النضال من أجل مستقبل إنساني على التخوم الجديدة للسلطة
عصر رأسمالية المراقبة
- مراجعة لكتاب «عصر رأسمالية المراقبة: النضال من أجل مستقبل إنساني على التخوم الجديدة للسلطة» لشوشانا زوبوف، التي تقدّم تفسيراً شاملاً لشكل جديد من القمع الاقتصادي تغلغل في حياتنا، مُتحدية الضجيج المُثار بشأن أنشطة شركات التكنولوجيا الحديثة. وفي حين يقدّم الكتاب تأريخاً ملائماً لصعود رأسمالية المراقبة، إلّا أن المقاربة المطروحة قد تؤدّي إلى شلل بدلاً من تحفيز الممارسة العملية في صياغة فعل جماعي لمجابهة المراقبة المنهجية للشركات.
صدر كتاب «عصر رأسمالية المراقبة» لشوشانا زوبوف في مطلع هذا العام مُنذراً بشكل جديد من القمع الاقتصادي يتغلغل في حياتنا. وضعت زوبوف - وهي أستاذة فخرية في كلّية هارفارد ومعروفة بأبحاثها عن تكنولوجيا المعلومات في مكان العمل - مهمّة كبيرة على عاتقها، وهي تطوير مجموعة من المصطلحات المحيطة بالضجيج الهائل المُثار حول شركات التكنولوجيا الحديثة. لكن في النهاية، أُصبت بالإحباط من مقاربتها. مع ذلك، اعتمدت زوبوف على إطار معقّد يجب أن أفسّره أولاً قبل الخوض في المزيد.
في البدء، تعبُر بنا زوبوف عبر التاريخ الحديث لشركات التكنولوجيا الأميركية - فقّاعة الدوت كوم التي أصابت الصناعة بالصدمة؛ نجاح شركة آبل وبيع أجهزتها الإلكترونية وفق خيار المستهلك؛ البيئة الملائمة للمراقبة الذي خلقته وكالة الأمن القومي الأميركية؛ واستثمارات وكالة الاستخبارات الأميركية في «الحرب على الإرهاب». تجادل زوبوف بأن كلّ هذه العوامل أبعدتنا عن مكان عمل المعلومات المتساوي والحلم التحرري لحدود الفضاء السيبراني على حدّ سواء. وبدلاً من ذلك، أنشئ مؤسّسو الشركات الناشئة، مثل مارك زوكربيرغ ولاري بايج، رأسمالية المراقبة تحت ضغط أصحاب رؤوس الأموال المغامرين المتحمّسين.
على عكس الرأسمالية الصناعية التي تجني أرباحها من استغلال الموارد الطبيعية والعمالة، تستفيد رأسمالية المراقبة من الاستحواذ على البيانات السلوكية وتقديمها وتحليلها بواسطة أساليب «أدواتية» صُمِّمت خصيصاً من أجل تنمية نوع من «اللامبالاة الجذرية، وهي أحد أشكال المراقبة من دون شاهدعلى عكس الرأسمالية الصناعية التي تجني أرباحها من استغلال الموارد الطبيعية والعمالة، تستفيد رأسمالية المراقبة من الاستحواذ على البيانات السلوكية وتقديمها وتحليلها بواسطة أساليب «أدواتية» صُمِّمت خصيصاً من أجل تنمية نوع من «اللامبالاة الجذرية… وهي أحد أشكال المراقبة من دون شاهد (379)». وجد رأسماليو المراقبة مخزوناً غير مُستغَل من المعلومات التي كانت تجمعها خدماتهم من أجل التحليل الداخلي والبرمجة، واعتبروها فرصة ببيعها إلى المعلنين. بالنسبة إليهم، يُعد البشر المرتبطين بتلك البيانات مجرّد أكسسوارات.
غالباً ما تقارن زوبوف في كتاباتها النزعة النفعية لرأسمالية المراقبة بالتوتاليتارية التي تصفها هنا أرنت في كتابها «أصول التوتاليتارية». ترسم زوبوف روابط بين هندسة رأسماليي المراقبة للفضاء السيبراني، وتحليل هنا أرنت للإمبريالية البريطانية كرائدة التوتاليتارية. وفي النهاية، تنكر تكافؤهما، لأن التوتاليتارية تنشأ ضمن دولة فيما تنشأ النفعية في الشركات. (لست متأكّداً من سهولة الفصل بينهما مع استمرار الشراكات بين القطاعين العام والخاص). وبالنتيجة، فإن زوبوف مهتمّة بالمراقبة التي تقوم بها الشركات وليس الحكومات. ويصل نقدها لمراقبة الشركات إلى مدى تحوّل هذه الأخيرة إلى مؤسّسات شبيهة بالدولة الاستبدادية والسلطوية.
ترى زوبوف أن البُنَى الاقتصادية الناتجة عن هذه الممارسات غير مسبوقة. إنها رأسمالية مارقة. في حين كانت الشركات في السابق تعتمد على الخطيئة الأولى، أي التراكم البدائي، تعتمد شركات المراقبة مثل فايسبوك وغوغل على عملية مستمرة من «التجريد الرقمي»، (مصطلح اقتبسته زوبوف من ديفيد هارفي وتوسّعت فيه). وباستمرار يقدّم كلّ منا على أنه هدف مفهومة سلوكياً ومربح. تخشى زوبوف من أن تسخير شركات المراقبة الإرادة البشرية الحرّة كوسيلة لتحقيق أهدافها، يتخطّى المراقبة الحكومية المُصمّمة لقمع الإرادة الحرّة. لا تبالي تلك الشركات بنا، ولكنها تعتمد على النتائج المضمونة لما يمكننا تقديمه.
تصف زوبوف الدورة الكاملة لهذا الاستغلال، التي تبدأ بـ«توغل» الشركات في مجال سلوكي غير مُستغَل، وتستمرّ في «تعويد» المستخدمين على هذا التوغل، وتنتهي بـ«التكيّف» أو «إعادة توجيه» أي مساعي للنقد أو الإصلاح. (البيانات التي جُمِعت قسراً وأدّت إلى إنشاء Google Street View هي مثال نموذجي). لهذا الغرض تستخدم شركات المراقبة خطاب الاستثنائية من أجل إخفاء عمليّة تجريدنا. تغسل الشركات أعمالها عبر إضفاء النزعة الأخلاقية والمحاسبة من أجل تجنّب أي إصلاح جدّي. وتضع «إشعارات» في بنية الخيارات المُتاحة أمام المستخدمين، مثل الإعدادات الافتراضية الملائمة لمراقبة المستخدمين، للاستفادة من وقتهم وانتباههم المحدودين. وتستغل أيضاً مكانتها من أجل الانخراط في التجارب البشرية والتأثير السياسي، من دون الالتزام بالمعايير الأخلاقية للبحث والمُتمثّلة بالحصول على موافقة المشاركين في البحث وقبولهم التعاون معها. القائمة طويلة وتطول.
في حين كانت الشركات في السابق تعتمد على الخطيئة الأولى، أي التراكم البدائي، تعتمد شركات المراقبة مثل فايسبوك وغوغل على عملية مستمرة من «التجريد الرقمي»، وباستمرار يقدّم كلّ منا على أنه هدف مفهومة سلوكياً ومربحوتجادل زوبوف بأن شركات مثل فيسبوك وغوغل قادرة على القيام بكلّ تلك الأمور لأنها احتكرت كيفية النظر إلى المستخدمين، (وهنا تقتبس زوبوف من عمل إميل دوركهايم عن تقسيم إنتاج المعرفة والتخصّص). عملها مخفي بموجب البرمجيات المُغلقة الخاصة بها؛ تستخدم اتفاقيات عدم الإفصاح والتنظيم العمودي للتعتيم على ممارساتها؛ وأيضاً تستقطب الأكاديميين من الجامعات. غالباً ما يسيطر معظم المدراء التنفيذيون في شركات المراقبة الكبرى على نسب عالية من الأسهم تمكّنهم من توجيه الشركات وفق ما يرونه. هذه الانقسامات الناجمة تصعّب على أي فرد آخر، غير رأسماليي المراقبة، إمكانية إصدار بيانات موثوقة عمّا يقومون به بالضبط.
كلّ هذا، بالنسبة لزوبوف، هو عبارة عن ترسانة مُقلقة ضدّ المشروع الجوهري الخاص بالليبرالية المعاصرة: أي الفرد. وترى أن رأسمالية المراقبة هي امتداد للبحث النفسي الذي أجراه ب.ف. سكينر: اعتبرت نظريّته عن «السلوكية» أن الناس قابلين للاختزال في سلوكيّاتهم وانفعالاتهم. استهدف سكينر تحسين التماسك الاجتماعي وكفاءة مكان العمل بغض النظر عن الإرادة الفردية. وتحدّد زوبوف الأحداث التي تجسّد تآلف رأسمالية المراقبة مع السلوكية مثل تطوير القياسات الحيوية، وأبحاث روزاليند بيكار عن الحوسبة العاطفية للمستخدمين المصابين بالتوحّد التي اختيرت لاحقاً من شركات المراقبة الناشئة. كل هذا يوضح أن رأسمالية المراقبة تعمل بلا هوادة من أجل إضعاف حقّنا المقدّس في الاستقلال الذاتي.
في حين تنتقد زوبوف السلوكية ورأسمالية المراقبة لقمعهما سيادتنا على ذواتنا، يتمثّل هدفها أيضاً في تصوّر مقاومة جماعية شجاعة ضدّ رأسمالية المراقبة. إذن، كيف تعمل الذات السيادية في عملية جماعية؟ من الصعب أن نرى كيف يمكن لعملية ديمقراطية - حيث نلتزم جميعاً بإرادة الآخرين إلى حدّ ما - أن تتجنّب الانتقادات عن الفردانية التي توجّهها زوبوف إلى رأسمالية المراقبة. لا نسمع الكثير عن ذلك من زوبوف، بجانب العديد من التناقضات الأخرى التي تضعف حجّتها. تزعم زوبوف أن رأسمالية المراقبة غير مسبوقة ولا تُقارن مع الأيديولوجيات الأخرى مثل التوتاليتارية والسلوكية، ومع ذلك، تعقد مقارنات مُتكرّرة فيما بينها. إنها ضدّ الحتمية و«القدرية»، ولكن نظريّتها عن التاريخ موجّهة بأوصاف الأيديولوجية. (يفسّر إيفجيني موروزوف مقاربتها التاريخية جيّداً في مراجعته).
منذ البداية، تصف زوبوف بعناية رأسمالية المراقبة بأنها رأسمالية، وليس فرعاً من الرأسمالية. وبهذه الصياغة، تضع رأسمالية المراقبة في موقع يظهر أن لديها أسلافاً واضحين، ويبيّن أنها غير مسبوقة إطلاقاً، وأنها امتداد موسّع للرأسمالية. وتعارض النقد الماركسي للرأسمالية بوصفها نظاماً اقتصادياً كاملاً، لأنها تعتقد أن الماركسية تستخدم الحتمية الاقتصادية التي تفضّل تجنّبها (وتضعها بجانب الحتمية التكنولوجية لرأسماليي المراقبة). ولكن، حتى لو لم تكن مناهضاً للرأسمالية، فإن هذه الاستنتاجات تحدث صدعاً في البنية النظرية لزوبوف.
تصف زوبوف بعناية رأسمالية المراقبة بأنها رأسمالية، وليس فرعاً من الرأسمالية. وبهذه الصياغة، تضع رأسمالية المراقبة في موقع يظهر أن لديها أسلافاً واضحين، ويبيّن أنها غير مسبوقة إطلاقاً، وأنها امتداد موسّع للرأسماليةعند النظر إلى الأمر، هل يختلف رأسماليو المراقبة حقاً عمّا تصفه النظرية الماركسية؟ يُعرِّف الاقتصاد الماركسي الرأسمالية من خلال قدرتها على استهلاك مجالات أوسع وأكبر من الحياة الإنسانية. كانت الشركات تتلاعب بالسلوك البشري عبر أساليب مبتكرة، مثل مدن الشركات وضرب النقابات لقرون عديدة. وقد أجبر اقتصاد الخدمات العمّال على التظاهر بالسعادة لعقود. إنّ إخفاء أولئك الرأسماليين لاستغلالهم تحت ستار وردي ليس بالأمر الجديد أيضاً. لقد كشف صحافيون استقصائيون، مثل فرانسيس كيلور وأوبتون سينكلير، عن ظروف العمل الرهيبة للرأسمالية الصناعية المخفية تحت «الإدارة العلمية» للتايلورية والفوردية. تتطرّق زوبوف إلى هذه المواضيع، ممّا يجعل اندهاشها من ممارسات رأسمالية المراقبة في غير محلّها. الرأسماليون، الذين كذبوا بشكل منهجي من أجل تحقيق الربح، موجودون في كلّ تاريخ شركات الولايات المتّحدة، وتجاهلهم هو سهو غريب.
فضلاً عن ذلك، يُعدُّ «عصر رأسمالية المراقبة» كتاباً طويلاً للغاية. مثل الأوديسة، هو مليء بالتشبيهات الملحمية بغرض تفسير النص - مثل أسماك القرش والسحرة والديدان. هذه التشبيهات ليست حاذقة، وأجد أن طولها وتكرارها لا يؤدّي إلّا إلى تشويش رسالة زوبوف العاجلة. إن التشابك المُعقّد بين السرد والمذكّرات والوصف الأكاديمي ليس مُنظماً أيضاً بشكل ملائم للقارئ. النثر المختصر كان سيحسّن «عصر رأسمالية المراقبة».
لمن يتوجّه هذا الكتاب إذاً؟ من المُغري مقارنته بعمل عظيم مثل كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» لتوماس بيكيتي، أو كتاب «أصول التوتاليتارية» لهنا أرنت التي تجذب القارئ الشغوف والأكاديمي على حدّ سواء. ولكن بالنسبة لي، لا يرقى «عصر رأسمالية المراقبة» إلى هذا المستوى. انتقدت مراجعتان لهذا الكتاب من أصل ثلاثة مراجعات نُشرت في مجلة «المراقبة والمجتمع»، تمثيلها للبنى القانونية، وتمركزها في بلدان الشمال، ولكنّهما وجدتاه مرجعاً مفيداً. أرى العديد من القرّاء مهتمين بالتحليل الليبرالي لهذا الشكل الجديد من الاستغلال، أو غالباً غير متآلفين مع المراقبة الحديثة باعتبارهم المستفيدين الأكبر من «عصر رأسمالية المراقبة». بالنسبة إلى الأكاديميين، قد يكون الكتاب وسيلة مناسبة للإشارة إلى مسألة المراقبة الاجتماعية، ولكنّه بالطبع ليس مصدراً تأسيسياً لها. كما تلاحظ كيرستي بول في المراجعة الثالثة لهذا الكتاب المنشورة في «المراقبة والمجتمع»: «لم يُكتب هذا الكتاب من أجلنا. إنه دعوة تحذيرية للقارئ المثقّف المهتمّ بالشركات للتعرّف إلى القوّة الهائلة لمنصّات التكنولوجيا». مع أخذ كلّ ما سبق في الاعتبار، يصبح تأطير زوبوف لرأسمالية المراقبة على أنها رأسمالية مارقة منطقياً. يمثّل الكتاب دليلاً على العُقَد التي يجب أن يربط الكاتب نفسه بها من أجل إقناع الرأسماليين بنقد رأس المال.
أمّا بالنسبة إلى الهدف الأكبر المتمثّل بالتخلّص من رأسمالية المراقبة، ففي حين تصف زوبوف أهوالها بدقّة، تفتقر كتابتها إلى وصف مقنع للعمل الجماعي والتنظيم المطلوب لمواجهتها. برز مؤخراً العديد من الدروس الواعدة، مثل إضراب العمّال في غوغل الذي أوقف التعاون مع الجيش الأميركي، أو القرار المحلّي في سان فرانسيسكو الذي حظر استخدام برمجيات التعرّف إلى الوجه. باستثناء كتابة قسم قصير عن المشاريع الفنية التي تحجب البيانات وقضية قانونية أخرى في إسبانيا، فإن هذه الدروس غير ورادة في «عصر رأسمالية المراقبة».
أخشى أن تكون مراجعتي لهذا الكتاب قاسية. لقد بدأت بقراءة «عصر رأسمالية المراقبة» بحماس حقاً؛ واستمعت إلى محاضرة ألقتها شوشانا زوبوف في MyDay Rooms في لندن في خلال هذا العام، وهي مُحاضِرة جذابة وتفاعلية. ولكن عندما قراءت الكتاب صُعقت من كيفية ترجمت بحثها على الورق. ومنعاً للالتباس، إن أخطار رأسمالية المراقبة حقيقية ومتماسكة، وأنا سعيد بالاهتمام الذي أولاه «عصر رأسمالية المراقبة» بالمراقبة المنهجية التي تمارسها الشركات. ولكن مع كتب تحذيرية مماثلة، يبرز خطّ رفيع بين التطبيق العملي والشلل، (كما رأينا في النقاشات عن كيفية تغطية أزمة المناخ). أخشى أن يخدم «عصر رأسمالية المراقبة» الخيار الأخير (الشلل) بالنسبة لكثيرين. يحتوي الكتاب على تأريخ زاخر، ولكنه يمثّل دعوة سيّئة للمواجهة.
نُشِرت هذه المراجعة في مدوّنة كلّية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية تحت رخصة المشاع الإبداعي.