Preview التاريخ المفقود لصندوق النقد والبنك الدوليين في الصراعات

التاريخ المفقود لصندوق النقد والبنك الدوليين في الصراعات

اليوم، تم تجاهل الدور القيادي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في بناء السلام إلى حد كبير من قبل الأكاديميين والصحافة. ولد كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في خلال المراحل الأخيرة العنيفة من الحرب العالمية الثانية، مع تفويضات لتعزيز السلام على مستوى العالم. غير أن هذه المهمّة الأولية المُبكرة للمؤسّسات المالية الدولية سرعان ما نُسيت مع الحرب الباردة، على الرغم من أن كلاً من البنك والصندوق عاودا التعامل بشكل خفي مع مسائل الحرب والسلام بعد سقوط جدار برلين، ثم بشكل أكثر وضوحاً في خلال الحرب على الإرهاب. واليوم يمكن القول إنهم أهم الجهات الفاعلة في بناء السلام وأكثرها تأثيراً، وإن كانت لم تدرس هذه المسألة بشكل كافٍ.

على سبيل المثال، ضاعف البنك الدولي التزاماته تجاه الصراعات ثلاث مرات لتصل إلى 18.7 مليار دولار أميركي بين عامي 2017 و2020، وحدّد البنك التدخلات المتعلقة بالصراع باعتبارها «أولوية مركزية» للمؤسسة. بينما أقرض صندوق النقد الدولي نحو 20 مليار دولار أميركي للأوضاع المتعلقة بالنزاعات بين عامي 2010 و2020. وأصدرت كلتا المؤسستين مؤخّراً تقارير استراتيجية رئيسة عن عملهما في الصراعات، إذ يقوم البنك والصندوق الآن بتصميم برامج وتطبيق شروط وتقديم مشورات للحكومات في مناطق الحرب النشطة في جميع أنحاء العالم، ومن ضمنها جنوب السودان واليمن وكولومبيا والعراق وفلسطين وأوكرانيا.

تستعيد هذه المقالة بعضاً من التاريخ المفقود للبنك وصندوق النقد الدوليين في الصراعات، وترسم مسار مشاركتهما العشوائية والمتنوعة المبكرة في سياقات عنيفة وصولاً إلى مكانتهما المعاصرة كصانعي سلام عالميين. ويوضح التحليل استجابة المؤسسات المالية الدولية لمسائل الحرب والسلام بالاعتماد على نهجها النيوليبرالي للتنمية، فكان عملها في الحرب أمراً بالغ الأهمّية لتقنياتها المتطورة في ضمان العزل التام لاقتصاد السوق، وهو الجانب الأساسي للنيوليبرالية. وتهدف هذه المقالة إلى التساؤل بشكل نقدي عما إذا كانت تدخلات المؤسسات المالية الدولية المتزايدة في الحرب فعّالة، إذ تستمر نماذجها النيوليبرالية للتنمية والسلام بالمساهمة في تفاقم عدم المساواة والعنف مع انفجار الصراعات في جميع أنحاء العالم.

دعم البنك والصندوق الكثير من الدول التابعة للولايات المتحدة والديكتاتوريات العسكرية في هذه الفترة، والتي غالباً ما كانت تقمع بنشاط وعنف اليساريين وحركات التمرّد الأخرى

الحرب... الحرب لا تتغيّر أبداً

مع استمرار اندلاع أهوال الحرب العالمية الثانية، اجتمع المندوبون في مؤتمر بريتون وودز في العام 1944 لرسم مسار للنظام العالمي بعد الحرب. تم تصوّر البنك وصندوق النقد الدوليين على أنهما محوريان باعتبارهما مركزين لتعزيز إعادة الإعمار السلمي وبوابة لنظام تجاري ليبرالي جديد. وكان من المتوخّى أن يتولى البنك، على وجه الخصوص، إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، ولكن خطّة مارشال لعام 1947 سرعان ما حلّت محل البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، التسمية الأصلية للبنك الدولي انطلاقاً من مهمّته الأساسية. بعد ذلك، أدّى اندلاع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى جعل إعادة الإعمار حسّاسة سياسياً، بما يجعل تدخّل المؤسّسات المالية الدولية فيها غير ممكن. ومع تعذّر الوصول إلى أعمال إعادة الإعمار وبناء السلام، أعاد كل من البنك، وفي نهاية المطاف، صندوق النقد الدوليين توجيه مهمّتهما نحو التنمية. 1

وفي الأربعين سنة التالية، وسط الحرب الباردة، تحوّل تركيز المؤسّسات المالية الدولية بالكامل نحو برامج التنمية والتعديلات الهيكلية في مختلف أنحاء الجنوب العالمي، حيث روّجت بقوة للنماذج الاقتصادية النيوليبرالية على مستوى العالم من خلال التحرير والتسويق والخصخصة والانضباط المالي، وهي مجموعة من الإجراءات المعروفة باسم إجماع واشنطن. كان للبرامج النيوليبرالية التي قادتها المؤسسات المالية الدولية آثاراً كارثية على رفاهية الإنسان والنمو الاقتصادي والتنمية، لدرجة أن سنوات تطبيقها في أفريقيا وأميركا اللاتينية تُعرف باسم «العقد الضائع». وبينما أعاد صندوق النقد والبنك الدوليين توجيه نفسيهما نحو التنمية، وامتنعا عن المشاركة الصريحة في الاقتصاد السياسي للصراع. ومع ذلك، دعم البنك والصندوق الكثير من الدول التابعة للولايات المتحدة والديكتاتوريات العسكرية في هذه الفترة، والتي غالباً ما كانت تقمع بنشاط وعنف اليساريين وحركات التمرّد الأخرى مثل ماركوس في الفلبين وبينوشيه في تشيلي وتشون في كوريا الجنوبية والمارشال لون نول في جمهورية الخمير.

سرعان ما تغيّر ذلك بمجرّد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وانفجرت الصراعات الداخلية، وولدت صناعة بناء السلام من خلال إعادة ظهور السلام الليبرالي2  مع خطة الأمم المتحدة العامة للسلام لعام 1992. وتعني هذه الديناميات مجتمعة أن المؤسسات المالية الدولية بدأت في معالجة بناء السلام وإعادة الإعمار. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن البنك وصندوق النقد الدوليين لم يشاركا في هذه المرحلة إلا في البلدان التي كانت فيها «نهاية» رسمية للأعمال العدائية، من خلال اتفاق سلام مثلاً، وفي مرحلة «ما بعد الصراع»، على الرغم من استمرار العنف في الواقع بأشكال مختلفة في كثير من الأحيان. وعلى هذا النحو، زادت المؤسسات المالية الدولية في خلال أوائل التسعينيات من مشاركتها في حالات ما بعد الصراع، مثل نيكاراغوا والسلفادور وموزمبيق وكمبوديا ورواندا وفلسطين، ووسّعت نطاق تطبيق مبادئ إجماع واشنطن في البيئات التي مزّقتها الحرب.

كانت دول أميركا الوسطى التي ابتليت بالصراعات من بين المحاور الأولى التي اهتمّت بها المؤسسات المالية الدولية في وقت مبكرٍ من اهتمامها ببناء السلام، وفي الغالب بناءً على طلب من حكومة الولايات المتّحدة. على سبيل المثال، في العام 1990، خرجت نيكاراغوا من حرب أهلية عنيفة بين الحكومة الاشتراكية الساندينية ومتمرّدي الكونترا اليمينيين بدعم معنوي ومالي من الإدارة الأميركية. ومع احتياج الحكومة الجديدة غير الساندينية بشدّة إلى التمويل الخارجي بعد الحرب، بدأت نيكاراغوا ببرنامج إجماع واشنطن الكلاسيكي «الاستقرار والتكيّف». تولى صندوق النقد الدولي زمام المبادرة في تصميم وتنفيذ البرنامج باتفاقية الاستعداد الائتماني في العام 1991، ثم قرضين آخرين في غضون السنوات السبع التالية. وقد ازدهرت بوجه عام النخب النيكاراغوية التي شاركت في قطاعي التصدير والتمويل اللذين تم تحريرهما حديثاً، ولكن تدهور بسرعة دخل الفرد الإجمالي والاستهلاك اليومي المتوسط من السعرات الحرارية للمواطن النيكاراغوي. لقد عادت التفاوتات في توزيع الدخل التي كانت سبباً في تأجيج الحرب الأهلية إلى الظهور في نيكاراغوا بحلول أواخر العام 1998، إذ يعيش نحو 71% من سكان نيكاراغوا في فقر، وتبلغ معدلات وفيات الرضع 58 لكل ألف ولادة حية، ويعاني 26% من الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية. ولقد أثّرت سلباً محاولات مماثلة للمؤسسات المالية الدولية في السلفادور على اتفاق السلام لعام 1992، كما أرست سياسات إجماع واشنطن الأساس لعدم المساواة والعنف والجريمة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في السلفادور «بعد الصراع».

بالنسبة إلى المؤسسات المالية الدولية، كانت الخصخصة والتسويق شرطين غير قابلين للتفاوض لتنمية البوسنة بعد الصراع وقامت بتدوينهما في الدستور البوسني المفروض في دايتون

ومع تزايد وضوح السياسات الكارثية التي انتهجها إجماع واشنطن بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين وأواخرها، ومع عدم إمكانية الدفاع عن إنكار المؤسسات المالية الدولية لعواقبها البغيضة على التنمية، وضع البنك وصندوق النقد الدوليين نظرية لمجموعة سياسات جديدة، أطلق عليها فيما بعد اسم إجماع ما بعد واشنطن. وكان لهذا النموذج الأخير الكثير من الجوانب نفسها التي كان للنموذج الأول

ولكن نظّم هذا النموذج اقتصاد المتلقي في إشارة إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومقتضيات المؤسسات العالمية، مثل منظمة التجارة العالمية، وبالتالي حماية الاقتصادات المحلية من خلال الهياكل والقيود الدولية. وكانت هناك محاولة لإزاحة السلطة السياسية عن الاقتصاد المحلي وربطها صراحة بمطالب أجزاء رأس المال العالمية الدولية. ويشير المحلّلون عادة إلى أن إجماع ما بعد واشنطن الدولي طبّق في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية وتقرير التنمية العالمية لعام 2007 الصادر عن البنك الدولي، ولكن عناصر حاسمة من هذا النموذج تم تجربتها من البنك وصندوق النقد الدوليين بعد الحرب البوسنية في العام 1995.

لقد دعت اتفاقية دايتون للسلام لعام 1995، التي أنهت الحرب البوسنية، إلى إدخال نماذج اقتصادية نيوليبرالية من خلال خطاب غير مُسيس للإصلاح الضروري. كانت الدولة البوسنية التي تم تصوّرها في دايتون، وأعلن عنها المجتمع الدولي (باستثناء المشاركة البوسنية)، تتمتع بسيادة مشروطة وتخضع لأولويات سياسة الاتحاد الأوروبي. بالنسبة إلى المؤسسات المالية الدولية، كانت الخصخصة والتسويق شرطين غير قابلين للتفاوض لتنمية البوسنة بعد الصراع وقامت بتدوينهما في الدستور البوسني المفروض في دايتون. حتى أن القانون ينص على أن صندوق النقد الدولي سوف يعيّن محافظ البنك المركزي البوسني، الذي لا يمكن أن يكون بوسنياً.

فضلاً عن ذلك، دعِم جدول أعمال المؤسسات المالية الدولية في البوسنة من مكتب الممثل السامي غير الخاضع للمساءلة والمعيّن من الاتحاد الأوروبي، وهو أجنبي غير منتخب يتمتع بسلطة مطلقة ويفرض جهود إعادة هيكلة واسعة النطاق ولوائح «مدمرة»، ما أسعد موظّفي البنك الدولي كثيراً. ومع ذلك، على الرغم من اتباع هذه السياسات، كان الاستثمار الأجنبي ومشاركة القطاع الخاص والنمو غير مؤثر. وبحلول العام 2000، كانت الحالة الاقتصادية سيئة، وتحتاج السلطات البوسنية إلى مزيد من القروض الأجنبية للوفاء بديونها، لأن الفقر سيطر على ثلث السكان. كانت الخصخصة أيضاً كارثية، إذ قام الأجانب والنخبة البوسنية بسرقة الشركات المملوكة للدولة سابقاً بثمن بخس. وبوجه عام، أدّى التدخل الدولي الموجّه من الاتحاد الدولي للتنمية إلى البوسنة في مرحلة ما بعد الصراع إلى تفاقم الظروف الاجتماعية، وأدى إلى مستويات دنيا من الثقة الاجتماعية اليوم وإمكانية نشوب حرب جديدة في البلقان، بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من اتفاقية دايتون.

لم توقع المؤسسات المالية الدولية على بنود القانون الإنساني الدولي، وليس لديها التزامات شاملة تجاه ميثاق الأمم المتحدة، وتفتقر إلى المساءلة أمام السكان المتضررين، ما يجعلها من بناة السلام المشكوك فيهم

الحرب والأرباح

مثلت هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة نقطة تحوّل في مناهج بناء السلام للمؤسّسات المالية الدولية. قبل ذلك، وبسبب إخفاقاته في نيكاراغوا والسلفادور والبوسنة وغيرها، كان هناك خلاف داخلي كبير في البنك الدولي بشأن ما إذا كانت أنشطة بناء السلام تمثل «انحرافاً عن المهمة». ومع ذلك، تركت هجمات 11 أيلول/سبتمبر «تأثيراً ملموساً على موظّفي البنك» وأسكت فعلياً منتقدي أنشطة مؤسسات بريتون وودز بعد الصراع. وفي إطار تعميق مبادئ إجماع ما بعد واشنطن، جادلت الكثير من الأصوات بأن الدول المتضرّرة من الصراع يجب أن تذعن أكثر للمؤسّسات الخارجية، وتتطلع إلى «سيادة متكاملة» مقيّدة في أطر دولية تتجاوز الإرادة المحلية. ويتعيّن على الدول الهشة والمتأثرة بالنزاعات أن تبرهن على قدرتها على السيادة بحكم القانون بدلاً من السيادة الفعلية؛ مع حكم الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية للبوسنة مثال مؤثر لسدّ «فجوة القدرات».

مع هذه الاتجاهات، حصلت المؤسسات المالية الدولية على تفويض من إدارة بوش الأميركية للتدخل في أفغانستان، التي غزتها الولايات المتحدة عسكرياً. وبالمثل، فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على تورّط المؤسسات المالية الدولية في العراق حيث وسّعت الولايات المتحدة «حربها على الإرهاب». وقد أثارت كلتا الحالتين جدلاً واسع النطاق، إذ لم توقع المؤسسات المالية الدولية على بنود القانون الإنساني الدولي، وليس لديها التزامات شاملة تجاه ميثاق الأمم المتحدة، وتفتقر إلى المساءلة أمام السكان المتضررين، ما يجعلها من بناة السلام المشكوك فيهم. وبغض النظر عن ذلك، فإن إصلاحات المؤسسات المالية الدولية في أفغانستان تعني أنه بحلول العام 2009، حافظت البلاد على «موقف سياسي موجّه نحو السوق ومؤيد للقطاع الخاص... وهو أحد أكثر المواقف ليبرالية في المنطقة»، حيث هيمنت البنوك الأجنبية، ومعدلات ضريبة الشركات الصغيرة، وإصلاحات إدارة المؤسسات المالية الدولية التي تفتت الحكومة. وقد أدى استمرار عدم المساواة، وشرعية الدولة المتدنية، والتدخل الأجنبي العلني في وقت لاحق إلى تأجيج تمرّد طالبان، ففشل السلام بشكل كامل.

أدى فشل إيجاد السلام في أفغانستان والعراق إلى مزيد من البحث عن الذات في مهمّة بناء السلام الناشئة للمؤسسات المالية الدولية.

بحلول العام 2008، ضربت الأزمة المالية العالمية، تليها أزمة منطقة اليورو، وسنوات من الركود والتضخم في الاقتصاد العالمي، والربيع العربي في العام 2010، وغيرها من العلامات المستمرة على عدم الاستقرار العالمي. وفي هذا السياق، بدأ البنك وصندوق النقد الدوليين في إعادة توجيه مشاركتهما في بناء السلام نحو نهج «إدارة المخاطر»، إذ تحاول المؤسسات المالية الدولية الحد من المخاطر التي يتعرض لها رأس المال الخاص في حالات غير مؤكدة (مثل الحرب). وشهد ذلك أيضاً مشاركة المؤسسة المالية الدولية (IFC)، ذراع إقراض القطاع الخاص في البنك الدولي، بشكل متزايد في الأماكن المتضررة من النزاعات على الرغم من تاريخها في دعم أرباح الصناعات الاستخراجية على حساب المجتمع في السياقات العنيفة والهشة. في الوقت نفسه، أشار صندوق النقد الدولي إلى تكثيف العمل في الأماكن المتضررة من الصراع، على الرغم من شكوى مسؤولي الصندوق من أن سياساته المشروطة الحالية كانت قاسية للغاية بالنسبة إلى البلدان التي تعاني من الصراع.

هذا وعد بضمان أرباح رأس المال الخاص باعتباره الهدف الإنمائي النهائي، بغض النظر عما إذا كان يواجه مطالب العدالة الاجتماعية، أو الانهيار البيئي، أو الأوبئة العالمية، أو العنف المتصاعد بسرعة

مخاطر الحرب ومكافآتها

إلى جانب أهداف التنمية المستدامة لعام 2015، طالب كل من صندوق النقد والبنك الدوليين بنجاح بأن التنمية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال دعم رأس المال الخاص، في تقريرهما من المليارات إلى تريليونات. وهذا يعني أن الدول يجب أن تضمن بيئة آمنة ومريحة وموثوقة لاستثمار رأس المال الخاص من أجل «تعظيم التمويل لأجل التنمية»، بمساعدة المؤسسات المالية الدولية، حتى في خلال الحرب. في الوقت نفسه، أصبحت مؤسسة التمويل الدولية أكثر مركزية في نهج البنك الدولي تجاه المواقف المتأثرة بالصراعات، حيث تم تكليفها بـ «خلق أسواق» للقطاع الخاص في «البيئات النامية والصراعية وغير الآمنة». بعبارة أخرى، إزالة مخاطر الحروب من أجل الربح. وصل ذلك إلى ذروته عندما بدأت مؤسسة التمويل الدولية في تلقّي الأموال من ذراع التنمية التابع للبنك الدولي، ما أثار استياء بعض موظّفي البنك الذين أعربوا عن أسفهم «لتحوّل البنك الدولي إلى مؤسسة مالية دولية»، إذ وسعت مؤسسة التمويل الدولية بحلول العام 2019 التزاماتها إلى أكثر من 23 مليار دولار أميركي للشركات الخاصة في البلدان النامية والمتأثرة بالصراعات.

عكسَ التحول نحو نهج «إدارة المخاطر» و «إزالة المخاطر» في الصراع إلى تغييرات أوسع في الفكر النيوليبرالي بعد العام 2015. وهذا يتطلّب من الدول والمؤسّسات الدولية أن تخفّف من مخاطر الاستثمار في البلدان النامية والهشّة والمتأثّرة بالصراعات لضمان أرباح رأس المال الخاص. وقد أطلق العلماء على ذلك اسم توافق آراء وول ستريت؛ شكل من أشكال النيوليبرالية لا ينصّ على الحماية القانونية والمؤسسية والدولية للسوق (مثل إجماع ما بعد واشنطن) والتحرير والخصخصة والتسويق (مثل إجماع واشنطن) فحسب، بل يصرّ أيضاً على أن الدولة والمؤسسات المالية الدولية تعمل بنشاط على التخلص من المخاطر في البلدان النامية أو المتضررة من النزاعات، لضمان الربح الخاص من خلال الشراكات بين القطاعين الخاص والعام، والتمويل المختلط، والأدوات الأخرى. وهذا وعد بضمان أرباح رأس المال الخاص باعتباره الهدف الإنمائي النهائي، بغض النظر عما إذا كان يواجه مطالب العدالة الاجتماعية، أو الانهيار البيئي، أو الأوبئة العالمية، أو العنف المتصاعد بسرعة.

مع جائحة كوفيد-19، بدأ إجماع وول ستريت في اكتساب القوة كنموذج تنموي جديد، حيث كلّفت الدول الغربية ومصارفها المركزية بحماية القطاع الخاص في ظل الانهيار الذي تسبّب فيه كوفيد-19، مع التخطيط في الوقت نفسه للانتقال الأخضر. لقد تم كسر المحرمات المتعلقة بإزالة المخاطر، وعمل البنك وصندوق النقد الدوليين على التبشير بإجماع وول ستريت في جميع أنحاء العالم النامي حسب الضرورة للحصول على تلك «التريليونات غير المستغلة» من القطاع الخاص. في الوقت نفسه، أضفى البنك الدولي أخيراً طابعاً رسمياً على نهجه في بناء السلام في العام 2020، والذي لم يسلّط الضوء فقط على الحاجة إلى التخلّص من مخاطر رأس المال الخاص في الصراع وضمان بيئات الاستثمار المثلى، بل أيضاً أضفى الشرعية على دخول المؤسّسات المالية الدولية في حرب نشطة، وليس فقط بعد الصراع.

جعل الحرب آمنة للرأسمالية؟

إن حماس المؤسّسات المالية الدولية الأخير لضمان أرباح الشركات الخاصة في الصراع يأتي على الرغم من الأدلة المهمة التي توضح كيف يعمل رأس المال الخاص غالباً على تعزيز التفاوت الاجتماعي والفقر واستخراج الموارد أثناء الحرب. في خلال الحرب في دونباس في أوكرانيا، على سبيل المثال، أزال صندوق النقد والبنك الدوليين مخاطر بيئة الصراع النشطة للمستثمرين الأجانب، وهي الحالة الأولى التي تطبّق فيها المؤسسات المالية الدولية توافق آراء وول ستريت أثناء الحرب الدائرة. لكن هذا أدّى أيضاً إلى تحفيز الفقر المدقع من خلال فواتير الغاز التي لا يمكن تحمّلها، وزيادة عدم المساواة، وزيادة عبء العمل غير المأجور للمرأة، وخلق ديون مدمرة لا يمكن سدادها، ودمرت شبكة الأمان الاجتماعي العامة التي يحتاجها الأوكرانيون بشدة.

على مدار الـ 35 عاماً الماضية، انخرط صندوق النقد والبنك الدوليين بشكل متزايد في سياقات ما بعد الصراع، وحالياً في صراع نشط. في خلال هذا الوقت، تغيّر شكل جدول الأعمال النيوليبرالي الذي طبقوه على الحرب والسلام. واليوم، عمل إجماع وول ستريت على تعزيز الكثير من مبادئ النيوليبرالية السابقة للتنمية، مثل توافق واشنطن وما بعد واشنطن، الذي يمنح الآن الأولوية للأعمال التجارية الخاصة باعتبارها الوحدة الاجتماعية الأساسية التي يجب حمايتها، حتى أثناء الصراع المدمّر. ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أن عمل المؤسسات المالية الدولية في الصراع لم يساعد الأشخاص المتضرّرين من النزاع بشكل كافٍ، ولم تحقّق نهجها بالسلام المستدام.

إن حماس المؤسّسات المالية الدولية الأخير لضمان أرباح الشركات الخاصة في الصراع يأتي على الرغم من الأدلة المهمة التي توضح كيف يعمل رأس المال الخاص غالباً على تعزيز التفاوت الاجتماعي والفقر واستخراج الموارد أثناء الحرب

وأخيراً، تدل الحروب الأخيرة على أن البنك الدولي وصندوق النقد الدوليين غير قادرين، من الناحية السياسية، على العمل كوسطاء نزيهين في السلام. بعد غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022، حشد البنك الدولي 41 مليار دولار أميركي، وقدم صندوق النقد الدولي 15 مليار دولار أميركي لدعم أوكرانيا، بينما أدان بشدّة الغزو الروسي. هذه المبالغ خيالية على الرغم من أنها لا تزال تعاني من مشاكل مماثلة كما ذكرنا آنفاً. ومع ذلك، بعد شهور من الهجوم الإسرائيلي الوحشي على الفلسطينيين في قطاع غزة في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي تشكّل إبادة جماعية، وشملت ارتكاب جرائم حرب خطيرة، وتسبّبت في عنف مروع للمدنيين، كان الرد الرسمي من جانب المؤسسات المالية الدولية هو الصمت. ولم يعرض صندوق النقد الدولي أي تمويل، وأصدر بياناً ضعيفاً. في حين أن البنك الدولي حشد بالكاد 60 مليون دولار أميركي لإغاثة غزة، إلا أنه تجنب بشدة إلقاءٍ اللوم على إسرائيل في المذبحة والدمار. هذا على الرغم من أن كلا المؤسستين الدوليتين لديهما تاريخ طويل من المشاركة في فلسطين.

إذا كان تاريخ برامج البنك وصندوق النقد الدوليين في البلدان المتضرّرة من الصراع يميل إلى تحفيز المزيد من عدم المساواة والفقر والعنف، فإن عدم امتلاكهما الوسائل السياسية والشجاعة الكافية لفعل أي شيء بشأن الحرب الأكثر عنفاً في القرن الحادي والعشرين في فلسطين، يعني أنهما شريكان غير مناسبين في أوقات الحرب أو السلام.

نُشِر هذا المقال في A People's History of the IMF-World Bank كمصد مفتوح، وتُرجم إلى العربية وأعيد نشره في موقع «صفر».

  • 1البنك الدولي معترف به صراحة، وهو بنك إنمائي. في حين أن صندوق النقد الدولي يضع نفسه عادة على أنه «وصي» على النظام المالي العالمي، ويعالج في الوقت نفسه الأسس الاقتصادية الكلية لاقتصاد البلد المستفيد، ولا يُنظَر إليه دائماً على أنه بالمستوى نفسه للبنك في مجال التنمية. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن هذه الأهداف التي وضعها صندوق النقد الدولي لها آثار إنمائية، وكثيراً ما يدّعي الصندوق أن عمله يهدف إلى دعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
  • 2كانت فكرة السلام الليبرالي، التي حرّكت بناء السلام في هذا الوقت، عبارة عن ارتباط مُفترض بين الليبرالية الفلسفية، التي تتجلّى في مؤسسات الديمقراطية (الحكم التمثيلي)، وحقوق الإنسان (حرية الدين والصحافة والتعبير وما إلى ذلك)، واقتصاد السوق الحرة (بما في ذلك حقوق الملكية الخاصة والتجارة الحرة)، وغياب الحرب.