معاينة العالم اليوم أكثر عنفاً منذ الحرب العالمية الثانية

العالم اليوم أكثر عنفاً منذ الحرب العالمية الثانية

كانت السنوات الأربع الماضية الأكثر عنفاً في العالم منذ نهاية الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات في القرن الماضي. ووفق تقرير «اتجاهات الصراع: نظرة عامة عالمية»، الصادر عن معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO)، يزداد اللجوء إلى العنف المسلّح في الصراعات المختلفة بوتيرة لم يشهدها العالم  منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وسجّلت سنة 2024 رقماً قياسياً جديداً في عدد من الصراعات المسلحة بين الدول هو الأعلى منذ أكثر من 7 عقود. وسجّلت أيضاً نحو 61 صراعاً مسلحاً في 36 دولة، وهذا ما دفع مديرة الأبحاث في المعهد والمؤلفة الرئيسية للتقرير، سيري آس روستاد، للتحذير من أن «هذا ليس مجرد ارتفاع حاد في الصراعات المسلحة داخل البلدان وفيما بينها، بل هو تحول هيكلي. فالعالم اليوم أكثر عنفاً وتشرذماً بكثير مما كان عليه قبل عقد من الزمن».

شهد العالم نحو 185 صراعاً مسلحاً في العام 2024، بزيادة قدرها 15% بالمقارنة مع العام 2014، وبنسبة 64% بالمقارنة مع العام 2004. وتتنوع هذه الصراعات بشكل واسع لتشمل صراعات مسلّحة بين الدول، وحروب أهلية، وحروب بالوكالة تدار من الخارج، بالإضافة إلى صراعات دينية أو قومية أو عشائرية أو صدامات بين عصابات تقوم بأنشطة غير شرعية مثل تهريب المخدرات، فضلاً عن أعمال عنف أحادية الجانب تنفذها جهات حكومية أو غير حكومية ضد المدنيين العزّل. 

هذا التقدير الكمّي لعدد الصراعات المسلّحة في العالم لا يشمل سوى الصراعات التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 25 شخصاً فيها، وهو يعتمد على برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات (UCDP)، الذي يُعد المرجع الأبرز عالمياً في توثيق العنف المنظم، وأقدم مشروع مستمر لجمع بيانات الحروب الأهلية، إذ يمتد تاريخه لأكثر من 4 عقود. أما تحليل هذه البيانات فقد أعدّه معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO)، ويشير التحليل إلى ارتفاع ملحوظ في عدد النزاعات المسلحة بكل فئاتها وأنواعها، ما يعكس عجزاً واضحاً في قدرة الأنظمة والقوانين المحلية والعالمية على ضبط مختلف أشكال العنف العسكري والأمني، وينبأ بدخولنا عصراً أكثر عنفاً وتوحشاً.

يصنّف التقرير الصراعات المسلحة حول العالم ضمن 6 مجموعات: صراعات تشارك فيها الدولة، صراعات أهلية، صراعات داخلية بمشاركة خارجية، صراعات بين دول، صراعات بين جهات غير حكومية، عنف حكومي داخلي ضد المدنيين.

العالم اليوم أكثر عنفاً منذ الحرب العالمية الثانية

صراعات مسلحة بمشاركة الدولة

شهد العقد الأخير تصاعداً مقلقاً في وتيرة الصراعات المسلحة الداخلية المرتبطة بالدولة، وهي صراعات التي تشارك فيها الدولة، وتدور حول السيطرة على الحكم أو فرض السيادة على الأراضي، وقد تكون صراعاً أهلياً او تحررياً أو مع دولة أخرى، وتختلف عن صراعات أخرى مثل حروب عصابات التهريب والمخدرات أو القتالات العشائرية. سُجّل خلال السنوات الثماني الماضية أكثر من 50 صراعاً من هذا النوع سنوياً، ليبلغ العدد ذروته في العام 2024 بنحو 61 صراعاً مسلحاً مرتبطاً بالدولة، وهو الأعلى منذ العام 1946.

في خلال تسعينيات القرن الماضي، شهد العالم تراجعاً ملحوظاً في الصراعات المرتبطة بالدولة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وتراجع الصراعات بالواسطة المرتبطة بالتنافس الأميركي السوفياتي. إلا أن منحى التصاعد بدأ من جديد في فترة الحرب ضد تنظيم داعش وتدخل مختلف الدول فيها وتقليص نشاط التنظيم وحصره في 12 دولة في عامي 2023 و2024.

الحروب الأهلية

تُعدّ الحروب الأهلية الفئة الأبرز من الصراعات المرتبطة بالدولة، وتعتبر أكثر الأشكال شيوعاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفقاً للبيانات المتاحة لدى UCDP، لم يكن عدد الصراعات المرتبطة بالدولة يتجاوز 20 نزاعاً قبل 70 عاماً. أما اليوم، فهناك 57 حرباً أهلية وتمثل أكثر من 90% من مجمل النزاعات المرتبطة بالدولة البالغ عددها 61.

في خلال السنوات الأربع الأخيرة، كانت الحرب الأهلية بين حكومة إثيوبيا وجبهة تحرير شعب تيغراي الأكثر دموية بين جميع النزاعات الأهلية، إذ أسفرت عن مقتل أكثر من 288,000 شخص في عامي 2021 و2022، ويشكّل هؤلاء نحو 39% من قتلى النزاعات المسلحة في السنوات الأربع الأخيرة (2021-2024). 

يدرج معهد أبحاث السلام في أوسلو  الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة ضمن هذه المجموعة، وتقُدّر عدد ضحاياها بنحو 50,000 قتيل في عامي 2023 و2024، وهذا تصنيف خاطئ أو غير مقبول، فالحرب على غزّة هي عنف أحادي من جانب إسرائيل ضد المدنيين، أمّا مقاومة الفلسطينيون فهي للدفاع عن النفس وتحرير الأرض والشعب من دولة استعمارية. 

تشمل قائمة الحروب الأهلية الصراع العنيف في السودان بين الفصائل المتنافسة في الحكومة العسكرية، متسبباً في مقتل أكثر من 5,000 شخص في العام الماضي، ومؤدياً إلى أكبر أزمة إنسانية حالية في أفريقيا والعالم.

التدخلات الخارجية في الصراعات الأهلية

يعتبر  معهد أبحاث السلام في أوسلو أن الحرب الأهلية  تصبح «مدوّلة» إذا شاركت فيها حكومات أجنبية من خلال إرسال قوات قتالية أو تقديم دعم عسكري مباشر لأحد الجانبين، كما هو الحال في الحرب الأهلية في سوريا أو ليبيا التي اندلعت بعد الربيع العربي. مع العلم أن العقد الماضي شهد تزايداً في عدد الصراعات من هذا النوع.

من بين 61 نزاعاً مرتبطاً بالدولة في العام 2024، كانت 19 منها  مدوّلة (أي ما يعادل 31%). وللمقارنة، بلغت النسبة نحو الربع في 2009، والسُبع في 1993،  أي الفترة اللاحقة لسقوط الاتحاد السوفياتي، بل حتى في عز قوة الاتحاد السوفياتي لم تكن النسبة أعلى من المعدل منذ 2015. والجدير بالذكر أنه منذ العام 2015، كانت الصراعات الأهلية المدوّلة مسؤولة عن عدد أكبر من القتلى سنوياً مقارنةً بالنزاعات الأهلية الداخلية الخالية من التدخل الخارجي. 

النزاعات بين الدول

صحيح أن النزاعات الأهلية كانت أكثر أنواع النزاعات شيوعاً في خلال العقود الماضية، إلا أن العام 2024 شهد ارتفاعاً في عدد النزاعات بين الدول، فقد تم تسجيل 4 حالات، وهو أعلى عدد يُسجل منذ العام 1983. وتشمل هذه النزاعات: روسيا وأوكرانيا، إيران والاحتلال الإسرائيلي، بريطانيا/الولايات المتحدة واليمن، وباكستان وأفغانستان. وعلى الرغم من أن الأعداد لا تزال محدودة، ما يصعّب تحديد ما إذا كان ذلك يمثل توجّهاً للتصعيد في المستقبل أم مجرد مصادفة، فإن هذا التطور يستدعي المراقبة عن كثب. ويُضاف إلى هذا النمط المقلق التصعيد الأخير في كشمير بين الهند وباكستان.

من الجدير بالذكر أن أحد هذه النزاعات، وهو الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أسفر عن مقتل نحو 250 ألف شخص بين عامي 2022 و2024، وهو ما يمثل أكثر من ثلث إجمالي ضحايا النزاعات في السنوات الممتدة من 2021 إلى 2024.

الصراعات بين جهات غير حكومية

يُرتكب جزء كبير من أعمال العنف اليوم بين جماعات غير حكومية.  ففي 2024، تم تسجيل 74 نزاعاً من هذا النوع، وهو انخفض بشكل طفيف عن 80 نزاعاً في العام 2023، لكنه يُمثل زيادة بنسبة 61% مقارنة بالعام 2014، وارتفاعاً بنسبة 124% مقارنة بالعام 2004. ومع ذلك، تسببت هذه الصراعات بسقوط أكثر من 17,500 قتيل بالمعارك في العام 2024، أي نحو 14% من إجمالي الوفيات الناتجة عن النزاعات المرتبطة بالدول.

سجّلت أفريقيا في العام 2024 أعلى عدد من النزاعات غير الحكومية، بواقع 37 نزاعاً. تلتها منطقة الأميركيتين على الرغم من أن عدد النزاعات هناك انخفض من 41 في العام 2023 إلى 29 في العام 2024.  وعلى الرغم من أن أفريقيا والأميركيتين تشهدان عدداً كبيراً من النزاعات غير المرتبطة بالدولة، إلا أن طبيعة الجهات الفاعلة تختلف بينهما. ففي الأميركيتين، غالباً ما تشمل هذه النزاعات جهات شديدة التنظيم وعصابات المخدرات، في حين أن النزاعات المجتمعية هي الأكثر شيوعاً في أفريقيا. 

العنف أحادي الجانب

بشكل عام، ارتفع عدد الوفيات الناتجة عن العنف أحادي الجانب من 10,700 في العام 2023 إلى 14,000 في العام 2024. ويُقصد بالعنف أحادي الجانب الاستخدام المتعمد للقوة المسلحة من قبل حكومة دولة أو جماعة منظمة رسمياً ضد المدنيين، والذي يؤدي إلى مقتل ما لا يقل عن 25 شخصاً في خلال عام واحد.

وفي العام 2024، تم تسجيل 49 جهة ارتكبت هذا النوع من العنف، منها 14 جهة حكومية و35 جهة غير حكومية. ومنذ العقد الأول من الألفية الثانية، ازداد عدد الأطراف التي ترتكب أعمال عنف أحادية الجانب بشكل مستمر، وظل فوق 40 جهة منذ العام 2019.

تعاني أفريقيا من أكبر عدد من هذه الأطراف الحكومية وغير الحكومية وبلغ العدد 27 جهة، وبالمقارنة، يوجد في الأميركيتين 13 جماعة، وفي آسيا 6، وفي الشرق الأوسط جماعة واحدة فقط، بينما لم تُسجل أي جماعة في أوروبا.