Preview البطاركة

تاريخ اضطهاد المرأة: من مجتمع المساواة إلى الاستعمار

  • مراجعة لكتاب «البطاركة: كيف وصل الرجال إلى الحُكم»، تنطلق من نشوء الدولة بوصفها اللحظة التي بدأ فيها تراجع دور النساء لصالح بروز السلطة الذكورية، واستبدال مجتمع المساواة بمجتمعٍ طبقي ينطوي على انقسامات عنصرية وجندرية. ولكنّه لا يجيب عن كيفية وصول الرجال إلى الحكم والكيفية التي يمكن بها تحرير المرأة.

من غير المستغرب أن يحظى كتاب أنجيلا سايني الجديد بمراجعات إيجابية غزيرة من الأشخاص الذين يريدون تحدّي التمييز الجندري، ويدركون التأثير العالمي المدمّر للاستعمار. حجّة سايني المركزية هي أننا نتاج تاريخنا وليس بيولوجيتنا، وبالتالي فإن النظام البطريركي - هيمنة الذكور - ليس حتمياً. وكما تقول في خاتمة كتابها: «لقد ابتكرنا هذا النظام، ابتكرناه كلّه تقريباً، وبإمكاننا أن نبتكر شيئاً آخر. لا توجد حدود طبيعية لكيفية صنع المستقبل غير خيالنا وشجاعتنا». وهي تهدف إلى إظهار أنه حيث ظهرت «السلطة الأبوية» كانت هناك دائماً «مقاومة وتسوية». وتعتقد أنه لم تكن هناك نقاط تحوّل حاسمة أدّت إلى «الهزيمة التاريخية للمرأة». ولكن بدلاً من ذلك، جاء التغيير تدريجياً: «التغيّرات التي نراها عبر الزمن تدريجية ومتقطّعة، تسرق حياة الناس عبر الأجيال حتى لا يمكنهم تخيّل أنفسهم بأي طريقةٍ أخرى. ففي نهاية المطاف، هكذا يعمل التحوّل الاجتماعي عادة: من خلال تطبيع ما كان لا يمكن تصوّره من قبل».

التغيّرات التي نراها عبر الزمن تدريجية ومتقطّعة، تسرق حياة الناس عبر الأجيال حتى لا يمكنهم تخيّل أنفسهم بأي طريقةٍ أخرى. ففي نهاية المطاف، هكذا يعمل التحوّل الاجتماعي عادة: من خلال تطبيع ما كان لا يمكن تصوّره من قبل

وسايني مُحقّة في أن المقاومة والتغيير غالباً ما يكونان بطيئين وتدريجيين. ومع ذلك، فإن تأثير الاستعمار، وهو الأمر الذي تعالجه، يعني أن التغييرات كانت في كثير من الأحيان مفاجئة وعنيفة. في الواقع، عادة ما تواجه المقاومة من الأسفل معارضة عنيفة.

استكشاف مجتمعات المساواة الأمومية

في البداية، تعطي سايني العديد من الأمثلة على المجتمعات الأمومية وتقدم خريطة للعالم حيث لا تزال هذه المجتمعات موجودة أو وجِدت حتى وقت القريب نسبياً. تصف مجتمعات النيرس في ولاية كيرلا في جنوب الهند، وشعب الخاسي في تلال ولاية ميغالايا في شمال شرق الهند، ومجتمعات مينانغكابو في سومطرة الغربية في إندونيسيا. وتتسم المجتمعات الأمومية بملكيةٍ جماعيةٍ للأرض تمرّ عبر الأم، مما يمنح المرأة مركزاً اجتماعياً رفيعاً. فبدلاً من الأُسَر النووية، تكون العلاقات أفقية مصحوبة بالتضامن والولاء بين الأخوات والإخوة وأبناء العمومة. يتزوّج الفرد من نسبٍ، ولكنه يظل مديناً بالولاء الأساسي للنسب الذي ولد فيه. وغالباً ما تكون هذه المجتمعات أمومية، بمعنى أن الرجل ينتقل للعيش كجزءٍ من نسبِ زوجته ويعود إلى نسبهِ إذا انهار الزواج. ولا تكتشف سايني أي نمط يفسِّر سبب كون بعض المجتمعات أمومية.

ومع ذلك، اقترح كريس هارمان أن المجتمعات القائمة على أنظمة القبائل أو النسب، والتي يمكن أن تشمل كذلك مجتمعات النسب الأبوي، تتناسب مع احتياجات مجتمعات المساواة غير الطبقية. في هذه المجتمعات، تُملك الأرض بصورة مشتركة، وتتقاسم الموارد وتربية الأطفال، وتؤدّي المرأة دوراً مهماً في إنتاج الغذاء واتخاذ القرارات.كما أنها في الغالب أكثر ارتياحاً مع العلاقات الجنسية وأدوار الجنسين، كما تشير سايني. مع ذلك، عند مواجهة القوى الاستعمارية التي تسيطر أكثر فأكثر على الأرض المشاعية المشتركة، وتفترض تفوّق الذكور وتعمل بطرقٍ لا متناهية لتقويض أسلوب حياتها الجماعي، تبدأ هذه المجتمعات في الاختفاء. وتوضح سايني كيف أن بعض هذه العوامل قد قوَّضت ممارسات المساواة لدى شعوب ومجتمعات النيرس والخاسي والمينانغكابو. 

لن يكتمل أي نقاش حول مجتمعات المساواة غير الطبقية من دون ذكر تشاتال هويوك في جنوب الأناضول، بالقرب من مدينة قونية التركية الحديثة. إنه موقع أثري رائع، يضمّ مستوطنة من العصر الحجري الحديث ازدهرت بين عامي 7,500 و6,400 قبل الميلاد، ولا تظهر فيها أي تمايز من حيث الثروة. اعتقد جيمس ميلارت، أول عالم آثار اكتشف الموقع، في البداية أن هذ الموقع شكَّل جزءاً من المجتمع الأمومي لا محالة، وأصبح موقعاً للحج لأولئك الذين انطلقوا لرؤية المرأة الجالسة في تشاتال هويوك، وهي مُجسّمٌ طيني يبدو أنه يصور إلهة الأُمّ. ويفترض أن هذه الإلهة قادت المجتمع الأمومي. لكن عالم الآثار إيان هودر، مدير مشروع تشاتال هويوك الأثري، نقض هذا الرأي، وأصرَّ على أنه كان مجتمع مساواة من دون تقسيم طبقي، أو أدوار جندرية ثابتة، أو تقسيم صارم للعمل. كما جادل بأن الأطفال لم يربّوا من والديهم البيولوجيين. تستشهد سايني بوصف هودر للحياة في تشاتال هويوك القديمة: «في معظم الأوقات كانوا يعملون معاً، ويطبخون معاً، ويعملون في الحقول معاً، ويصنعون الأدوات معاً. ولا نعثر على اختلافاتٍ فئويةٍ قاطعة».

عند مواجهة القوى الاستعمارية التي تسيطر أكثر فأكثر على الأرض المشاعية المشتركة، وتفترض تفوّق الذكور وتعمل بطرقٍ لا متناهية لتقويض أسلوب حياتها الجماعي، تبدأ هذه المجتمعات في الاختفاء

لا تناقش سايني موقع تل أبو هريرة في سوريا، الذي كُتب عنه في «قرية على الفرات: من البحث عن الطعام إلى الزراعة في أبو هريرة» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2000) كلٌّ من إي.أم.تي.مور، جي.سي.هيلمان، وإي.جاي.ليجي. كان هذا الموقع مأهولاً بين عامي 13,000 إلى 8,000 قبل الميلاد، ومن ثم فهو هو يوضح الانتقال البطيء من مجتمع الصيد والجمع الذي استمر لمئات السنين، إلى البستنة ثم الزراعة الكاملة. لم تظهر في القرية أي علامات على التراتبية الاجتماعية والتقسيم الطبقي، ولكن كان هناك تقسيم واضح، وإن لم يكن مطلقاً، للعمل بين الرجل والمرأة.

على الرغم من أنها فوَّتت مناقشة «تل أبو هريرة»، إلا أن سايني تكتب عن العمل المهمّش لعالمة الآثار ماريا جيمبوتاس وتفسيرها للقطع الأثرية الثقافية وكذلك فرضياتها حول كيفية ظهور المجتمع الأبوي في أوروبا.

تدرك سايني كيف تَحْرف آراء علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار الأبحاث وتفسيرات الأدلة، وتقدّم أمثلة عدّة على ذلك. أحدها هو اكتشاف الهيكل العظمي لصياد يعود تاريخه إلى 9,000 سنة، وعثر عليه في العام 2018 في جبال الأنديز البيروفية. وبما أن هذه البقايا تعود إلى شخص كان يصطاد، فيُفترض أنها لذكرٍ، ولكن تبيّن أنها أنثى. مثال آخر هو كلمة «harimtu» التي استخدمت في بلاد ما بين النهرين، والتي كان يقصد بها عاهرة، حتى جرى الطّعن في المعنى في العام 1998 من جانب جوليا أسانتي، عالمة الآشوريات، التي لم تجد أي دليل تاريخي على وجود مشتغلات بالجنس في نصوص بلاد ما بين النهرين القديمة.

كما تعارض سايني الافتراضات التقليدية، التي غالباً ما شاركتْها النسويات في الماضي، عن أن النساء في التاريخ كُنَّ غير قادرات على ممارسة العنف بأي طريقةٍ كانت. وهي تسلط الضوء على دور الصيّادات، وتقتبس من باميلا تولر، المؤرخة أميركية المتخصّصة في التاريخ العسكري وتاريخ المرأة: «قد تفوز القبائل البدوية التي تمتطي الخيول في السهوب الأوراسية بالجائزة لكونها أقدم الثقافات (والأكثر اتساقاً) التي سمحت للنساء بالقتال إلى جانب نظرائهنّ من الذكور».

ماركس وإنغلز والهودنوسوني

في العام 1616، بدأ وصول الآباء الحجاج إلى أميركا الشمالية، «أرض الأحرار»، في عملية أدّت إلى زوال مجتمعات المساواة الأصلية التي كانت قائمة. في هذه المجتمعات، كان للمرأة مكانة متساوية مع الرجل، كما لم يكن لدى العديد من المجتمعات ثنائية صارمة بين الجنسين. وغالباً ما كانت تستند إلى الأنساب الموصوفة في بداية كتاب سايني. جلب المستعمرون معهم مجتمعا بطريركياً يقوده الرجال البيض. ومن المفارقات أن هذا قد اشتمل بالفعل على «استبدالٍ كبير» لمجتمع المساواة بمجتمعٍ طبقي ينطوي في صميمه على انقسامات عنصرية وجندرية. من الواضح أن بند إعلان الاستقلال الأميركي، «جميع الرجال يولدون أحراراً ومتساوين»، مع استبعاد النساء والعبيد السود.

كما تشير سايني، كانت سينيكا فولز في ولاية نيويورك موقعاً لأول اتفاقية لحقوق المرأة في العام 1848، حيث جمعت «نساء من المسيحيات البيض من الطبقة الوسطى المترابطات جيّداً إلى حدّ ما» في معركة التصويت وتحديد مكان اجتماع سابق لنساء الهودنوسوني (المعروفات سابقاً باسم الإيروكواس).

جلب المستعمرون معهم مجتمعا بطريركياً يقوده الرجال البيض. ومن المفارقات أن هذا قد اشتمل بالفعل على «استبدالٍ كبير» لمجتمع المساواة بمجتمعٍ طبقي ينطوي في صميمه على انقسامات عنصرية وجندرية

في العام 1590، اجتمعت نساء من شعوب سينيكا وموهوك وأونيدا وأونونداغا وكايوغا بهدف الدعوة إلى السلام مع احتدام الحرب بين شعوبهم. لم تكن هؤلاء النساء الهودنوسونية مجرد ناشطات عاجزات ينتقدن سلطة الذكور. بعيداً من ذلك. لقد كُن ينتمين إلى مجتمعات يمارسن فيها بالفعل سيطرة كبيرة، كما كان الحال على مدى أجيال، وكن في مسار توطيد دعائمها بشكل أكبر. وبحلول القرن السابع عشر، ستؤمّن النساء حق الفيتو على أي حروب مستقبلية.

وهناك مفارقة أخرى، لم تذكرها سايني، تتعلق بلويس ه‍. مورغان، مؤلف كتاب المجتمع القديم. أخذ كارل ماركس ملاحظات كثيرة من هذا الكتاب الذي كُتب في العام 1877، وأوحى كذلك إلى فريدريك إنغلز بتأليف كتابه الاشتراكي الكلاسيكي أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. تم تبني مورغان في قبيلة هوك التابعة لشعب سينيكا كابن لسوس هيو وا (المعروف أيضاً باسم جيمي جونسون) في تشرين الأول/أكتوبر 1847 بالنظر إلى دعمه لمطالب محمية توناواندا سينيكا ضد شركة أوغدن لاند. ومع ذلك، ترفض سايني حجج ماركس وإنغلز ومورغان. متحدثة عن ماركس، كتبت أنه على الرغم من أنه «حلم بالقضاء على عدم المساواة الطبقية من خلال الشيوعية»، إلا أنه «لم يستطع الهروب من الشك في أن عدم المساواة الجندرية كان استثناء لأشكال أخرى من الاضطهاد، مستنداً إلى الاختلاف البيولوجي وليس إلى التاريخ». تكتب عن مورغان، «لم يكن مجتمع أميركا الشمالية المتمركز حول الإناث متفوقاً من وجهة نظره. لقد كان الأمر أكثر بساطة». وصوبت نيرانها إلى إنغلز، وكتبت أنه «لم يدافع عن المعيشة الحالية للشعوب الأصلية أكثر مما فعل مورغان، لأنه اعتبرها بدائية وتنتمي إلى الماضي». ولا توجد مساحة كافية في المراجعة الحالية للتعامل على نحوٍ سليم مع هذه الحجج. بل يكفي القول إن سايني تبدو وكأنها أساءت فهم الحكم الذي أصدره مورغان وقبله إنغلز بأن الأدوات التي استخدمها الهودينوسوني لتأمين وجودهم كصيّادين وعلافين لم تكن متطورة كتلك التي استخدمها المجتمع الرأسمالي، بقطاراته ومصانعه وآلاته التي تعمل بالبخار. إن الإعتراف بهذا ليس حكماً أخلاقياً على الأميركيين الأصليين. وبدلاً من ذلك، كانت رؤية مورغان الأساسية تتعلق بالطبيعة الأفقية للعلاقات في مجتمعات القرابة تلك.

يتمثل خلاف سايني الرئيسي مع مورغان وإنغلز في أنهما كانا يحاولان «الخروج بقصةٍ واحدة متماسكة قد تفسر التطور البشري باعتباره تقدماً من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي». وقد اتهمتهما سايني بأنهما ينظران إلى الهودينوسوني على أنهم «هياكل عظمية حية» بدلاً من «مجتمع معاصر حي من شعوب تصادف أنهم طوروا أدواراً للنساء أفضل، من بعض النواحي، من المجتمعات الأخرى». في الواقع، يمكن طرح الحجة نفسها حول جميع علماء الأنثروبولوجيا الذين يدرسون المجتمعات البشرية بخلاف مجتمعاتهم بهدف فهم كيفية عملها. إن تمييز إنغلز ومورغان بهذه الطريقة هو نتيجة، كما أعتقد، لعداء سايني لمشروعهما الأساسي: النظر إلى الأساس المادي لمختلف المجتمعات من أجل فهم طبيعة مؤسسات مثل الأسرة (وفي حالة إنغلز، الدولة) والكيفية التي تتغير بها. على أي حال، فضلاً عن كونه زعيماً للحركة الثورية، كان إنغلز معادياً ملتزماً للاستعمار، ومناهضاً للعبودية ومؤمناً بتحرير المرأة.

تعترض سايني على نظرية إنغلز حول «الهزيمة التاريخية العالمية للمرأة» ودور تطوير الزراعة في تمهيد الطريق لقمع المرأة. بدلاً من ذلك، تجادل، «اللحظة التي يمكننا فيها أن نبدأ حقاً في رصد التحوّل في العلاقات بين الجنسين وأول براعم السلطة الذكورية المهيمنة تتزامن مع نشوء الدول». وهي تربط هذا بـ «حاجة هذه الدول إلى زيادة عدد السكان»: «إن الحفاظ على النمو السكاني كان يخدم على أفضل وجه من خلال تهيئة الظروف التي يتسنى فيها لأكبر عدد ممكن من النساء أن ينجبن أكبر عدد ممكن من الأطفال، ويقمن على تربية هؤلاء الأطفال ليكونوا مفيدين للدولة في المستقبل كمربّين وعمّال ومحاربين». لم تشرح سايني كيف تنشأ الدول، ولم تعرض أي رؤية للعلاقة بين تطور الزراعة الكاملة ونشوء الطبقات الاجتماعية والحاجة إلى الدولة.

إن الحفاظ على النمو السكاني كان يخدم على أفضل وجه من خلال تهيئة الظروف التي يتسنى فيها لأكبر عدد ممكن من النساء أن ينجبن أكبر عدد ممكن من الأطفال، ويقمن على تربية هؤلاء الأطفال ليكونوا مفيدين للدولة في المستقبل كمربّين وعمّال ومحاربين

وفقاً لإنغلز، خلقت الزراعة الأساس لإنتاج فائض اجتماعي أكثر مما كان مطلوباً للكفاف. وكان هذا ضرورياً لتطوير تقسيم أكثر تعقيداً للعمل، مع أقسام من السكان المكرسة لمهام أخرى غير زراعة الغذاء. في المقابل، في ظل ظروف معينة، خلق هذا الأساس لتقسيم السكان إلى طبقات مختلفة. وبمجرد تقسيم المجتمع إلى طبقات، تطورت الدولة من أجل حماية سيطرة طبقة الأقلية على الفوائض الاجتماعية، سواء من التهديدات الخارجية أو من الأعداء الداخليين الذين قد يقاومون وضعهم التابع الجديد. إن صعود المجتمع الطبقي ينطوي على عملية بطيئة تتوقّف فيها المرأة عن تأدية دور رئيسي في إنتاج الفائض، مما يقوّض هياكل المساواة في طريقة المعيشة القديمة. ويؤدّي هذا إلى إخضاع النساء ومعظم الرجال للطبقة الحاكمة الجديدة، مما يسفر عن نشوء شكلٍ جديد من أشكال الأسرة لضمان استمرار الحكم الطبقي. وبمجرد حدوث ذلك، لن يكون هناك عودة إلى الوراء، لأنه لم تعد هناك مساحة وبيئة ومهارات عند غالبية سكان المدن للارتداد إلى البستنة التي تعتمد على الصيد والجمع أو «القطع والحرق». ولذلك، فإن هذه العملية تعني «الهزيمة التاريخية» للمرأة. وقد حدث هذا في العديد من الأماكن في العالم وفي أوقات مختلفة، كما يوضح هارمان:

عدد قليل جدّاً من المجتمعات الزراعية تطوّرت إلى مجتمعات طبقية كاملة نتيجة لتطورها الداخلي. بدأ هذا يحدث في بلاد ما بين النهرين منذ حوالي 6,000 سنة؛ في مصر وإيران ووادي السند والصين بعد عدة مئات من السنين؛ وعلى النيل الأوسط (فيما يعرف الآن بالسودان) وشرق البحر الأبيض المتوسط بعد ذلك بألف سنة؛ وفي أميركا الوسطى ومنطقة الأنديز والمرتفعات الإثيوبية وغرب وجنوب شرق أفريقيا بين 2,500 و1,000 سنة مضت. وفي جميع هذه الحالات، نشأت داخلياً الضغوط الرئيسية الحافزة لتطوير نظام اجتماعي جديد. وفي معظم أنحاء العالم الأخرى، كانت الضغوط الخارجية ضرورية. استمرت المجتمعات القديمة، البستانية أو الزراعية البحتة في البقاء، حتى أدّت التجارة الخارجية أو الهزيمة العسكرية أو الاستعمار إلى التغيير. كان هذا صحيحاً، على سبيل المثال، في شمال أوروبا حتى ما بين 2,500 و1,000 سنة مضت، وفي مرتفعات غينيا الجديدة حتى أوائل الثلاثينيات.

يرى إنغلز وماركس أنه لا يمكن إعادة تطبيق أنظمة المساواة الاجتماعية إلا إذا كانت قائمة على السيطرة الجماعية على أشكال الإنتاج الجديدة التي أدخلتها الرأسمالية، والتي هي منتجة بما يكفي لتكون قادرة على تلبية احتياجات الجميع. 

خاتمة

تصف سايني العديد من الأشكال المختلفة التي يتخذها اضطهاد المرأة، وتشير إلى أن بعض النساء يؤدّين دوراً في فرض هذه الهياكل الاجتماعية القمعية. ومع ذلك، فإن الضعف الصارخ في روايتها هو فشلها في النظر تحت السطح إلى الأساس المادي للمجتمعات البشرية لفهم علاقات القهر والتبعية بين الناس. أصرّ ماركس وإنغلز على أن التركيز على كيفية إنتاج البشر لحياتهم يجب أن يكون نقطة الانطلاق لفهم العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك وجود أو عدم وجود الطبقات والدول، وكذلك الشكل الذي تتخذه الأسرة والدين والثقافة. وهكذا، فحيثما تساهم المرأة والرجل على قدم المساواة في الغذاء والمأوى في مجتمعات الصيد والجمع وفي مجتمعات البستنة، عادة ما تسود علاقات المساواة. ومع ذلك، فإن التغيرات في طرق الإنتاج تتفاعل مع هؤلاء المنتجين وعلاقاتهم بعضهم ببعض. وقد تكون هذه التغيرات بطيئة للغاية، وقد تستغرق في بعض الأحيان آلاف السنين، ويمكن أن تنجم عن التغيرات المناخية والبيئية، وقد يكون لها عواقب غير مقصودة. ومع ذلك، فهي الأساس لفهم ظهور الأشكال المختلفة للطبقة والاضطهاد.

لا يكفي مجرد الرغبة في التغيير، أو حتى التحلي بالشجاعة. بدلاً من ذلك، نحتاج إلى خرائط طريق تشرح كيف يمكن للصراع الطبقي أن ينتشر ويتشكّل من خلال نضالات المضطهدين، وكيف يمكننا أن نتغلب على سلطة الدولة، التي تضعنا جميعاً تحت السيطرة

يظهر هذا الضعف عندما تنظر سايني إلى وضع المرأة في روسيا السوفيتية بين عامي 1928 و1989 وفي دول أوروبا الشرقية بين عامي 1945 و1989. فهي تفتقر إلى الأدوات التحليلية اللازمة لمعرفة كيف اعتمدت هذه الدول، وإن كان ذلك باسم الاشتراكية وفي البداية مع خطاب تحرير المرأة، على إعادة إنتاج قوة العمل المقسمة عبر الأسرة، وهو نظام مشابه للغاية لنظام الرأسمالية الغربية. دفعت حاجة هذه الدول إلى توفير العمالة بعد الحرب العالمية الثانية إلى توظيف النساء في التعليم العالي، وتمتعت نساء الكتلة الشرقية بالوصول إلى طيف أوسع بكثير من الوظائف بدوام كامل مقارنة بالنساء في الغرب؛ ومع ذلك، لا يزال يتوقع من هؤلاء النساء أن يقمن بأعباء الأسرة فضلاً عن القيام بعملهن المأجور.

وبالمثل، عندما يتعلق الأمر بالكتابة عن إيران، فإن سايني لديها رؤى قيّمة، ولكن تحليلها التاريخي غير كاف. لديها بعض الأشياء المثيرة للاهتمام لتقولها حول كيف يمكن لرموز معيّنة أن تقمع المرأة، مثل الحجاب، وأن تتحول إلى دلالة على معارضة الإمبريالية، ولكن تحليلها لهزيمة الثورة الإيرانية في 1978-1979 هو تحليل أحادي الجانب، ينظر فقط من خلال عدسة جنسانية. وهي تتجاهل الحركة العمالية الجماهيرية ولا تستطيع أن ترى الطريقة التي لجأ بها آية الله روح الله الخميني على مدى سنوات عدّة إلى المناورة لتحطيم المجالس العمالية التي شكلت مصدراً بديلاً للسلطة وصنع القرار في إيران. وكان على الخميني أن يهزم الحركة العمالية، فضلاً عن الحركات الاجتماعية من أجل حقوق المرأة والأقليات المضطهدة، وبالتالي تأمين استمرار الحكم الرأسمالي عبر طبقة حاكمة مختلفة التكوين. وكانت الإسلاموية هي السلاح الإيديولوجي الذي استخدمه لتحقيق هذا الهدف.

هناك الكثير من الشغف في كتاب البطاركة، لكنه فشل في الإجابة عن سؤال «كيف وصل الرجال إلى الحكم». كما أنه لا يجيب على السؤال حول الكيفية التي يمكن بها تحرير المرأة. قد يبدو التغيير في كثير من الأحيان بطيئاً، وهي النقطة التي تشير إليها سايني باستمرار في الكتاب، ولكن في بعض الأحيان تندلع الحركات الجماهيرية على مسرح التاريخ، وهو ما يفتح الاحتمالات التي كانت تبدو مستبعدة بالأمس. وفي لحظاتٍ كهذه، لا يكفي مجرد الرغبة في التغيير، أو حتى التحلي بالشجاعة. بدلاً من ذلك، نحتاج إلى خرائط طريق تشرح كيف يمكن للصراع الطبقي أن ينتشر ويتشكّل من خلال نضالات المضطهدين، وكيف يمكننا أن نتغلب على سلطة الدولة، التي تضعنا جميعاً تحت السيطرة. نحن نصنع تاريخنا، لكن ليس في ظروف من اختيارنا.

نُشِرت هذه المراجعة في International Socialism بموجب رخصة المشاع الإبداعي.