

كلفة السياسة النقدية الباهظة
3 ملاحظات على «إنجازات» منصوري في مصرف لبنان
أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند الاستماع إلى المقابلة الأخيرة التي أجراها حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري مع قناة «الحدث» هو سؤال بسيط: هل حقّاً هناك إنجازات قد تحقّقت في خلال فترة إنابته ولم يشعر أحدٌ بها؟
ففي هذه المقابلة الوداعية، قدّم منصوري عرضاً مُختصراً للنتائج المحقّقة منذ نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في 31 تموز/يوليو 2023 إلى تعيين كريم سعيد حاكماً جديداً لمصرف لبنان المركزي (أمس). فعلى مدى 20 شهراً من الفراغ في هذا الموقع المهمّ والحسّاس، وفي ظل واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ لبنان الحديث، أتيحت الفرصة لنائب الحاكم الأوّل وسيم منصوري لتولي المسؤولية في البنك المركزي وإدارة الأزمة النقدية والمصرفية. إلّا أن نتائج هذه الفترة، التي سلّط منصوري الضوء عليها في مقابلته، لا تدفع إلى التباهي أو الفخر، ومع ذلك تقصّد أنّ يقدّمها بوصفها إنجازات نتجت عن سلسلة من «الإصلاحات» التي طبّقها بهدف تحقيق الاستقرار النقدي.
شهد سعر صرف الليرة انهياراً سريعاً ومتواصلاً على مدى السنوات الأربع التي سبقت تولّي منصوري المسؤولية، وتدهور سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي من 1,507.5 ليرة إلى 89,500 ليرة، وخسرت الليرة نحو 98.3% من قيمتها. فالإنجاز الذي يشير إليه منصوري أنه نجح في إبقاء سعر الليرة عند هذا المستوى ولم يسمح له بالانخفاض أكثر أو الانخفاض باستمرار كما حصل في ظل ولاية رياض سلامة. ولكن كيف فعل ذلك؟
يقول منصوري إنه «لا توجد صدفة! فالاستقرار النقدي منذ الأول من آب/أغسطس 2023 ناتج عن أمرين: الأول هو وقف تمويل الدولة، أي منع استنفاد احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وقد نتج عن هذا الأمر اضطرار الدولة إلى جباية ضرائبها على سعر الدولار الحقيقي. فحصّلت في الأشهر الأربعة الأخيرة من العام 2024 ضعفيْ ما حصّلته في العام 2023 كاملاً. هذا هو الإصلاح الأساسي، أي فصل ميزانية الدولة عن المصرف المركزي، الذي سمح للمرّة الأولى بأن تصرف الدولة بقدر ما تحصّل وأن تحقّق فائضاً بقيمة 600 مليون دولار في العام الماضي. أمّا الأمر الثاني فهو سحب الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. لقد كانت الحكومة تسحب الليرة من السوق (عبر الضرائب) فيما يعيد البنك المركزي ضخّ ليرات بقيمة موازية أو أكثر قليلاً، وقد حقّق ذلك استقراراً في سعر الصرف، الذي تحوّل إلى استقرار مؤسّسي، فزدات احتياطات مصرف لبنان من آب/أغسطس 2023 بما يفوق 2.2 مليار دولار، وانخفض التضخّم من 300% في نيسان/أبريل 2023 بحسب البنك الدولي إلى 18% في كانون الأول/ديسمبر 2024».
لكن هل هذه «الإنجازات» التي يتحدّث عنها منصوري كانت إيجابية أم سلبية؟ ومن وجهة نظر من؟
الإنجاز الأول: «خفض التضخّم من 300% إلى 18%»
يشرح الاقتصادي كمال حمدان أنّ «معدّل التضخم لا يزال مرتفعاً حتى لو سجّل رقمين بالمقارنة مع ثلاثة أرقام في السنوات السابقة. أمّا الأسوأ فهو أنّ التضخّم مستمرّ على الرغم من ثبات سعر الصرف على 89,500 ليرة منذ نحو السنة ونصف السنة، وبعد دولرة جميع أسعار السلع والخدمات. وهذا إن دلّ فعلى قوّة الدولة العميقة في لبنان، المؤلّفة من محتكرين ومؤسّسات طائفية تتشابك مصالحها مع الدولة». ويشير حمدان إلى أن «الأسعار ارتفعت تراكمياً بنحو 6,500% منذ بداية الأزمة وهذا مؤشّر خطير في ظل عدم إجراء تصحيح جدّي للأجور والرواتب، ويدلّ على تحوّلات اجتماعية خطيرة وجارفة ناتجة عن تآكل القدرات الشرائية، وانحدار فئات كثيرة إلى الفقر من دون أن تجد من ينقذها واضطرار فئات أخرى إلى الهجرة بحثاً عن فرص أفضل في الخارج».
الإنجاز الثاني: «وقف تمويل الدولة ما حفّزها على زيادة الجباية وتحقيق فائض بالموازنة»
يشرح الاقتصادي (والوزير السابق) شربل نحّاس أن «المصرف المركزي قلّص تمويله للدولة، فيما رفعت الأخيرة الضرائب بمعدّل 20 ضعفاً، ما أدّى حسابياً إلى تحقيق فائض في الموازنة. غير أنّ النتيجة الفعلية كانت توقّف عمليّتي النقد والتسليف. فعندما كان المصرف المركزي يموّل الدولة تحت إدارة رياض سلامة، كانت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية تزداد. وبعد توقّفه عن ذلك، تقلّص حجم هذه الكتلة بشكل كبير مقارنة بحجم الناتج المحلّي. وقد أدّى هذا الانكماش في الكتلة النقدية المتداولة بالليرة إلى تعميم ظاهرة الدولرة، إذ لم تعد تُستخدم الليرة اليوم إلّا لدفع الضرائب والرسوم، أو كعملة فكّة للدولار. أمّا التسليف، فهو متوقّف بدوره نتيجة غياب أي مبادرة جدّية لحلّ أزمة إفلاس المصارف. وفي ظلّ غياب أهم أدوات المصرف المركزي، أي النقد والتسليف، هناك سؤال لا بدّ من طرحه: ما جدوى وجود مصرف مركزي من الأساس؟».
يقول نحاس إن «المصرف المركزي يتباهى اليوم بتثبيت سعر الليرة، وهو في الواقع مؤشّر إضافي على تفشّي الدولرة، إذ أصبح الدولار الأميركي هو المرجعية الفعلية فيما الأسعار بالدولار ما زالت تشهد ارتفاعاً. علماً أنّ الغاية الأساسية من هذه السياسة هي تحقيق إنجاز بلاغي مفاده أنّ سعر صرف الليرة أصبح ثابتاً، في حين أنّ النقد ذاته غائب والتضخّم مستمرّ بالدولار. وهذه السياسة لا تتجاوز كونها رمزية، وتستند إلى رُهاب جماعي في المجتمع اللبناني من تقلّبات سعر الصرف، لكنها مكلفة جداً ولا تخدم أحداً، من العمّال اليوميين إلى كبار التجّار، إذ يتقاضى الجميع دخلهم اليوم بالدولار. وبالتالي التفاخر بمثل هذا الإنجاز يدلّ على انفصال تام عن الواقع، فمن العجيب أن يُدار اقتصاد في القرن الـ 21 من دون وجود نقد أو تسليف».
الإنجاز الثالث: «تجاوز الاحتياطي الحرّ لدى مصرف لبنان قيمة 2 مليار دولار»
يشرح الاقتصادي توفيق كسبار أنه «لا يوجد علمياً ما يُسمّى احتياطي حرّ». ويقول إن «هناك الاحتياطي الذي يعبّر عمّا يوجد لدى مصرف لبنان من عملات أجنبية مودعة لديه، وهناك صافي الاحتياطي أي ما يتبقّى لدى مصرف لبنان من عملات أجنبية صافية بعد حسم المتوجّب عليه من عملات أجنبية للغير، وبالتالي ما يقوله الحاكم بالإنابة هو أمر غريب جدّاً».
ويرى المدير العام لوزارة المالية الأسبق آلان بيفاني إن «عبارات منصوري عن الاحتياطي الحرّ قد تعني أي شيء، أي قد يكون المقصود بها الاحتياطي الصافي الذي يستطيع مصرف لبنان التصرّف به، أو الاحتياطي غير القابل للتصرّف. لكن بمعزل عن هذه الضبابية، ما يحاول منصوري قوله هو أنّ وضع المصرف المركزي قد تحسّن بنحو ملياري دولار. وهذا يبقى بلا أي معنى، خصوصاً أن هذا المبلغ قد يتبخّر في أي عملية بسيطة لدعم الليرة في حال تعرّضت لحملة مضاربة، كما أنه أقل مما يحتاجه المصرف المركزي لإعادة رسملته. وكذلك يبقى بلا أي معنى إذ لم يُعرف ماذا سيحصل بالفجوة المالية بالعملات الأجنبية الموجودة لدى المصرف المركزي».