عن الذكاء الاصطناعي والطبقة والمكان
التكنولوجيا الموفِّرة للعمل لم تكن ولن تكون مُحايدة طبقياً أو جغرافياً.
لو كنتِ تسكنين في دولة تُعدُّ من بلدان الجنوب العالمي (مثل بلدان منطقتنا)، فأنتِ لستِ أكثر عرضة لفقدان وظيفتك في المستقبل بسبب استبدالك بالآلة فحسب، لكن نسبة أن تكوني قد فقدتِ وظيفتك كلّياً أو جزئياً مرتفعة بالفعل. هذه مفارقة تستحق التوقّف عندها، لأننا عادة ما نظن أنه بسبب زيادة الاعتماد على التكنولوجيا وارتفاع الأجور في الشمال العالمي، بات فقدان الوظائف وحلول الآلة مكانها طبيعياً. في مصر، على سبيل المثال، يوجد الكثير من النكات عن كون مصر ملاذاً آمناً ضدّ تغوُّل الذكاء الاصطناعي بسبب الاعتقاد بغياب اعتماد الأنظمة على التكنولوجيا واعتمادها على الوسائل «البدائية». في العام 2017 على سبيل المثال، كتب أحد مُستخدمي فايسبوك أنّه عندما يسيطر الذكاء الاصطناعي على العالم، فسوف تكون مصر مركز المقاومة.
منذ أن فُصِل العاملون عن أدوات إنتاجهم مع صعود الرأسمالية ولم يعد لديهم إلّا قوّة عملهم لبيعها، نادراً ما أدّت ثورات الإنتاجية الموفِّرة للعمل في الاقتصادات الأغنى إلى انخفاضٍ في عدد الوظائف الكلّية في الاقتصاد
وفقاً لمنطق ربط التطوّر التكنولوجي بارتفاع الأجور، يعيد بعض المؤرِّخين أسباب صعود الثورة الصناعية في أوروبا، دوناً عن غيرها من مناطق العالم، إلى أن الدافع للأتمتة، أي إحلال التكنولوجيا الموفِّرة للعمل محل العمل البشري، كان الأجور المرتفعة في إنكلترا مقارنة بالصين والهند اللتين كانتا بمثابة مصانع العالم في ذلك الوقت، فكلّما زادت الأجور كلّما جنى الرأسماليون من الأتمتة. كانت الثورة الصناعية بمثابة ثورة في التكنولوجيا الموفِّرة للعمل، على سبيل المثال، زادت إنتاجية العمل في مجال المنسوجات بنسبة 700% في خلال 62 عاماً بين عامي 1830 و1892 في إنكلترا. وفي هذا السياق، ظهرت حركة اللاضية (Luddite) الاجتماعية في إنكلترا، التي شُكِّلت من عمّال نسيج إنكليز عملوا على مهاجمة الآلات التي هدَّدت باستبدالهم وتعريضهم للبطالة.
منذ أن فُصِل العاملون عن أدوات إنتاجهم مع صعود الرأسمالية ولم يعد لديهم إلّا قوّة عملهم لبيعها، نادراً ما أدّت ثورات الإنتاجية الموفِّرة للعمل في الاقتصادات الأغنى إلى انخفاضٍ في عدد الوظائف الكلّية في الاقتصاد، ما يعني أن ربط فقدان الوظائف بارتفاع الأجور نتيجة التطوّر التكنولوجي قد تحدث في قطاع معيّن، لكنها فرضية لا يمكن الاعتماد عليها إذا نظرنا إلى الاقتصاد ككلّ. بداية، لننظر إلى وضع التشغيل في جنوب العالم وشماله في العقود الثلاثة الأخيرة. في البلدان ذات الدخل المرتفع - وهي البلدان نفسها التي تعتمد على المكوِّن التكنولوجي بشكل كبير - نجد أن معدّل التشغيل ارتفع من 57% من السكّان في العام 1991 إلى 58% في العام 2022، أمّا بالنسبة للبلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل فقد سجِّل هبوط حاد من 63% من السكّان في العام 1991 إلى 56% حالياً. حدث هذا، على الرغم من النمو الكبير في اقتصاديات الدخل المنخفض والمتوسّط حيث زاد الحجم الحقيقي لاقتصاداتها أربعة أضعاف ونصف الضعف تقريباً في تلك الفترة، بينما تضاعف حجم الاقتصاديات ذات الدخول الأعلى مرّة واحدة فقط. بالطبع، زاد عدد سكّان الدول الأقل دخلاً بشكل أكثر سرعة من البلدان الأغنى، لكن هذا لا يمكنه تفسير انخفاض التشغيل لأن عدد السكّان في سنّ العمل زاد أقل من ضعف واحد في حين زاد حجم الاقتصاد أكثر من أربعة أضعاف كما أوردنا الذكر. أمّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نجد أن معدّل التشغيل «المنخفض» بالفعل، انخفض من 42% إلى 41%، على الرغم من زيادة الناتج المحلّي ثلاثة أضعاف وزيادة عدد السكّان في سن العمل أكثر من الضعف قليلاً.
يعود الاختلاف الكبير في معدّلات النمو الاقتصادي المصحوب بانخفاضٍ حادٍّ في معدّلات التشغيل إلى كون الزيادة الكبيرة في حصّة العاملين في قطاع الخدمات بين عامي 1991 و2019 في الجنوب العالمي لم تعوِّض انخفاض الوزن النسبي لقطاع الزراعة، فنرى انخفاضاً كبيراً في العمالة الزراعية وزيادة متواضعة في العمالة في الصناعة لم تكن قادرة على استيعاب الوظائف المفقودة في القطاع الزراعي (أنظر الجدول أدناه). ومن ناحية أخرى، في الشمال العالمي، بما أن العاملين في الزراعة كانوا يشكِّلون نسبة ضئيلة من إجمالي العاملين في العام 1991، بدا قطاع الخدمات أكثر قدرة على تغطية قطاعي الزراعة والصناعة المنكمشين، فضلاً عن الاستثمار الواعي في التوجُّه الخدمي لاقتصادات الشمال.
لا يمكن التعبير عن هذه الديناميكية بشكل أفضل من التعليق التالي الذي ألقاه منظِّر الأعمال الأميركي مايكل بورتر:
«اعتدنا أن نفكِّر في الخدمات على أنها تقليب الهامبرغر، والآن علينا أن نفكِّر في الخدمات على أنها علم الصواريخ. الخدمات هي ذات قيمة عالية اليوم وليس التصنيع. التصنيع في حدّ ذاته ذات قيمة منخفضة نسبياً. ولهذا السبب يتمّ في الصين أو تايلاندا».
يأتي انخفاض التشغيل في البلدان الأقل دخلاً بسبب التكنولوجيا الموفِّرة للعمل بشكل أساسي، فنرى مثلاً أن إنتاجية العامل في الدول المنخفضة والمتوسِّطة الدخل زادت بنسبة 267% بين عامي 1991 و2021، بينما زادت في الدول مرتفعة الدخل بنسبة 68% فقط. نحن بالفعل نخوض غمار التطوّر الكبير في التكنولوجيا الموفِّرة للعمل خصوصاً في دول الجنوب من دون وجود قطاعات أخرى قادرة على الاستيعاب الكامل للعمالة المفقودة على الرغم من النمو الاقتصادي الكبير. كما نرى من بيانات الجدول أعلاه، أثَّر هذا التطوّر بشكل رئيس على العمّال أو العمّال المحتملين في قطاع الزراعة في بلدان الجنوب بشكل أساسي، في حين فاد بشكل أكبر العمّال المحتملين في القطاع الخدمي، وبدرجة أقل كثيراً العاملين في القطاع الصناعي. في البلدان الأغنى، زاد القطاع الخدمي بشكلٍ كبيرٍ على حساب القطاعات الأخرى، لكن مع زيادة نسبة المشتغلين من مجمل السكان، ما يعني ببساطة أن السياسات العامّة أدّت إلى تحويل السكّان من القطاعات التي تشهد انكماشاً إلى القطاع الخدمي المتصاعد بقدر من الكفاءة.
يهدِّد الذكاء الاصطناعي الوظائف التي تمتهنها بشكل أكبر الطبقات المهنية الأوفر حظاً في المجتمع وتشكِّل الخطاب السائد فيه، والتي قد تواجه للمرّة الأولى ما واجهته الوظائف الزراعية والصناعية على مدار قرنين
لكن ما هو سبب الذعر من الذكاء الاصطناعي وتأثيره على العمل إذا كان العالم يشهد على مدار قرنين من الزمان طفرات كبيرة في ما يُسمَّى بالتكنولوجيا الموفِّرة للعمل، حيث انخفض بشدّة متوسِّط ساعات العمل للعامل الواحد، وفي الوقت نفسه قلَّت معدّلات التشغيل في مناطق كثيرة من العالم تزامناً مع نمو الإنتاج، لدرجة أصبحت معها الأزمات الاقتصادية مقترنة بفوائض الإنتاج، كنتيجة للنمو الاقتصادي وضعف الاستهلاك، وكنتيجة لعدم نمو الأجور ومعدّلات التشغيل، على عكس ما شهدته غالبية التاريخ البشري الذي اقترنت فيه الأزمة بالندرة.
والسبب برأيي هو دخول الذكاء الاصطناعي وسيطرته على الملاذ الأخير للعمالة المهدَّدة دائماً من التكنولوجيا الموفِّرة للعمل، أي العمل الذهني في القطاع الخدمي. تسود حكمة ليبرالية في الاقتصاد مفادها أنه مع كلّ تحوّل تكنولوجي كبير يؤدّي إلى فقدان وظائف، تخلق وظائف جديدة في قطاعات أخرى، وتحديداً الأعمال الذهنية في القطاع الخدمي. يتجاهل هذا التحليل البعد الطبقى والجغرافي لتطوّر التكنولوجيات الموفِّرة للعمل، فحتى لو صحَّ الأمر، هناك دائماً خاسرين وفائزين لكل عملية تحوُّل، وهو ما يأخذنا إلى السبب الثاني وراء الذعر من الذكاء الاصطناعي. يهدِّد الذكاء الاصطناعي، كتكنولوجيا موفِّرة للعمل، الوظائف التي تمتهنها بشكل أكبر الطبقات المهنية الأوفر حظاً في المجتمع، والتي تشكِّل الخطاب السائد في المجتمع، وقد تواجه تلك الوظائف المهنية للمرّة الأولى ما واجهته الوظائف الزراعية والصناعية على مدار قرنين، من دون وجود تصور أو خطّة لماهية القطاعات أو الوظائف التي يمكن الهروب إليها، بدعم من السياسات العامة، في ظل التهديد التي تواجهه غالبية الوظائف المهنية.
وجد تقرير لمركز بيو للبحوث (Pew Research Center) أن العمّال الحاصلين على درجة البكالوريوس في الولايات المتّحدة أكثر عرضة بكثير من العمّال الحائزين على شهادة الثانوية، لشغل وظيفة يُهدِّدها الذكاء الاصطناعي، وبيّن التقرير حصول العاملين في الوظائف الأكثر تعرّضاً للخطر على متوسّط 33 دولاراً في الساعة في خلال العام الماضي، في حين كسبت الوظائف الأقل عرضة للتهديد من الذكاء الاصطناعي نحو 20 دولاراً في الساعة. ووجدت النتائج أن الوظائف التي تعتمد على المهارات التحليلية مثل التفكير النقدي والكتابة والعلوم والرياضيات تميل إلى أن تكون مُهدّدة أكثر من الذكاء الاصطناعي.
يقترن كلّ ذلك بسياسات التقشّف والنيوليبرالية العالمية التي أدّت إلى انخفاض الإنفاق على قطاعات الرعاية المُحصّنة نوعاً ما ضدّ الأتمتة والتي أنهت التزام الحكومات بالتوظيف الكامل أو الجزئي عن طريق التوظيف في الإدارة العامة.
الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا موفِّرة للعمل هو خيار سياسي سوف يحدِّد الأبعاد الاجتماعية وما إذا كان سوف يؤدي إلى فترات راحة أكثر أم بطالة أكثر
أيضاً من أسباب هذا الذعر هو سيادة منطق السوق والتسليع في كلّ ما يخص الحياة الاجتماعية، بما فيها التعامل مع العمل البشري كسلعة لا تملك غالبية البشرية سلعة غيرها لبيعها، فوفقاً لهذا المنطق، إن انتهاء الطلب على السلعة الوحيدة القابلة للتبادل النقدي لدى غالبية البشر يساوي الجوع والتشرّد. في ظرفٍ آخر، كان يمكن لحاجة أقل إلى العمل أن تبشِّر بساعات راحة أكبر في مقابل الدخل نفسه، مثلما حدث نتيجة تطوّرات تكنولوجية ونضالات عمّالية في السابق. لكن في حين قلّ عدد ساعات العمل في الدول الأغنى في العقود الأخيرة، كان مسار التكنولوجيا الموفِّرة للعمل والتحوّل القطاعي مختلفاً في الدول الأقل دخلاً، ونرى على سبيل المثال أن عدد ساعات العمل زادت في الصين والهند على الرغم من الزيادة الكبيرة في الإنتاجية وانخفاض نسبة التشغيل هناك. ما يعني أن العمالة في بلدان الجنوب لم تستفد من توفير العمل، وبدلاً من توزيع مهام العمل الأقل على العدد نفسه من العمّال فيما يعملون ساعات أقل، مثلما حدث بشكلٍ كبيرٍ في بلدان الشمال، تمّ استخدام عدد أقل من العمّال ليغطوا عدد الساعات نفسه أو أكثر.
الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا موفِّرة للعمل هو خيار سياسي سوف يحدِّد الأبعاد الاجتماعية وما إذا كان سوف يؤدي إلى فترات راحة أكثر أم بطالة أكثر. لكن لعلّنا نتذكّر ونحن خائفون على وظائفنا الذهنية أنّ غالبية البشرية (العمّال اليدويين والعمّال اليدويين المحتملين في بلدان الجنوب) ظلت ضحية نموذج زيادة الإنتاجية الهائلة التي لا يستفيد منها عموم السكّان. في الواقع، لم يستفد العمّال داخل سوق العمل من ساعات راحة أكبر، وفي الوقت نفسه خرج الكثير من سوق العمل بالأساس. ولعل أهمّ مهام السياسات الاقتصادية التقدّمية في السنوات المقبلة هو النضال من أجل أن يتّبِع العمّال اليدويين في الزراعة والصناعة في الجنوب نموذج راحة أكبر ودخل أعلى ومستوى تشغيل ثابت، كردّة فعل على الزيادة المهولة في إنتاجية وظائفهم.