Preview نيوليبرالية لوم الضحايا

يد خفيّة
نيوليبرالية لوم الضحايا

ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية في مصر إلى 70 جنيهاً، على الرغم من ثبات سعره شبه المُحدّد إدارياً عند حوالى 31 جنيهاً، وبعد أن كان سعره منذ عامين فقط أقل من 16 جنيهاً. يطرح هذا الارتفاع السريع والكبير والمتجدّد أسئلة عديدة عن القيمة «العادلة» أو «الحقيقية» للجنيه بشكل خاص، ولعملات البلدان المأزومة في دول الجنوب بشكل عام.

على مدار ما يزيد عن سبع منذ إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي في نهاية العام 2016، قامت مصر بجميع «الإصلاحات» الموصى بها من مؤسّسات النيوليبرالية العالمية، وفي مقدّمها صندوق النقد الدولي، والتي كان من المفترض أن تصحّح وضع العملة المأزوم. يتصدّر تلك الإصلاحات التخفيض المتكرّر لقيمة الجنيه، التي عادة ما تراه تلك المؤسّسات بأنه مقوّم بأعلى من قيمته «الحقيقة» أو «العادلة»، وتوصي برفع سعر الفائدة لوقف حدّة الدولرة ودعم قيمة العملة المحلّية، وهو ما فعلته مصر مراراً لكن من دون فائدة كبيرة.

على عكس سردية الصندوق، يعود سبب أزمة الاختلالات الخارجية في كثير من بلدان الجنوب إلى كون العملة مقوّمة بأقل من قيمتها، وليس العكس، ما يجعل تخفيض قيمتها استراتيجية غير فعّالة

القيمة المبالغ فيها للجنيه، وفقاً لسردية صندوق النقد الدولي، تجعل السلع والخدمات المصرية أيضاً مبالغ في قيمتها بالنسبة إلى بقية العالم، ما يؤثّر على تنافسية صادراتها. وبالمثل إن القيمة المبالغ فيها للعملة تجعل الواردات أقل كلفة فتشجّع الاستيراد. لكن تبدو هذه السردية غريبة من وجهة نظر الواقع المعاش، فالجنيه المصري دائماً ما تقل قيمته أمام العملات الأجنبية الكبرى، وتحديداً الدولار، وهذا أمر مستمرّ منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وزادت وتيرة الانهيار في الثمانينيات والتسعينيات وفي خلال العقد الأخير. 

إن ضعف قدرة الجنيه الشرائية بمجرّد خروجه خارج حدود البلد راسخ في الوعي الجمعي، وتحديداً فيما لو خرج إلى أحد البلدان الغنية ذات العملات الكبرى (الولايات المتّحدة، بريطانيا، أوروبا القارية، إلخ). وراسخ أيضاً في الوعي الجمعي أن مواطني دول الشمال يأتون إلى مصر بعملاتهم ويعيشون كالملكات والملوك. على الرغم من هذه التجربة الحياتية المعاشة، قيل لنا إن المبالغة في تقييم عملاتنا وسلعنا وخدماتنا هي سبب عجوزاتنا التجارية المستفحلة وما ينتج عنها من أزمات اقتصادية متكرّرة وعنيفة كموجات التضخّم المرتفع ونقص فرص العمل وعجز الموازنة وزيادة المديونية، إلخ.

على سبيل المثال، يذكر تقرير الخبراء لبرنامج صندوق النقد الدولي في مصر لعام 2016 مرات عدّة مسألة التقييم المبالغ فيه للعملة المصرية:

«لقد وضعت السلطات المصرية برنامجاً اقتصادياً محلياً [...] للتعامل مع التحدّيات طويلة المدى في الاقتصاد المصري. وتشمل هذه التحدّيات: مشكلة في ميزان المدفوعات متجسّدة في سعر صرف مبالغ فيه». 

وفي موضعين آخرين يقول التقرير نفسه:

«كان سعر الصرف مبالغ فيه بشكل كبير، وهو ما يضرّ بالتنافسية ويؤدّي إلى نقص في الاحتياطيات. ويقدر سعر الصرف الرسمي بأعلى بحوالى 25% من سعر الصرف الحقيقي الفعّال».

لكن على عكس سردية الصندوق، يعود سبب أزمة الاختلالات الخارجية وعجوزات التجارة في مصر وكثير من بلدان الجنوب إلى كون العملة مقوّمة بأقل من قيمتها، وليس العكس، ما يجعل تخفيض قيمتها استراتيجية غير فعّالة لتحسين الأرصدة الخارجية، بل يزيد من حدّتها بسبب انخفاض قيمة الصادرات سواء من سلع أو خدمات. إن التفاوت في التحليل سببه الانتقائية في استخدام منهجية تقييم العملة.

أدوات التحليل الاقتصادي ليست مُحايدة، فهي يمكنها أن تقنعنا بأن الرخيص باهظ الثمن وأن الباهظ رخيص، وتستطيع أن تلوم الضحايا على مآسيهم، وتخلط الأسباب بالنتائج

يؤكد الاقتصادي جيرنوت كولر أن هناك طريقتين لتقييم العملات. الطريقة الأكثر شيوعاً تقضي بتقييم العملات من خلال أسعار صرفها مقابل العملات الأخرى، وتتضمن الطريقة الثانية النظر في معادل القوة الشرائية (Purchasing Power Parity) بين العملات. ووفق كولر، إن استخدام معادل القوة الشرائية للعملات يكشف أنه، خلافاً لموقف صندوق النقد الدولي المُعلن في كثير من الأحيان، فإن عملات بلدان الجنوب العالمي التي تعاني من عجوزات التجارة مقوّمة في الواقع بأقل من قيمتها الحقيقية، وليس العكس.

هذا التقييم المنخفض لقيمة العملة، وفقاً لكولر، يبقي الأجور والأسعار النسبية للسلع المقومة بتلك العملة منخفضة، وبالتالي كلّما زادت حدّة هذه الانخفاض كلّما قلّت الأسعار النسبية لصادرات البلد. يُطلِق كولر على الفرق بين تعادلات القوة الشرائية للعملة اسم «عامل التشويه» (distortion factor). على سبيل المثال، إذا كان عامل التشويه لعملة بلد ما - فلنقل الهند - 2.8، فهذا يعني أن الدولار الأميركي سيكون لديه قوة شرائية أكبر بمقدار 2.8 مرّة في ذلك البلد مما سيكون عليه في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، إن أي شخص حامل لدولارات أميركية في الهند سيكون قادراً على شراء منتجات تساوي 100 دولار في الولايات المتّحدة مقابل 36 دولاراً فقط في الهند. عامل التحويل (conversion factor) من وجهة نظر عملة الهند في هذه الحالة يساوي 0.36.

أعطى كولر مثالاً للتبادل التجاري في ظل عامل التشويه هذا. إذا صدّرت الهند سلعاً وخدمات بقيمة 200 روبية إلى الولايات المتّحدة، واستوردت سلعاً وخدمات بالقيمة نفسها، في ظل سعر صرف اسمي 50 روبية للدولار الواحد، ما يجعل المعاملتين بقيمة 4 دولارات. وفقاً لعامل التشويه، إن سعر الصرف وفقاً لمعادل القوة الشرائية سيكون حوالى 18 روبية للدولار. ومن حيث ميزان المدفوعات، فإن هذه المعاملات متساوية، ولكن إذا طبّقنا نهج معادل القوة الشرائية - كمية السلع والخدمات المتبادلة - ستبدو الصورة مختلفة تماماً. كانت باستطاعة الهند استيراد ما قيمته 11 دولاراً من خلال إنفاق الأربع دولارات نفسها، نظراً لأن القوة الشرائية للروبية في الولايات المتحدة تتقلص بعامل قدره 2.8. بعبارة أخرى، ستكون للروبية الواحدة قوة شرائية تبلغ 0.36 روبية فقط في الولايات المتحدة. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن استيراد ما قيمته 200 روبية، أو 4 دولارات، كان سيساوي 72 روبية فقط في حالة تعادل القوة الشرائية. 

وهذا الفارق المكاني في القوة الشرائية للعملة يمكّن البلدان التي لديها عملات مبالغ في قيمتها - وهي في الأغلب بلدان الشمال العالمي الغنية - من الخروج كرابحين في التجارة الدولية. ويقدّر كوهلر أن التبادل غير المتكافئ الناتج عن عامل التشويه كلّف البلدان المنخفضة الدخل 2.6 تريليون دولار من حيث قيمة سعر الصرف الاسمية و6.5 تريليون دولار من حيث قيمة تعادل القوة الشرائية في العام 2009. وفي العام 2020، بلغ عامل تحويل تعادل القوة الشرائية لمصر 0.28، وتونس 0.33، والأردن 0.41، ولبنان 0.38 (كلّما نقص الرقم كلما كانت العملة مقوّمة بأقل من قيمتها). 

تشبه هذه التقديرات جهود أخرى لقياس التبادل غير المتكافئ بين بلدان الجنوب والشمال. قام زاك كوب بحساب خسائر البلدان المنخفضة الدخل على أساس فارق الأجور وعامل تشويه العملة في العام 2010، وقدّرها بنحو 2.8 تريليون دولار، وهو رقم قريب من تقدير كولر. باختصار، إن أزمة تجارة بلدان الجنوب التي تعاني من عجوزات تجارية هي نتيجة لانخفاض قيمة عملاتها وسلعها وخدماتها، وليس المبالغة في قيمتها. يصبح هنا الوعي الجمعي الشعبي أقرب للصحة من أساليب خبراء الاقتصاد، فكلنا ندرك من واقع الحياة أن السلع والخدمات المستوردة أو السلع والخدمات التي نصادفها عندما نسافر إلى بلدان الشمال مبالغ في أسعارها، في حين أن الزائر من بلدان الشمال إلى بلدان الجنوب يستمتع عادة برخص السلع والخدمات، والمقيم في بلدان الشمال يستمتع أيضاً برخص الواردات الآتية من بلدان الجنوب.

العمالة الرخيصة والمواد الخام في الجنوب العالمي ليست رخيصة «بشكل طبيعي»، بل يتم ترخيصها بشكل نشط

ولكن لماذا يزعم صندوق النقد الدولي باستمرار أن عملات وسلع بلدان العجز التجاري قد تكون مبالغ في قيمتها؟ على الرغم من وجود عوامل أيديولوجية وفوائد اقتصادية من لوم أزمات العملة والتجارة على السياسة الوطنية، سوف أتطرّق الآن إلى الجانب المنهجي للتناقض الواضح بين وصف العملات المقومة بأقل من قيمتها بأنها مبالغ في قيمتها.

يستخدم صندوق النقد الدولي والمؤسّسات الخاصة التي تصدر تقارير عن القيم «الحقيقية» أو «العادلة» للعملات المختلفة طريقتين رئيسيتين للقول بأن العملات مقوّمة بأقل من قيمتها الحقيقية. أولاً، إذا كان سعر الصرف الرسمي المدار أو المحدّد إدارياً أقل ممّا كان يمكن أن يكون عليه في ظل ظروف التعويم الحرّ، يعتبر صندوق النقد الدولي أن العملة مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية. ويشير هذا إلى انخفاض قيمة العملة مقارنة بسيناريو السوق الحرّة. يتضمن النهج الآخر استخدام رقم قياسي (غالباً ما يكون 100)، ويسمّى سعر الصرف الفعّال الحقيقي (Real Effective Exchange Rate). يقيس هذا المؤشر عادة أسعار الصرف مقابل سلة من العملات (المرجحة حسب حصة البلد في التجارة مع البلد صاحب العملة) مقارنة بسنة مرجعية سابقة. إذا ارتفع المؤشّر (وصل إلى 105 مثلاً)، فغالباً ما تعتبر العملة مبالغ في قيمتها مقارنة بالسنة المرجعية، في حين أنها في الواقع يتم تقييمها بشكل أعلى قليلاً مقارنة بالتقييم السابق، والذي كانت في الأصل مقوّمة على أساسه بأقل من قيمتها وفقاً لمنهج تعادل القوة الشرائية.

يتضح من هذا أن أدوات التحليل الاقتصادي ليست مُحايدة، فهي يمكنها أن تقنعنا بأن الرخيص باهظ الثمن وأن الباهظ الثمن رخيص، وتستطيع أن تلوم الضحايا على مآسيهم، وتخلط الأسباب بالنتائج، وتشكّكنا في تجاربنا وادراكنا، فنقتنع أن سبب أزمتنا الاقتصادية يكمن في أن صادراتنا باهظة الثمن وأن وارداتنا رخيصة. تسمح الواردات الرخيصة إلى بلدان الشمال برفع جودة الحياة هناك، وأيضاً في السيطرة على الأجور وتكلفة المعيشة.

يقول باحث الأنثروبولوجيا الاقتصادية جايسون هيكل في هذا الصدد: «العمالة الرخيصة والمواد الخام في الجنوب العالمي ليست رخيصة «بشكل طبيعي»، بل يتم ترخيصها بشكل نشط». ويضيف هيكل أن العملية النشطة لتخفيض القيمة ناتجة عن «الاعتماد البنيوي على المستثمرين الأجانب والقدرة على الوصول إلى أسواق الشمال، ما يجبر حكومات الجنوب وشركاته على التنافس ضدّ بعضها البعض من خلال خفض الأجور وأسعار الموارد في سباق نحو القاع». تمارس الدول المرتفعة الدخل سلطة احتكارية في مؤسّسات الإدارة الاقتصادية الدولية، وفقاً لهيكل. ففي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تحتفظ بلدان الشمال بغالبية الأصوات (وتمتلك الولايات المتّحدة حق الفيتو)، ما يمنحها بالتالي السيطرة على القرارات الرئيسة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية. وفي منظمة التجارة العالمية تحدّد القوة التفاوضية حسب حجم السوق، ما يمكّن الدول المرتفعة الدخل من وضع قواعد للتجارة تخدم مصالحها الخاصة.