Preview الاتحاد العمالي في الولايات المتحدة

النقابات الأميركية ضد الحرب
هل انتهى زمن الصمت حقّاً؟

«لقد صمتنا لوقت طويل، وكنا نجهل في الحركة العمّالية هذه القضية (القضية الفلسطينية)، وقد انتهى هذا الوقت». بهذه الكلمات أعلن المدير الإقليمي للاتحاد الدولي لعمّال السيّارات (UAW) في الولايات المتّحدة الأميركية، براندون مانسيلا، عن انضمام أحد أكبر الاتحادات العمّالية وأقواها في أميركا الشمالية إلى النداء العالمي من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزّة. وعلّق رئيس الاتحاد، شون فاين على هذا الإعلان بالقول: «من معارضة الفاشية في الحرب العالمية الثانية، إلى التعبئة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وحرب الكونترا في نيكاراغوا، دافعت نقابة عمّال السيّارات المتّحدين باستمرار عن العدالة في جميع أنحاء العالم». 

يشكّل العمّال النقابيون قاعدة انتخابية مهمّة للحزب الديمقراطي، ويمكن أن يتحوّلوا إلى قوّة ضغط مؤثّرة في حال اشتدت معارضة الحرب

يعدّ انضمام أقوى اتحاد عمّالي أميركي إلى الجبهة المناوئة للحرب مهمّاً لأسباب عدّة، فهو يعبّر عن تصاعد حركة التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية، ولا سيّما في الولايات المتّحدة، حيث تتسع هذه الجبهة باطراد وتنمّي شعوراً عاماً بعدم «عدالة» هذه الحرب التي تشارك فيها دولتهم بزخم واندفاع. فعلى الرغم من أن أكثرية الأميركيين ما زالوا ينظرون إلى إسرائيل بوصفها حليفاً أو صديقاً، إلا أن استطلاعات الرأي تبيّن أن 65% من الناخبين يؤيّدون وقف إطلاق النار، وترتفع هذه النسبة إلى 77% من الناخبين الديمقراطيين. 

قد لا يكون لهذه النتائج تأثير مباشر على موقف الإدارة الأميركية ودعمها غير المشروط لإسرائيل، إلا أنها تدخل في الحسابات الانتخابية عشية الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، التي يواجه فيها الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، احتمالات عدم التجديد له.

لماذا هذا مهمّ؟

يشكّل العمّال النقابيون، أي الذين ينشطون في النقابات، قاعدة انتخابية مهمّة للحزب الديمقراطي، ويمكن أن يتحوّلوا إلى قوّة ضغط مؤثّرة في حال اشتدت معارضة الحرب واتخذت أشكالاً وتعبيرات تتجاوز التعبير عن موقف أخلاقي، على غرار الحراكات ضدّ حرب فيتنام. 

الحركة العمّالية لن تكون قادرة على تحقيق الأهداف التي حدّدتها للعدالة الاجتماعية وعدالة العمّال والعدالة الاقتصادية إذا غضّت الطرف عمّا يحدث في العالم

انضمّ العديد من المنظّمات العمّالية إلى الجبهة المناوئة للحرب، منها على سبيل المثال اتحاد عمّال البريد الأميركي، وهو من الاتحادات الكبيرة، وكذلك اتحاد عمّال ستارباكس، الذي تعرّض لمحاولات قمع وملاحقات… وجاء انضمام هذه النقابات، حتّى الآن، في إطار حركة التضامن العمّالي التي انخرطت فيها نقابات عمّال الموانىء في العديد من الدول الأوروبية وأستراليا في نشاطات تهدف إلى إعاقة نقل الأسلحة إلى إسرائيل… وقام أكبر خمس نقابات عمّالية هندية، بممارسة الضغوط على حكومة ناريندرا مودي، لمنع نقل العمّال الهنود إلى إسرائيل للحلول محل العمّال الفلسطينيين، ووصفتها باللا أخلاقية والمتواطئة مع إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره. 

يمكن لانضمام الاتحاد العالمي لعمّال السيّارات أن ينقل هذه الجبهة إلى مستوى أعلى من التضامن الفعّال والمؤسّس لشكل من المعارضة للحروب الإمبريالية والاستعمارية وجزء من نضال العمّال من أجل السلام والتحرّر والعدالة. يوضح المدير الإقليمي للاتحاد، براندون مانسيلا، أن «الحركة العمّالية لن تكون قادرة على تحقيق الأهداف التي حدّدتها للعدالة الاجتماعية وعدالة العمّال والعدالة الاقتصادية، إذا غضّت الطرف عمّا يحدث في جميع أنحاء العالم (...) لقد عارضت الحركة العمّالية الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وعارضنا حرب فيتنام، وعارضنا الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وقمنا بتعبئة جميع موارد الحركة العمّالية للانضمام إلينا في تلك المعركة. وأيضاً عارضنا الحرب الكونترا في نيكاراغوا، وتصدّينا للقمع الحكومي في بولندا. والآن ندعو إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار حتى نتمكّن من العمل على بناء سلام دائم، وبناء العدالة الاجتماعية، وبناء مجتمع عالمي من التضامن لضمان أن العمّال والمضطهدين والفقراء في جميع أنحاء العالم يسيرون على الطريق نحو الفوز بالعدالة التي يستحقونها».

يقترح الاتحاد الاميركي خطّة عمل: «سيقوم مجلسنا التنفيذي الدولي بتشكيل فريق عامل معني بإعادة دراسة عادلة لتاريخ إسرائيل وفلسطين، والروابط الاقتصادية لاتحادنا بالصراع، وتخفيف الاستثمارات، واستكشاف كيفية تحقيق انتقال عادل للعمّال الأميركيين من الحرب إلى السلام».

ليس واضحاً المدى الذي سيبلغه الاتحاد للالتزام بهذه الخطّة، فهي تنطوي على إيحاءات باعادة تأجيج حركة المقاطعة لإسرائيل في المجتمعات الغربية، التي بُذلت جهوداً حثيثة للقضاء عليها في السنوات الماضية إلى درجة تصنيفها كمعاداة للسامية. وتنطوي هذه الخطة أيضاً على إدراج الحروب التي تخوضها الولايات المتّحدة في صلب النضالات العمّالية لتحقيق مصالحهم. لكن الإعلان عن هذه الخطّة كان كافياً لإثارة القلق على جبهة داعمي الحرب الإسرائيلية.

ما أهمّية اتحاد عمّال السيارات؟

خرج الاتحاد الدولي لعمّال السيارات (UAW) للتو من معركة كبيرة انتصر فيها على شركات السيّارات الثلاثة الكبرى في الولايات المتّحدة، جنرال موتورز وفورد موتور وشركة ستيلانتس المالكة لعلامة كرايسلر. لقد جذب الإضراب الناجح، الذي قاده الاتحاد لمدّة 6 أسابيع، الاهتمام بالعمل النقابي مجدّداً، وحظي بالتأييد الواسع، حتى أن الرئيس الأميركي الديمقراطي، جو بايدن، اضطر للنزول شخصياً إلى ميدان اعتصام العمّال في ديترويت بولاية ميشيغان، في أيلول/ سبتمبر الماضي، وأعلن تأييده لإضراب العمّال ضد الشركات.

خرج الاتحاد الدولي لعمّال السيارات (UAW) للتو من معركة كبيرة انتصر فيها على شركات السيّارات الثلاثة الكبرى في الولايات المتّحدة

يعدّ الاتحاد الدولي لعمّال السيارات (UAW) واحداً من أكبر النقابات وأكثرها تنوّعاً في أميركا الشمالية، ولا ينحصر تمثيله في صناعة السيّارات، بل يضمّ 600 نقابة محلّية في الولايات المتّحدة وكندا وبورتوريكو، وينتسب إليه 400 ألف عضو نشط وأكثر من 580 ألف عضو متقاعد، ويمثل أعضاءه في 1,750 عقداً مع 1,050 صاحب عمل.

يشهد هذا الاتحاد تحوّلات لافتة، ففي الأول من آذار/مارس 2023 شهد الانتخابات الأولى المباشرة من القواعد في تاريخه الممتد منذ 88 عاماً. وسمحت الانتخابات المباشرة بإنهاء فترة طويلة من الاهتراء والفساد النقابي وأنتجت قيادة جديدة أكثر راديكالية لم تتوانَ عن خوض معركة زيادة الأجور وتحقيق مكاسب كبيرة لم يشهد القطاع مثلها منذ عقود. أدّت هذه المعركة إلى زيادة الأجور لعمّال شركات السيّارات بنسبة 25% لأجر ساعة العمل.

تأثير النقابات على الانتخابات 

لم تقتصر نتائج هذه المعركة على زيادة الأجور، بل ساهمت في إعادة النقابات العمالية في الولايات المتّحدة إلى دائرة الضوء. ففي إطار سعي الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الفوز بولاية ثانية، زار العمّال في ولاية ميشيغان الأميركية أثناء اعتصام لهم في نهاية أيلول/سبتمبر 2023. وتُعتبر هذه الزيارة هي الأولى لرئيس أميركي يزور فيها موقعاً للاعتصام، ووصف البيت الأبيض الزيارة بالتاريخية. وتعكس هذه الزيارة مدى اعتماد بايدن والحزب الديمقراطي على دعم النقابات في الانتخابات الرئاسية المقبلة. إذ يُظهر العمّال النقابيون تفضيلاً أكبر للتصويت لصالح الحزب الديمقراطي نسبة إلى العمّال غير النقابيين.

لطالما شكلت النقابات الأميركية بيئة للنقاش والجدال في القضايا السياسية والاجتماعية. ونظراً لهذا الدور بات يُشار إلى النقابات في كثير من الأحيان باسم «مدارس الديمقراطية» ما يؤدّي إلى تحفيز الناخبين ودفعهم للمشاركة السياسية أكثر. وبحسب دراسة تأثير النقابات على الناخبين وآليّاته الصادرة عن جامعة هارفارد في العام 2020 فإن معدّلات تصويت أعضاء النقابات أعلى بحوالى 5 نقاط مئوية من معدّلات غير الأعضاء.

النقابيون في الولايات المتحدة

ووجد بنجامين رادكليف وباتريشيا ديفيس في دراستهم عن العلاقة بين عضوية النقابات والمشاركة في الانتخابات في الولايات الأميركية أن الإقبال على التصويت في ولايات ترتفع فيها نسبة الانتساب إلى النقابات مثل نيويورك أو ميشيغان حيث حوالى 35 % من العمّال منظمين، أعلى بنحو 6.5% عن الولايات التي تنخفض فيها نسبة الانتساب إلى نقابات مثل داكوتا الجنوبية أو فيرمونت حيث يوجد حوالى 10 % من العمّال منظّمين.

أزمة النقابات العمّالية عموماً

على الرغم من تباشير النهوض النقابي، إلا أن النقابات العمّالية في الولايات المتّحدة عانت، كما في كل العالم، من مرحلة ضعف طويلة تعرّضت فيها لشتى صنوف التدمير والإخضاع. لقد انخفضت نسبة العمّال المنتسبين إلى النقابات من 20.1% في العام 1983 إلى 11.3% في العام 2013. وقد ساهمت عوامل عديدة في تآكل القواعد العمّالية في النقابات مثل الأتمتة وإحلال الآلات مكان البشر. وتشير دراسة تأثير النقابات على الناخبين وآليّته إلى دور الهجمات المستمرة على النقابات عبر تعزيز العمل التعاقدي الحر كبديل عن عقود العمل، وإقرار قوانين تقيد المفاوضات الجماعية ما يجعل الانتساب إلى النقابات غير مجدي للقوى العاملة لاسيّما الشابة. وتقدّر نسبة العمّال المنتسبين إلى نقابات بأقل من 11% حالياً.

العمال الاميركيون

إلا أن الانتصار القوي الذي حقّقه اتحاد عمّال السيّارات الأميركية، أطلق موجة لانتساب العمّال إلى النقابات في ولايات مختلفة ولدى شركات مختلفة. وفي خطوة تشكّل سابقة، أعلن عمّال في أكثر من 12 شركة صناعة سيّارات عن حملات متزامنة في جميع أنحاء البلاد للانضمام إلى اتحاد عمّال السيارات. ومن المتوقع أن تغطّي الحملة ما يقارب 150 ألف عامل في صناعة سيارات في أكثر من 13 شركة صانعة للسيّارات في ولايات مختلفة. ولا تتوقف زيادة الإقبال على الانتساب إلى النقابات على اتحاد عمّال صناعة السيّارات، بل تشهد النقابات الأميركية المختلفة ارتفاعاً مطرداً في أعداد المنتسبين.

العودة إلى النقابات

لا شك أن الظروف اليوم مختلفة تماماً عن الظروف التي شهدت انخراطاً واسعاً من الحركات العمّالية في اللحظات التاريخية في القرن الماضي، التي أشار إليها براندون مانسيلا، من حركات مقاومة الفاشية إلى حركات معارضة الحروب الإمبريالية وحركات مقاطعة نظام الفصل العنصري. لقد تغيّر العالم كثيراً، وتغيّرت نظرة الناس إليه، وتغيّرت الحركة النقابية ولم تعد تتمتع بالقوّة التي كانت عليه في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلا أن العمّال في كل مكان في العالم أمام لحظة تاريخية اليوم، لحظة الفشل الذريع للنظام العالمي المهيمن في تحقيق أي من وعوده لهم: فلا السلام تحقّق، ولا الحرية، ولا العدالة، ولا الرخاء. فها هي البشرية تواجه الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية واتساع اللامساواة والفقر. 

تزايد التضامن مع الفلسطينيين كقضية عالمية، وانضمام النقابات العمّالية إلى هذه الحركة، من خلال ربطها بنضالاتهم اليومية، بمثابة مؤشر، ولو بسيط، إلى احتمالات ظهور شكل جديد من المقاومة العمّالية، ولذلك، يُعتبر انضام الاتحاد العالمي لعمّال السيّارات مهماً في هذا السياق.