معاينة الأضرار في قطاعي التعليم والصحة

أثر الحرب في قطاعَي الصحّة والتعليم في لبنان

عقب العدوان الإسرائيلي المدمّر الذي شهده لبنان، باتت صور المستشفيات المنهارة والمباني المدرسية المهدّمة رمزاً لأزمة أوسع نطاقاً تواجه الخدمات الأساسية في البلاد. يُبرِز تقرير «التقييم السريع للأضرار والحاجات» الصادر عن البنك الدولي حجم الدمار والمعاناة، فضلاً عن التحدّيات الطارئة في إعادة الإعمار التي تفوق إعادة إعمار المنازل، وتصل إلى حاجة ملحّة إلى استراتيجيات تعافٍ شاملة لقطاعَي الصحّة والتعليم في لبنان.

يُعرِّف التقرير «الأضرار» على انها كلفة استبدال الأصول المادية المُدمَّرة، امّا «الخسائر» فيعرّفها بالآثار الاقتصادية الناجمة عن تعطّل الخدمات وتوقّف مصادر الدخل، ويعرّف «الحاجات» بانها الموارد المالية المطلوبة لعمليات إعادة الإعمار والتأهيل واستعادة الخدمات.

قطاع الصحّة: الأرواح على المحكّ

تعرّض القطاع الصحي في لبنان لضررٍ بالغٍ من جرّاء العدوان الأخير، تمثّل في خسائر مادية فادحة فاقمت الخسائر الناتجة عن الأزمة الاقتصادية في العام 2019. ووفقاً للبنك الدولي، سجّل القطاع الصحّي أضراراً قُدّرت بنحو 208 ملايين دولار أميركي. وشملت المرافق المتضرّرة 40 مستشفى: دُمّر مستشفى واحد تدميراً كاملاً وتعرّضت 39 أخرى لأضرار جزئية. ولم تسلم أيضاً مراكز الرعاية الصحية الأولية من الاستهداف، إذ دُمّر 11 مركزاً وتضرّر 31 مركزاً آخر جزئياً، علماً أن هذه المراكز تحوّلت إلى ملجئ لعدد متزايد من المرضى بعد الأزمة الاقتصادية. أمّا الصيدليات، التي تُعَدّ شريان توزيع الأدوية والنقطة الأولى لحصول الفقراء وسكّان الأرياف على الرعاية الصحية، فقد لحقت بها أضرار جسيمة شملت 60 صيدلية دمّرت كليّاً أو تضرّرت جزئيّاً. وتضرّرت أيضاً مرافق حيوية أخرى مثل 52 مركزاً للعناية بالأسنان والخدمات التشخيصية، فضلاً عن مؤسّساتٍ كثيرة مثل المراكز الإنمائية الاجتماعية التي واجهت بدورها أضراراً ملموسة.

إلى جانب الأضرار المادية، تسبّب العدوان بخسائر اقتصادية جسيمة قدّرها البنك الدولي بنحو 700 مليون دولار، ناجمة بشكل أساسي عن تراجع عائدات الخدمات الصحية والارتفاع الإضافي في كلفة تعطّل تلك الخدمات، ما فاقم الضغوط الملقاة على كاهل النظام الصحّي اللبناني الذي يعاني أصلاً من الهشاشة.

تُقدّر حاجات التعافي وإعادة الإعمار للقطاع الصحي بحوالي 409 ملايين دولار، وتتطلّب إجراءاتٍ عاجلة لتثبيت الخدمات الصحّية وإجراءات أطول أمداً لاستكمال التعافي الشامل. على المدى الفوري (2025)، يحتاج لبنان نحو 123 مليون دولار لترميم البنية التحتية، وتوفير الخدمات الصحية الطارئة، ودعم العاملين في القطاع الصحي، وضمان وصول المجموعات الأكثر هشاشة إلى الرعاية الطبية الأساسية. أمّا الحاجات قصيرة المدى (2026–2027) والمقدّرة بـ204 ملايين دولار، فتتمحور حول إعادة إعمار المرافق بشكلٍ شامل، وتعويض المعدّات الطبّية الحيوية، والاستثمار في تدريب الكوادر الصحية. كما تركّز هذه المرحلة على تعزيز البنية التحتية للصحة العامة وتوسيع نطاق الخدمات الصحية الضرورية. وفي المدى المتوسط (2028–2030)، يحتاج القطاع إلى 82 مليون دولار إضافية لرفع قدرته على الصمود أمام اعتداءات مشابهة وضمان استمرارية الخدمات الصحية الأساسية، بما في ذلك تقديم الدعم في مجال الصحة النفسية.

وعلى صعيد التوزيع الجغرافي، تُعدّ محافظة النبطية من أكثر المناطق تضرّراً، إذ تكبّدت أضراراً بنحو 85 مليون دولار، تليها محافظة الجنوب بنحو 39 مليون دولار، ثمّ بعلبك-الهرمل بنحو 34 مليون دولار. إن تلبية هذه الحاجات العاجلة أمرٌ حاسمٌ لاستعادة الخدمات الصحية، وإنما أيضاً لضمان الصحة والرفاه على المدى الطويل لسكان لبنان، ولا سيّما الفئات الأكثر ضعفاً التي غالباً ما تدفع الثمن الأكبر في الحروب.

الأضرار في قطاعي الصحة والتعليم

قطاع التعليم: تعليمٌ مُعطَّل وتأثيرٌ بعيد المدى

شهد قطاع التعليم في لبنان أضراراً بالغة نتيجة العدوان، إذ تكبّد خسائر مادية واقتصادية كبيرة، ومعطوفة على حاجة واسعة إلى عمليات التعافي.

تُقدّر قيمة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية التعليمية بنحو 151 مليون دولار، إذ طالت المدارس والجامعات والمعاهد التقنية. واتّسم الدمار بمدى اتساعه، وفي حين دمّرت 25 مدرسة رسمية تدميراً كاملاً تعرّضت 120 مدرسة رسمية أُخرى لأضرار جزئية، بإجمالي يقدّر بنحو 51 مليون دولار. أمّا المدارس الخاصة، فشهدت دماراً أشدّ، إذ دُمّرت 34 مدرسة بالكامل وتضرّرت 173 مدرسة جزئياً، بإجمالي قُدّر بنحو 96 مليون دولار. ولم تسلم مؤسّسات التعليم العالي ومراكز التعليم والتدريب المهني من الأضرار، إذ بلغت قيمة الأضرار فيها قرابة 3.8 ملايين دولار.

وعلى صعيد الخسائر الاقتصادية، تكبّد قطاع التعليم نحو 414 مليون دولار، جاءت أغلبها من انقطاع التعليم وما رافقه من تداعيات. فقد خُصّص 36 مليون دولار لتأسيس وصيانة مراكز تعليمية مؤقتة، فيما تسبّبت خسائر الإيرادات الدراسية والكُلف التشغيلية الإضافية الناجمة عن النزاع بخسارة قُدّرت بنحو 378 مليون دولار.

أمّا الاحتياجات الكلية للتعافي وإعادة الإعمار في قطاع التعليم، فتُقدّر بنحو 554 مليون دولار. وتشمل الاحتياجات العاجلة في خلال العام 2025 المقدّرة بقيمة 312 مليون دولار، إجراء إصلاحاتٍ فورية في المرافق التعليمية، وتنفيذ حلول تعليمية مؤقتة، وتوفير برامج دعم نفسي واجتماعي للطلاب والمعلمين، فضلاً عن ترميم الخدمات التعليمية الأساسية على وجه السرعة. بينما تُقدَّر الاحتياجات قصيرة المدى (2026–2027) بنحو 170 مليون دولار، وتركّز على إعادة تأهيل المدارس وإعمارها بشكل موسّع، وتوفير دعم نفسي واجتماعي إضافي، وتدريب المعلّمين. وأخيراً، يحتاج القطاع في المدى المتوسط (2028–2030) إلى 72 مليون دولار إضافية لإتمام إعادة الإعمار، وتعزيز استمرارية الدعم النفسي والاجتماعي، وضمان مرونة العملية التعليمية وجودتها.

وتُعَد محافظة النبطية أكثر المناطق تضرراً في القطاع التعليمي، إذ تحتاج إلى 81 مليون دولار، تليها محافظة الجنوب بنحو 39 مليوناً، ثمّ جبل لبنان بـ21 مليون دولار لتغطية جهود التعافي وإعادة الإعمار.

الأضرار في قطاعي الصحة والتعليم

تقييمٌ نقديّ لمنهجية «التقييم السريع للأضرار والاحتياجات»

لهذه المنهجيّة محدوديّاتٍ مهمّة يتعيّن أخذها في الاعتبار. فقد أُجري التقييم في خلال شهرين فقط، ما فرض ضغوطاً زمنيّة كبيرة على جمع البيانات والتحقّق منها، وقد يُفضي إلى تقليل تقديرات الأضرار واحتياجات التعافي. على سبيل المثال، في القطاع الصحي، قد تُظهر صور الأقمار الصناعية أضراراً في مباني المستشفيات أو هياكلها الخارجية، لكنّها لا تعكس دائماً الأضرار في المرافق تحت الأرض، ولا توضّح وضع المعدّات الطبيّة أو نقص الأدوية أو مدى توفّر الكوادر الصحيّة، الأمر الذي يستدعي زياراتٍ ميدانيّة مكمّلة ووقتاً أطول لجمع البيانات الكافية. وبالمثل، في قطاع التعليم، يرصد التقييم السريع تدمير المدارس كمبانٍ ماديّة، لكنه لا يُبيّن الآثار بعيدة المدى على تحصيل الطلاب العلمي، مثل فترات الانقطاع المطوّل عن الدراسة أو نزوح المعلّمين أو التبعات النفسيّة على الأطفال.

فضلاً عن ذلك، تعتمد المنهجيّة إلى حدّ كبير على بياناتٍ جُمعت عن بُعد، من خلال صور الأقمار الصناعية وتحليلات وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من القيمة الكبيرة لهذه الأدوات، فقد لا تلتقط جميع المشكلات المحليّة. على سبيل المثال، قد تبدو مدرسةٌ ما سليمةً في الصور الجوّية، فيما تكون في الحقيقة غير صالحة للاستخدام بسبب أضرارٍ داخليّة أو تدمير مرافق الصرف الصحي. وبالمثل، قد تشير منشوراتٌ في وسائل التواصل الاجتماعي إلى نقصٍ حادّ في الإمدادات الطبيّة، من دون أن تبيّن بالكامل صعوبة وصول المقيمين في المناطق المنكوبة إلى الرعاية الصحيّة.

أخيراً، يُعقّد اعتماد التقييم السريع على قاعدة بياناتٍ سابقة للعدوان الوضعَ في لبنان، في ظلّ قلّة البيانات المتوفّرة وتسارع التدهور الاقتصادي منذ أزمة العام 2019. فقد كان الكثير من المستشفيات العامّة والمدارس يعاني من ضائقة ماليّة خانقة قبل النزاع، ما يجعل من الصعب تحديد أيّ الأضرار يرتبط بالنزاع مباشرةً وأيّها يمثّل تفاقُماً لأوضاع هشّة قائمة مسبقاً.

تحدّيات التنفيذ وأولويات التعافي

يمثّل تلبية الحاجات الضخمة تحدّياً معقّداً، لا سيّما في ظلّ الانهيار الاقتصادي في لبنان والعراقيل المستشرية في النظام السياسي، ما يزيد صعوبة تعبئة الموارد وتنفيذ الإصلاحات الضرورية المؤجّلة منذ زمن. وعلى الرغم من أنّ حجم الأضرار والاحتياجات يقتضي مساعدةً مالية دولية، فإنّه يستلزم على نحوٍ أكثر إلحاحاً كسر الوضع الاقتصادي الراهن القائم على الاعتماد على المعونات الخارجية، لا سيّما في وقتٍ باتت فيه الولايات المتّحدة وأوروبا تقلّصان تمويلهما للمساعدات.

إلى جانب ذلك، يحتلّ كلٌّ من قطاعَي الصحة والتعليم مرتبة أولويّة من منظور الأمن القومي. ولضمان عدم تعطّل الخدمات في المستقبل، ينبغي التخطيط لتعافي هذين القطاعين مع وضع مخاطر أي هجمات إسرائيليّة محتملة في الاعتبار، وهي تهديدات قد تعيد شلّ البلد مجدّداً. إلّا أنّ هذه الأولويات الأمنية قد لا تنسجم مع تطلّعات الجهات المانحة الأجنبية التي ستتولّى رسم أجندة التعافي في حال قرّرت تمويله.