معاينة hero

كيف سيطرت «بلاك روك» على العالم

العالم السري لإدارة الأصول المالية

لقد سمع معظم الناس بشركة أمازون وجيف بيزوس بثروته الشخصية البالغة 150 مليار دولار. فالقوة الاحتكارية لأمازون، شأنها في ذلك شأن شركات التجزئة الكبرى، واضحة جلية وموضوع نقاش سياسي جارٍ. أما شركة بلاك روك فقلّة من سمعت بها، على الرغم من أنّ رئيسها التنفيذي، لاري فينك، بثروته الشخصية البالغة 1 مليار دولار، يُعدّ من نواحٍ كثيرة أكثر نفوذاً من الرئيس التنفيذي لشركة أمازون.

لُقِّب فينك بـ«ملك وول ستريت»؛ رجلٌ شيّد «إمبراطورية مالية هائلة لا سابقة لها في التاريخ». بدأت بلاك روك مسيرتها تحت مظلة شركة بلاكستون فاينانشال مانجمنت، قبل أن تنفصل عنها في أوائل التسعينيات.

بعد انقضاء فقاعة الدوت كوم، بدأ نمو بلاك روك يتسارع بوتيرة لافتة. وإلى جانب نموّها العضوي، استطاع فينك أن يحقق لها قفزات توسعية سريعة عبر سلسلة من عمليات الاندماج والاستحواذ، مولها بديون رخيصة الكلفة. وبحلول العام 2006، وبعد اندماجها مع ميريل لينش إنفستمنت مانجرز، بلغت أصول بلاك روك عتبة التريليون دولار تحت إدارتها.

لا تعود الأموال التي تديرها بلاك روك إلى بلاك روك نفسها، بل هي في الأصل أموالنا نحن. لكنّها تستخدم هذه الأموال لتعزيز نفوذ وثراء النخب العليا، على حساب بقية الناس

اليوم، أمازون ثالث أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، بعد آبل ومايكروسوفت، بقيمة تساوي 1.7 تريليون دولار. لكنّ بلاك روك، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، تُسيطر على أصول تتجاوز قيمتها 10 تريليونات دولار. لا يخرج المالك الأكبر لـ 88% من الشركات المدرجة في مؤشر S&P 500 عن إحدى شركات «الثلاثة الكبار» في إدارة الأصول: بلاك روك أو فانغارد أو ستيت ستريت. وبلاك روك وحدها المستثمر الأكبر في 38 شركة من شركات S&P 500، وتمتلك حصة تبلغ 3.7% من أمازون. أما الثلاثة الكبار مجتمعين، فيديرون أصولاً قيمتها 22 تريليون دولار، ويملكون نحو خُمس الأسهم المتداولة في مؤشر S&P 500.

شركات إدارة الأصول مؤسسات مالية تتولّى إدارة أموال الآخرين. إن كنت تملك معاشاً تقاعدياً، فأنت على الأرجح تسلّم أموالك إلى صندوق تقاعد، وهذا الصندوق بدوره يسلّم جزءاً من تلك الأموال إلى إحدى الشركات الثلاث الكبرى، لتقرّر الأخيرة كيفية استثمارها. ومن هذه الزاوية، لا تعود الأموال التي تديرها بلاك روك إلى بلاك روك نفسها، بل هي في الأصل أموالنا نحن. لكنّها تستخدم هذه الأموال لتعزيز نفوذ وثراء النخب العليا، على حساب بقية الناس.

لا يسعى معظم عملاء بلاك روك إلى التفوق على السوق عبر استراتيجيات تداول بارعة قصيرة الأمد؛ بل يطمحون إلى عوائد مستقرة على المدى الطويل، وإلى مكان آمن يودعون فيه أموالهم. وعلى مرّ التاريخ، ظلّ قطاع إدارة الأصول قطاعاً محدود الحجم، يهيمن عليه عدد من الشركات المتوسطة تحرس مدّخرات الأثرياء. لكنّ عوامل شتّى، من بينها شيخوخة السكان على مستوى العالم وخصخصة نظم التقاعد وتراجع دولة الرفاه وتنامي التفاوت في الثروة، أسهمت في تضخّم كتلة المدّخرات.

كيف تقوّض الصناديق التتبعية سوق الاستثمار

استفادت بلاك روك من هذا الاتجاه، وتجاوزت منافسيها، بفضل ريادتها في استخدام استراتيجيات الاستثمار التتبعية منخفضة التكلفة. فبدلاً من تقديم استشارات مالية متخصصة لعملائها، تعتمد كثير من منتجات بلاك روك ببساطة على تتبّع مؤشرات مثل S&P 500 أو FTSE 100. ويسمح هذا الإجراء الآلي للشركة بإحالة مهام الاستشارة إلى خوارزمية، ما يوفّر عليها توظيف طواقم بشرية تُعنى بتقديم الاستشارات والاستثمار لصالح العملاء. وعلى الرغم من تشكك الكثير من المستثمرين في البداية بقيمة هذه الاستراتيجيات التتبعية، فقد أثبت أداء هذه الخوارزميات نجاحاً متزايداً حتى في التفوق على أمهر مديري الصناديق.

لكن تلك الصناديق بتوجيهها الاستثمار في مجموعة محددة سلفاً من الشركات، من دون كبير اعتبار لما تقوم به تلك الشركات فعلاً، تُقوّض عمليات «السوق» الاستثمارية.

من المفترض أن يُولي المستثمرون اهتماماً بالقرارات التي يتخذها المديرون التنفيذيون، وأن يُوجّهوا استثماراتهم على هذا الأساس. فيُكافَأ المدير الجيد ويُعاقَب السيئ. وعلى هذه الركيزة تقوم حوكمة الشركات الحديثة. لكن شركة بلاك روك لا تستطيع معاقبة المديرين التنفيذيين، لأنّها لا تستطيع ببساطة بيع حصصها؛ إذ إنّ ملكيتها في شركات كبرى مثل والمارت وأمازون كبيرة إلى درجة أنّ بيعها قد يزعزع السوق بأكملها. هذا فضلاً عن أنّ الصناديق التي تتبع السوق لن تفتأ تستثمر بكثافة في أكبر الشركات المُدرجة في تلك الأسواق. وبالتالي، يمكن لتلك الشركات وبغض النظر عن أدائها التعويل على أنّ بلاك روك وفانغارد وستيت ستريت لن تُقدم على بيع أسهمها.

حين تملك قلة من شركات إدارة الأصول القوية حصصاً في معظم الشركات الكبرى، لم قد تريد عندئذ لتلك الشركات أن تتنافس فيما بينها؟ فمن مصلحة بلاك روك، في هذه الحال، أن تتواطأ الشركات التي تملكها بل وربما أن تندمج مع بعضها البعض

وكما أشارت مجلة ذي إيكونوميست، فإنّ من السمات الأساسية للأسواق المالية الصحية وجود «جوقة صاخبة من الفاعلين المختلفين، يتوصلون إلى تقديرات متباينة لقيمة الأشياء، استناداً إلى تحليلاتهم الفردية المتفردة». بيد أنّ الأسواق المالية باتت تشبه، أكثر فأكثر، غرفة مكتظة لا يُسمع فيها إلا صوت شخص أو اثنين يحملان مكبّراً للصوت.

في الواقع، قد تساهم شركات إدارة الأصول مثل بلاك روك في دفع عجلة التركّز السوقي عبر الاقتصاد بأسره. فقد وجد الاقتصاديون أدلة على الآثار المضادة للمنافسة الناجمة عن الملكية المشتركة - أي امتلاك جهة واحدة لحصص في شركات عدة تنشط ضمن القطاع ذاته. وحين تملك قلة من شركات إدارة الأصول القوية حصصاً في معظم الشركات الكبرى، لم قد تريد عندئذ لتلك الشركات أن تتنافس فيما بينها؟ فمن مصلحة بلاك روك، في هذه الحال، أن تتواطأ الشركات التي تملكها بل وربما أن تندمج مع بعضها البعض. يسفر ارتفاع مستويات الملكية المشتركة عن حالة «تعادل احتكاراً على مستوى الاقتصاد ككل».

رأسمالية أصحاب المصلحة و«حراسها»

ولكن، ماذا لو كان هذا التحوّل أمراً إيجابياً؟ بصفتهم «مالكين شاملين» لمعظم الشركات الكبرى في العالم، يُفترض أن لا ينصبّ اهتمام الثلاثة الكبار على «أداء كل شركة يملكونها»، بل على «أداء الاقتصاد ككل». باتت الحجة القائلة إن شخصيات من أمثال فينك قد تتحول إلى حرّاس شكل جديد من «رأسمالية أصحاب المصلحة» المسؤولة حجةً مألوفة تروّج لها مؤسسات مثل المنتدى الاقتصادي العالمي، الجهة المنظمة لمؤتمر دافوس الاقتصادي. ويعترف المدافعون عن هذا الطرح ضمنياً بأنّ الشركات والمؤسسات المالية باتت لديها القدرة على تخطيط حياتنا، ويناشدونها استخدام هذه السلطة في خدمة الصالح العام.

ورأسمالية أصحاب المصلحة نوع من «النقد الذاتي» للرأسمالية يصدر عن الرأسماليين أنفسهم. وتظهر هذه الانتقادات غالباً حين تقع الرأسمالية في أزمة ولا وجود لتيار قوي قادر على تقديم بديل حقيقي. ويعتقد «الرأسماليون المسؤولون» حول العالم أنّ بإمكانهم تفادي مخاطر التنظيم الحكومي وإعادة توزيع الثروة والعمل النقابي إذا استطاعوا أن يُظهروا سجلاً منضبطاً في التنظيم الذاتي والتشاور مع أصحاب المصلحة وبذل العمل الخيري.

نجد أنفسنا في عالم تمكّنت فيه مؤسسات خاصة من الهيمنة على الأسواق والتحكّم بها، بل وعلى العمّال أيضاً، وصولاً إلى التلاعب بدول بأكملها. لا تعني الرأسمالية حرية الأسواق، بل تعني حُكم رأس المال

إنّ الفكرة القائلة إنّ بلاك روك وأمثالها تمثل مصالح «الرأسماليين المسؤولين» أتاحت للأحزاب السياسية والبنوك المركزية أن تنسج معها روابط قوية. فقد أقامت بلاك روك علاقات وثيقة مع الحكومات والمصرفيين المركزيين في شتى أنحاء العالم، حتى وُصِفَت بـ«الفرع الرابع للحكومة» على المستوى العالمي. والأمر لا يقتصر على حيازة شركات إدارة الأصول سلطة غير عادية على النظام المالي، بل إنّ شركات عملاقة مثل بلاك روك «تملك وتستخرج دخلاً من أشياء أساسية لحياتنا اليومية كالمدارس والجسور ومزارع الرياح والمساكن». وبالطبع، فإنّ السيطرة على هذه الأصول تُستخدم لتعظيم الأرباح. ويتطلب هذا منها «اعتصار» الأرباح اعتصاراً من ممتلكاتها - سواء عبر رفع الإيجارات على المستأجرين الضعفاء أو فرض رسوم على استخدام البنية التحتية العامة.

بدلاً من أسواق مالية كفوءة توزِّع الاستثمارات استناداً إلى أفضل المعلومات المتاحة، نجد اليوم عدداً قليلاً من الكيانات الضخمة تتصرّف بوصفها «المالك الدائم الجديد» لأكبر شركات العالم وللبُنى التحتية التي يعتمد عليها الجميع. وفي الواقع، يمكن رصد تمركز الرأسمالية العالمية تجريبياً. إذ بيّن مؤلفو إحدى الدراسات أنّ «ثلاثة أرباع أكبر 205 شركة في العالم من حيث حجم المبيعات ترتبط بشبكة شركة عالمية واحدة عبر روابط ملكية مركزة تبلغ 5%».

في مجتمع سوق حرّة بحق، ينبغي ألا يكون هناك وجود طاغٍ للسلطة الخاصة. ويُفترض بجميع المؤسسات الرأسمالية أن تخضع، بدرجات متفاوتة، للسطوة الكاسحة لآلية السوق. لكن نجد أنفسنا في عالم تمكّنت فيه مؤسسات خاصة من الهيمنة على الأسواق والتحكّم بها، بل وعلى العمّال أيضاً، وصولاً إلى التلاعب بدول بأكملها. لا تعني الرأسمالية حرية الأسواق، بل تعني حُكم رأس المال.

هذا المقال هو نسخة مختصرة من الفصل الخامس من كتاب «رأسمالية النسور: كيف تنجو في عصر الجشع المؤسسي» للكاتبة غريس بليكلي، وقد نُشِر في 16 حزيران/يونيو 2025 في LSE Review of Books بموافقة من الكاتبة.

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.