Preview ديالكتيك التبعية

ديالكتيك التبعية

  • مراجعة لكتاب «ديالكتيك التبعية» تأليف روي ماورو ماريني. يتناول الكتاب نظرية التبعية التي صاغها ماريني منطلقاً من اقتصادات أميركا اللاتينية، محاولاً نفي صفة «ما قبل رأسمالية» عنها، ومفسّراً التطوّر المتخلّف والمحدود والخاضع فيها ومصلحة الرأسماليين المحلّيين في إعادة إنتاج النظام من خلال قانون ماركس للقيمة.

أصبح الكتاب الكلاسيكي «ديالكتيك التبعية» لروي ماورو ماريني متوفراً الآن باللغة الإنكليزية للمرّة الأولى، ترجمة أماندا لاتيمر. وقد فازت ترجمة لاتيمر، والمتفرقات الإضافية التي تحويها، بجائزة بول باران وبول سويزي التذكارية. تتألّف الترجمة من مقالةٍ سياقيةٍ بقلم لاتيمر، ومقدمة وخاتمة بقلم خايمي أوسوريو، فضلاً عن نَصِّ «ديالكتيك التبعية» نفسه والحاشية الملحقة به، والذي كُتب جزئياً من أجل الردّ على نقد الرئيس البرازيلي السابق فرناندو كاردوسو. وقد كان لهذا الكتاب النحيل تأثير عميق، أسهبت مقالة لاتيمر في تبيان أسبابه المنطقية، ولماذا أثار تلك الضجّة عند نشره في أوائل السبعينيات. وتمثّل هذه الترجمة جزءاً من بعث الماركسية في أميركا اللاتينية، ترمي إلى تملك ما وُصِف ذات يوم بماركسية المنفى المرتبطة بماريني، وثيوتونيو دوس سانتوس، وفانيا بامبيرا، وبدرجةٍ أقل أندريه غوندر فرانك. شأنها شأن نشر كتابات ماريني عبر الإنترنت تحت إشراف خايمي أوسوريو.

برزت نظرية التبعية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لشرح تطوّر أميركا اللاتينية في إطار تبعيتها للاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، وخصوصاً الولايات المتّحدة. وأدّت خدمة عملية تمثّلت في إرشاد الماركسيين في أميركا اللاتينية في خلال النضالات الثورية التي شهدتها تلك المرحلة، كانبعاث الثورة الكوبية والأزمات التي عمّت المنطقة في المكسيك والبرازيل والأرجنتين وتشيلي وغيرها. ورفضت فكرة وصف اقتصادات أميركا اللاتينية بأنها اقتصادات شبه إقطاعية (كما اقترحت الأحزاب الشيوعية الرسمية مع الإشارة ضمناً إلى مرحلة رأسمالية ديمقراطية في الثورة) أو «قبل رأسمالية»(114)، وحاولت تفسير التطوّر المتخلّف والمحدود والخاضع أو الطبيعة المتخلّفة للرأسمالية ومصلحة الرأسماليين المحلّيين في إعادة إنتاج هذا النظام، من خلال إطار قانون ماركس للقيمة، الذي «لا يكون له معنى إلّا إذا بحثناه من منظور النظام ككل، سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد العالمي أساساً»(114).

تتشكّل التبعية التي تُفهم على أنها علاقة تبعية بين الأمم المستقلّة رسمياً، وفي ذلك الإطار يتم تعديل علائق إنتاج الأمم التابعة أو إعادة بنائها لضمان إعادة الإنتاج الموسّع للتبعيةلاحظ ماريني أن أميركا اللاتينية «تطوّرت في توافق وثيق مع ديناميكيات رأس المال العالمي»(116). وقد جرت علاقاتها مع المراكز الرأسمالية الأوروبية في إطار هيكل محدّد للتقسيم الدولي للعمل، بحيث «تتشكّل التبعية التي تُفهم على أنها علاقة تبعية بين الأمم المستقلّة رسمياً، وفي ذلك الإطار يتم تعديل علائق إنتاج الأمم التابعة أو إعادة بنائها لضمان إعادة الإنتاج الموسّع للتبعية» (117). هنا يكمن ضعف فرانك وإخفاقه في التمييز بشكلٍ كافٍ بين التبعية والتنمية الاستعمارية. وفَّرت أميركا اللاتينية المنتجات الزراعية والغذاء والمواد الخام اللازمة لتغذية التصنيع الأوروبية. زادت الدول الرأسمالية المتقدّمة من فائض القيمة النسبي عن طريق زيادة الإنتاجية وبالتالي خفض قيمة السلع المأجورة. ومع التكوين العضوي المرتفع لرأس المال، كان ارتفاع الإنتاجية يعتمد على زيادة المعروض من المواد الخام، و«الزيادة في القدرة الإنتاجية للعمل تعني أكثر من الارتفاع المتكافئ في استهلاك المواد الخام»(123). وبالتالي فإن تكوين قيمة رأس المال يرتفع مع انخفاض النسبة اللازمة لرأس المال المتغيّر وارتفاع قيمة رأس المال الثابت المستخدم، وبالتالي ينخفض معدّل الربح (124). وبما أن أسعار الإنتاج تعدّل القيم بحيث تتلقى تلك الشركات والدول التي يتركّز فيها رأس المال تحويلات من القيمة بدرجة أكبر من الشركات/الاقتصادات الأقل تركيزاً وأقل عضوية، وبحيث يبيع الرأسماليون المحلّيون منتجاتهم في الخارج فإنهم أقل اهتماماً بنمو السوق المحلّية. عدا أن التبادل غير المتكافئ، الذي يُعبَّر عنه بضعف معدّلات التبادل التجاري، يخلق آليّة يؤدّي التطوّر الرأسمالي من خلالها إلى التخلّف أو التبعية. وقد انخفض السعر النسبي للمنتجات الزراعية مقارنة بالسلع المصنّعة، ليس بسبب التغيّرات في الإنتاجية، حيث زادت الإنتاجية بشكل أسرع في التصنيع بدلاً من الزراعة(125)، وإنّما عبر مكافأة الإنتاجية المُتزايدة بأرباح أعلى، ونقل فائض القيمة من البلدان المُتخلّفة إلى البلدان المتقدّمة (127-128). والأمم المتضرّرة من هذا التبادل غير المتكافئ تصحّح اختلال التوازن من خلال تكثيف استغلال طبقاتها العاملة المحلّية (129). ويؤدي تراكم رأس المال إلى التخلّف أو إلى علاقة تبعية خاضعة بين الأمم. إن تصدير فائض القيمة من خلال التبادل غير المتكافئ يَحُوُل دون تحقّق الأرباح اللازمة للتراكم المحلي، ويعني أن الرأسماليين التابعين يسعون إلى التعويض عن نقص الأرباح من خلال تقليص الأجور إلى ما دون تكلفة إنتاج قوة العمل، وزيادة كثافة العمل وتمديد يوم العمل (131). ومن ثم فإن التنمية التابعة/التخلّف تنتج فائض قيمة مطلقاً وليس نسبياً، مما يقلّل من الطلب المحلّي الذي تعوّضه الصادرات (137)، وهو ما يفصل بين إنتاج السلع الأساسية وتداولها. واقتصاد التصدير في أميركا اللاتينية هو «أكثر من مجرّد نتاج لاقتصاد دولي قائم على التخصص الإنتاجي: إنه تكوين اجتماعي يقوم على نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي يزيد من التناقضات المتأصّلة في الرأسمالية إلى أقصى حد»(139). إن التصنيع في أميركا اللاتينية لا يخلق طلبه الخاص، بل «يُولّد من أجل تلبية طلب موجود من قبل […] منظّم وفقاً لمتطلبات السوق التي خلقتها البلدان المتقدّمة» (145). إن التطوّر التكنولوجي والتصنيع، حيثما يحدثان، يتشكّلان أيضاً من خلال هذا الهيكل الأساسي الذي ينفصل فيه الجهاز الإنتاجي عن «احتياجات استهلاك الجماهير» (152).

تؤكد حاشية ماريني على افتراضه بأن «الاقتصاد الموجّه نحو التصدير يشكّل المرحلة الانتقالية صوب اقتصاد رأسمالي وطني أصيل، والذي لا يتشكل إلا مع انبثاق الاقتصاد الصناعي» (155). في البداية يتكوّن الاقتصاد التابع من خلال الاقتصاد الصناعي. وعندما يصير مركزاً فعلياً لتراكم رأس المال، «يتوقّف الاقتصاد التابع عن التوافق مع مشاكل تحقيق الدول الصناعية التي يخضع لها» (157). وبالتالي، وعلى النقيض من كاردوسو، فإن الاستغلال المفرط للأمة التابعة هو «شرط ضروري للرأسمالية العالمية» (160). كان الغرض من النقد الماركسي للاقتصاد السياسي هو تحديد «القوانين» التي تحكم التبعية.

تعتمد مقدمة لاتيمر على مذكرات ماريني الذاتية في العام 1990. بدأت حياة ماريني كمنظِّر في المنفى مع الانقلاب العسكري البرازيلي في العام 1964، ولكنها شملت العديد من الأحداث الرئيسية في تلك الفترة، بما في ذلك الوحدة الشعبية بقيادة سلفادور الليندي، الذي أطيح به في العام 1973 في الانقلاب الذي دعمته الولايات المتّحدة، كما شملت المشاركة مع اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية التابعة للأمم المتّحدة وبنيوية كاردوسو. في الحادية والعشرين من عمره، التحق ماريني بكلية الحقوق في جامعة البرازيل، وتأثّر بعالم الاجتماع ألبرتو راموس. وقد حثّ راموس في السابق على تحرير البرجوازية من «العقلية شبه الاستعمارية والمتخلّفة»(31)، وبتشجيع من راموس، انتقل ماريني إلى باريس في العام 1958، حيث استلهم النضالات الفرنسية ضدّ الاستعمار من المنفيين، وخلص إلى أن نظريات التنمية «السائدة» كانت في الواقع أدوات مكرّسة لـ«تعمية وتدجين»(32) الشعوب المضطهَدة في العالم الثالث في كفاحها للتخلّص من استعمار الإمبريالية.

إن تصدير فائض القيمة من خلال التبادل غير المتكافئ يحول دون تحقّق الأرباح اللازمة للتراكم المحلي، ويعني أن الرأسماليين التابعين يسعون إلى التعويض عن نقص الأرباح من خلال تقليص الأجور إلى ما دون تكلفة إنتاج قوة العمل، وزيادة كثافة العمل وتمديد يوم العملعاد ماريني إلى البرازيل في العام 1960 كصحافي في وكالة الصحافة الكوبية «برينسا لاتينا»، ثم كأستاذ مشارك في جامعة برازيليا جنباً إلى جنب مع «الثلاثي الجدلي»: فرانك ودوس سانتوس وبامبيرا، حيث نشأت نظرية التبعية. وقد تم تحفيز هذا التطوّر من خلال المناقشات في اليسار البرازيلي الذي انتقد استراتيجية التعاون الطبقي للحزب الشيوعي البرازيلي، ودعا إلى ثورة اشتراكية كحلّ للرأسمالية البرازيلية. أجبر الانقلاب العسكري في الأول من نيسان/أبريل 1964 ماريني على الفرار، ثمّ اعتقل مرّتين، وخضع للتعذيب، واضطر إلى الاختباء، وتعرّضت المواد الخاصة بـأطروحتهِ للدكتوراه عن السلطوية البرازيلية للإتلاف، وُمنح اللجوء في المكسيك. وفي النهاية، انضمّ إلى مركز دراسات أميركا اللاتينية الذي بقي مرتبطاً به لبقية حياته.

طوّر ماريني مصطلح الإمبريالية الفرعية، وهو «الشكل الذي تتّخذه الرأسمالية التابعة عند بلوغها مرحلة الاحتكارات ورأس المال المالي»(44). وقد سعى هذا المصطلح إلى مواجهة الأرثوذكسية السائدة التي أعفت أو برّأت الرأسماليين البرازيليين من تهمة الدكتاتورية العسكرية. وقد اندمج الرأسماليون البرازيليون مع الإمبريالية الأميركية وخضعوا لها في خلال فترة ما بعد الحرب من خلال «التعاون العدائي»(45)، وذلك عبر الجمع بين التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، فيما النطاق المحدود للسوق المحلّية زاد من اعتمادهم على المبيعات إلى الولايات المتحدة. وقد تُرجمت هذه الكتابات على نطاق واسع ولكنها حُظرت في البرازيل.

شارك ماريني بنشاط في فترة ثورة الطلّاب والعمّال التي أدّت إلى القمع العسكري المكسيكي والمذبحة في ساحة بلازا دي لاس الثقافات في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1968. نفي ماريني مجدّداً، وهذه المرّة إلى تشيلي، حيث بدأ العمل في جامعة Concepción، وانضمّ إلى حركة اليسار الثوري، ثمّ انتقل إلى مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية (CESO) في جامعة تشيلي في العام 1970. مرّة أخرى، بدأ العمل مع زملائه المنفيين دوس سانتوس وبامبيرا وفرانك وغيرهم. وبحسب بامبيرا، كان العمل في CESO هو «الجهد الأكثر اتساقاً لتطوير نظرية ماركسية عن التبعية»(59). وقد أثّر ذلك على الوحدة الشعبية ولكنه أدّى إلى الانفصال السياسي بين دوس سانتوس وبامبيرا اللذين انضما إلى الاتحاد الوطني، وماريني الذي حافظ على دعمه لحركة اليسار الثوري ومنظور الثورة الاجتماعية.

انصبّ تركيز ماريني النظري على كيفية تشوّه دائرة تراكم رأس المال في الرأسمالية التابعة، من خلال الاستغلال المفرط للطبقة العاملة، والحد من السوق المحلّية، ممّا يؤدّي إلى توسّع قطاع السلع الكمالية، وتصدير الإنتاج والأرباح الهائلة في الخارجبدأ كتاب ماريني «ديالكتيك التبعية» (Dialectia de la Dependencia) في العام 1966 كمجموعة من الملاحظات؛ «كتاب أحمر» أو مجلّد بشكل أكثر دقّة. تعرّضت المسودة الأولى للتلف في خلال «الإبادة الجماعية والغضب الحارق» للغارة العسكرية التي شنّت في يوم الانقلاب، في 11 أيلول/ سبتمبر 1973، وظهرت نسخ عنه غير مكتملة قبل نشره النهائي في «التخلّف والثورة» في العام 1974. انتقد ماريني الفكرة القائلة بأن التشكيلات الاجتماعية في العالم الثالث كانت «ما قبل رأسمالية»، إنما هي تطوّرات مُحدّدة للرأسمالية نتيجة «انسجام وثيق» مع الرأسمالية الأوروبية، مقارناً بين علائق التبعية بعلائق النظام الاستعماري أو التجاري، ومُصرّاً على أن «التخلف هو الوجه الآخر للتنمية»(65). جادل كاردوسو ضدّ الإصدارات المُبكرة لمقال ماريني في العام 1972، ومرّة أخرى مع خوسيه سيرا في العام 1978، مقترحاً بدلاً من ذلك هيكلاً ثلاثياً يتكوّن من مؤسّسات الدولة والشركات متعدّدة الجنسيات والشركات المحلية، يُمكّن البرجوازية المحلّية من مراكمة رأس المال، ومن ثم الانفلات من التبعية. سعى كاردوسو وسيرا إلى إثبات أن السوق المحلّية كانت كافية للرأسماليين المحلّيين لتحقيق إنتاجهم، وقلَّلا من أهمية الاستغلال المُفرط للطبقة العاملة وأشارا إلى التقدّم التكنولوجي المحلّي كآلية لزيادة فاىض القيمة النسبي، ممّا يسمح بتطوير التصنيع المحلّي. دافع ماريني عن تحليله موضِّحاً أن التطوّر الفعلي لا يتوافق بالضرورة مع المفاهيم العالمية للرأسمالية المُجرّدة، بل يجب دراسته كما هي موجود بالفعل. أدان ماريني كاردوسو باعتباره مدافعاً عن الديكتاتورية يخلط بين التراكم العسكري العنيف والثورة البرجوازية. مضى كاردوسو ليصبح رئيساً بين عامي 1994 و2002، بينما انضمّ سيرا إلى مجلس الوزراء. وبصرف النظر عن قدرة البرازيل على ترجمة الأقوال إلى ممارسات، فإنها لا تزال بلداً متخلّفاً يعتمد اعتماداً قاتلاً على تصدير المواد الخام، مع تفشي التفاوت في الدخل ومحدودية السوق المحلية.

هرب ماريني من تشيلي إلى ألمانيا ثمّ إلى المكسيك، واستمرّ في العمل مع حركة اليسار الثوري وجادل ضدّ مفهوم «الفاشية العسكرية» الذي يتضمّن ضرورة إقامة جبهة واسعة مع البرجوازية في سياق النضال من أجل استعادة الديمقراطية. انصبّ تركيز ماريني النظري على كيفية تشوّه دائرة تراكم رأس المال في الرأسمالية التابعة، من خلال الاستغلال المفرط للطبقة العاملة، والحد من السوق المحلّية، ممّا يؤدّي إلى توسّع قطاع السلع الكمالية، وتصدير الإنتاج والأرباح الهائلة في الخارج.

عاد ماريني إلى البرازيل في العام 1984. وفيما سعى المثقفون إلى التكيّف مع النظام النيوليبرالي الجديد، مبتعدين عن الجماهير صوب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والمؤسّسات البحثية التي تتخذ الولايات المتحدة مقرا لها. لم ينطبق ذلك على ماريني. في النهاية، حصل على وظيفة في جامعة برازيليا، وقام بالتحقيق في قطاعات التصنيع في البرازيل المدعوم من الإعانات الديكتاتورية، وفي ضغط الأجور والتفاوت في الدخل. واستمر في الكتابة عن الطبقة الاجتماعية قبل أن يعود إلى المكسيك في العام 1993. وقد دافع من دون تردّد عن نظرية التبعية حتى في الظروف المختلفة للغاية التي واجهته.

نشرت هذه المراجعة في Marx and Philosophy بموجب رخصة المشاع الإبداعي في أيار/مايو 2023.