبنى. وتتحدّد مدى جاذبية المبنى تالياً من خلال موقعه مقارنة بعوامل أخرى. ويمكن أن تتباين هذه العوامل بشكل كبير، وقد يكون لها تأثيرات إيجابية أو سلبية في جاذبية الموقع. وباختصار، يُقَوّم موقعٌ ما، أو يُقَلّل من قيمته، لأن عدداً كبيراً من الفاعلين الاقتصاديين قد جعله مرغوباً أو غير مرغوب، أياً كانت نواياهم.
باختصار، يُبرز سعر الأرض مزايا الموقع المعني وعيوبه. وغالباً ما تُغفَل هذه الآلية الأساسية. لننظر، على سبيل المثال، إلى المساكن الواقعة بالقرب من محطات المترو، وترتفع أسعارها بسبب سهولة الوصول إلى المترو. لكن قيمة المساكن الواقعة بالقرب من المطارات تنخفض. وكما رأينا، فإنّ رسملة العقارات يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية.
تتضح النتيجة المترتبة على ذلك مباشرةً: يستفيد ملّاك الأرض في كثير من الأحيان من القرارات التي يتخذها فاعلون كثر، على الرغم من أن الملاك لم يؤدّوا أي دور في ارتفاع قيمة أصولهم نتيجةً لهذه المجموعة من القرارات. وعلاوة على ذلك، فإن تلك الأرباح تفلت من الضرائب، ولو كانت كبيرة، إذ لا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر.
هل حان الوقت لفرض ضريبة على الأراضي؟
يقترح ترانوي وواسمر، لهذه الأسباب، فرض ضريبة على أساس قيمة الأرض وليس المباني التي تتحدّد قيمتها من خلال أصحابها والقرارات التي يتّخذونها. رأس المال العقاري، خلافاً للأصول المالية، ثابت ولا يمكن إخفاؤه. ومن شأن ضريبة ترانوي وواسمر أن تُطبق على الأرض المشغولة كما على الأرض الشاغرة، وعلى الأرض المتّصلة بالمباني المؤجّرة أو الفارغة، ما يخلق حوافز لاستخدام مثل هذه الأراضي في وقت أصبحت فيه نادرة نسبياً. ويوضح ترانوي وواسمر أيضاً أن العائدات الناتجة عن الضريبة السنوية على الأرض التي يقترحان أن تكون عند 2%، من شأنها أن تسمح بتخفيض الضرائب على العمل ورأس المال، ما يعزّز النمو. ولا بد أن تكون هذه الضريبة مستقلة عن المباني وشاملة. وهي ضريبة عادلة، لأن أولئك الذين يستفيدون من مكاسب قيمة الأرض سوف يدفعون أكثر من غيرهم؛ كما أنّها ضريبة فعّالة لأنها لا تعنو للاحتيال.
نظراً إلى نقص البيانات، لم يتناول ترانوي وواسمر كيف تُوزّع الضريبة جغرافياً. إذ تتباين قيمة الأرض بشكل كبير بين المدن، وحتى بين المواقع المختلفة في المدينة نفسها. ويمكن أن نتلمّس شيئاً عن الكيفية التي قد يعمل بها هذا التوزيع من خلال النظر إلى حالة الولايات المتحدة، حيث تمثل قيمة الأرض في أكبر 5 مدن ما يقرب من نصف القيمة الإجمالية للعقارات. ومن السهل أن نتخيل المكانة غير المتناسبة التي ستحتلها باريس فيما لو طُبّقت الضريبة في فرنسا، حيث ستكون مساهمة بعض المحلات أو المناطق ضئيلة. ولأن الأراضي الأكثر تكلفة تقع غالباً في أكثر المناطق ازدهاراً، فإن التفاوتات الكبيرة في الإيرادات الناتجة من شأنها أن تعكس ببساطة تنظيم الفضاء الاقتصادي لفرنسا.
غير أنّ أسعار الأراضي المطوّرة لا ترجع إلى التوسع الحضري. ففي مدن كثيرة، ثمّة ندرة مصطنعة تنتج سياسات مالتوسية تحدّ من البناء الجديد. والجدير بالذكر أن سكان مجتمع محلي غالباً لا يرغبون في تشجيع إنشاء أسر جديدة، وهو الاتجاه الذي يرغم الوافدين الجدد على العيش في أماكن بعيدة جداً من أماكن عملهم. ومن الضروري تكثيف المناطق الصالحة للسكن من خلال تسهيل البناء الجديد، والسماح للأسر الشابة باختيار مساكن تتوافق بصورة أفضل مع التوزيع الجغرافي للوظائف. ولا بد، في الوقت نفسه، من مكافحة التوسع الحضري غير المنظّم أو العشوائي. ومن الجدير ذكره أن الممارسات المستخدمة على المستوى المحلي للحدّ من البناء توجد في أشكال مختلفة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما بلدان يعتبران أكثر ليبرالية من فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، كانت الرقابة غير المبرّرة على الإيجارات، تلك الرقابة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى كثير من الفرنسيين، سبباً في تثبيط بناء مساكن جديدة، الأمر الذي فاقم من مشكلة الإيجارات والأسعار المرتفعة.
يوضح ترانوي وواسمر أيضاً أن العائدات الناتجة عن الضريبة السنوية على الأرض التي يقترحان أن تكون عند 2%، من شأنها أن تسمح بتخفيض الضرائب على العمل ورأس المال، ما يعزّز النمو
يذخر كتاب ترانوي وواسمر بكثير من المعلومات غير المعروفة، حتى لدى خبراء الاقتصاد. وهو يفتح الباب أمام مناقشة شيقة حول مسألة مهمة لكنها مهملة على كل مستوى من مستويات المجتمع تقريباً. فالفرنسيون يميلون إلى العقارات بقوة. وكما يلاحظ ترانوي وواسمر، فإن قيمة الحيازات العقارية في فرنسا تعادل 6 أمثال رأس المال الإنتاجي القائم في البلاد نفسها، مقارنة بنحو 2.4 في ألمانيا و3.6 في بريطانيا. وهذه الفروقات ليست عرضية بأي حال من الأحوال. فهي تعبر عن منظومة من القيم متجذرة في تاريخ فرنسا التي كانت أقل ميلاً إلى التجارة والصناعة مقارنة بجيرانها.
في الختام، يجدر بنا أن نتذكر - كما يشير ترانوي وواسمِر - أنّ فكرة فرض ضريبة بنسبة 100% على دخل الأرض ليست جديدة. فهي ترجع على الأقل إلى زمن الاقتصادي الأميركي هنري جورج الذي رأى في هذه الضريبة وسيلة فعّالة لتمويل الخدمات العامة في خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومؤخراً، أوصى خبراء اقتصاديون أميركيون في العام 1990 - بينهم عدد ممن حازوا جائزة نوبل - ميخائيل غورباتشوف بعدم خصخصة الأراضي الروسية، لأن قيمتها تعكس نشاط مجموع الفاعلين الاقتصاديين في المقام الأول. والواقع أن الأفكار التي استكشفها ترانوي وواسمِر على قدر من الأهمية ومن المرجّح أن تكون محل نقاش واسع النطاق.
نُشِرت هذه المراجعة في Books and Ideas في 4 تموز/يوليو 2024، وتُرجِمت وأعيد نشرها في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.